ساكي - بيضة السمّانى.. قصة قصيرة - تر: مي المدلل

-1-
– ” المستقبل القريب ليس مشجعاً بالنسبة لنا نحن التجار الصغار” قال السيد سكاريك موجهاً حديثه الى فنان يقف مع اخته على عتبة باب بقاليته في احدى ضواحي المدينة.
– ” هذه المؤسسات التجارية الكبيرة تعرض كل ما من شأنه جذب المتسوقين اليها على خلافنا نحن حيث ليس باستطاعتنا توفير ذلك، يمكنك ان ترى الاعلانات في كل مكان حتى في المكتبات والمسارح واماكن اخرى لا يعلم بها الاّ الرب، الناس اصبحوا لا يهتمون بشراء السكر ما لم يكونوا يستمعون الى هاري لودر او يعرفون نتائج مباراة لعبة الكريكيت في استراليا ورغم وجود كل هذا الخزين من البضائع لفترة اعياد الميلاد يجب علينا ان نحتفظ بنصف الموجود لدينا كأحتياطي لايام الكساد، انه مخزون جيد فقط لو انني استطيع بيعه خلال الاسابيع القادمة ولكني اعرف ان لا فرصة لدي في ذلك خصوصاً ان خط السكة الحديد الى لندن سيغلق لمدة اسبوعين على الاقل قبل اعياد الميلاد جراء الثلوج المتراكمة، لدي في نفس الوقت فكرة جيدة لكسب بعض المال وهي توظيف الانسة لوفكومب لاعطاء دروس موسيقية في المحل خلال فترة المساء، لقد حققت الانسة لوفكومب نجاحاً كبيراً في مكتب البريد عندما عزفت مقطوعة (تحول بيترايس الصغير) “.
– ” لا استطيع تخيل اي شيء يمكنك ان تقوم به لجعل محلك هذا انيقاًَ وعلى احدث طراز” يتحدث الفنان بنبرة يملؤها الصدق، ” لو سألوني ان اختار بين مربى البرقوق ومربى التين كحلوى لفصل الشتاء لشعرت بالغضب لان عقلي يحتار ويرتبك، انها بالنسبة لي كالاختيار بين ان اكون ملاكاً او عضواً في فرقة الكشافة، ان الرغبة في الحصول على شيء معروض لمجرد الحصول عليه هو شغف عند المرأة المتسوقة ومن هنا جاء السؤال: ما العيب في اللجوء الى موهبة جديدة يمكن ان تنشط الرغبة الشرائية ليس عند المرأة فقط بل تتعداها الى الرجل ايضاً او في الحقيقة عند البشر بصورة عامة؟ ”
– ” وما هي هذه الموهبة ايها السيد؟ ” تساءل البقال
السيدة غريس والانسة فريتن لم يلحقوا بقطار 2.18 دقيقة المتوجه الى المدينة ولم يكن هناك قطار ثان الاّ عند الساعة 3.12 دقيقة، فكروا ان ربما يمكن تقضية الوقت في التسوق من بقالية السيد سكاريك، اتفقت السيدتان ان الامر لم يكن ضرورياً ولكنه في النهاية يرضي رغبتهما في الشراء.
لبعض الوقت ظنت السيدتان ان المحل برمته ملك لهما حيث كان فارغاً وسرعان ما تدفق المتسوقون والزبائن الى المحل، كانت السيدتان تناقشان خفية وبصوت يكاد يكون كالهمس مزايا وعيوب نوعين جديدين من السمك المعلب، وفجأة وبانتظام شديد حساب 6 حبات رمان وعلبة من بيض السمّانى* كان يدفع من قبل شخص لم يكن معروفاً في ذلك الحي، كان في السادسة عشر من عمره ذو بشرة داكنة وعينان كبيرتان غامقتان، قصير القامة ذو شعر اسود مزرق من المحتمل ان يكون عارضاً للازياء وبالفعل كان كذلك، تقدم الى طاولة دفع الحساب ممسكاً بسلة المشتريات التي يمكن ان تكون الاكثر تنوعاً وغرابة في ذات الوقت بالنسبة للسكان المحليين لتلك الضاحية، رمى عملة نقدية ذهبية على الطاولة ثم استدار ليشق طريقه الى الباب غير مكترث باسترجاع بقية النقود.

-2-
– ” هذا ثمن النبيذ والتين الذي لم ادفع حقه البارحة، احتفظ بالباقي لعلني اشتري منك مجدداً في المستقبل ”
– ” شخص غريب الاطوار ، اليس كذلك؟ ” تحدثت السيدة غريس بلهجة استفهامية موجهة حديثها الى البقال.
– ” من الممكن ان يكون اجنبياً وهذا ما اظنه ” رد السيد سكاريك بصوت منخفض بدا وكأنه تصرف غريب خارج عن عادته في التحدث والتواصل مع الناس.
– ” اريد رطلاً ونصف من افخر انواع القهوة لديك ” ، المتحدث بلهجة الآمر كان رجلاً طويلاً ذو لحية سوداء ملفتة للنظر ومظهر آشوري انيق لا يدل على كونه يعيش في احدى ضواحي لندن.
– ” هل جاء اليكم شاب ذو بشرة سوداء ليشتري الرمان؟ ” تساءل الرجل فجأة بينما كان صاحب البقالية يزن القهوة له.
قفزت السيدتان فزعاً عندما سمعتا السؤال الموجه للبقال وانتظرتا بلهف الجواب.
– ” لدينا بعض الرمان ولكن لم يأت طلب عليه منذ فترة ” اجابه البقال
– ” خادمي سيجلب القهوة كالعادة ” تحدث الزبون وهو يخرج العملة النقدية من محفظته المعدنية ذات النقوش البارزة، وبعد تفكير قصير قال:
– ” هل يصدَف ان يكون لديك بعض من بيض السمّانى؟ ”
– ” كلا ” اجاب البقال بدون تردد ” نحن لا نبيعها ”
– ” ماذا سينكر ايضاَ ” تساءلت السيدة غريس في داخلها
قلب ياقة معطفه الطويل المصنوعة من فراء الاستراخان واندفع الرجل الغريب بخفة مع الهواء
– ” لن نزعج انفسنا ونهتم بقطار 3.12 دقيقة لنذهب الى بيت لورا ليبينغ ونتحدث بما رأيناه اليوم ، سيكون يوماً رائعاً بالنسبة لها ”
عندما دخل الصبي ذو البشرة السوداء الى المحل في اليوم التالي حاملاً سلته كان تجمع الزبائن هناك لا بأس به اغلبهم بدوا وكأنهم يدورون بشكل سريع مع الهواء لاكمال تسوقهم بسبب ضيق الوقت لديهم، وبنبرة مسموعة في كل ارجاء المحل طلب الصبي رطلاً من العسل وعلبة من بيض السمّانى.
-3-
– ” المزيد من بيض السمّانى؟ ” قالت الانسة فريتن
– ” اعتقد انه يستعملها كنوع من المخدرات والرجل الملتحي الذي اتى بالامس هو محقق ” تحدثت السيدة غريس بذكاء
– ” لا اعتقد ذلك ” قالت لورا ليبينغ ” انا متأكدة انه شيء له علاقة بالعرش والملك البرتغالي ”
– ” او من الممكن ان يكون خدعة فارسية لمصلحة الشاه السابق ” قالت الانسة فريتن ” وان الرجل الملتحي يعمل في الحزب الحاكم وان بيض السمّانى هو كلمة السر، بالطبع ان بلاد فارس تقريباً تجاور فلسطين وبيض السمّانى يشير الى العهد القديم، كما تعلمون ”
– ” فقط لو انها كانت معجزة ” قالت اختها الصغرى المتعلمة ” كنت افكر طويلاً بهذا الموضوع واعتقد انه جزء من علاقة غرامية سرية وغير شرعية ”
الفتى وعندما كانت انظار الجميع تستهدفه كان على وشك المغادرة مع اغراضه حين هاجمه جيمي ابن اخت السيد سكاريك الذي يشرف مكانه على زاوية جيدة للشارع حيث يعمل على طاولة الجبنة واللحم المقدد.
– ” لدينا برتقال طازج من يافا ” قالها العامل بسرعة وهو يؤشر بيده الى مكان تخزينها خلف كومة كبيرة من علب البسكت وكأنه ابن مقرض* يهاجم بعنف مخبأ مليئاً بالارانب بعد يوم طويل من البحث المضني غير المثمر.
تقريباً وفي نفس الوقت انسّل الرجل الملتحي الى داخل المحل وبسرعة كبيرة طلب رطلاً من التمر ونوعاً غريباً من البقوليات لم يكن معروفاً لدى اغلب سكان تلك الضاحية ولكن السيد سكاريك كان قادراً على توفير افضل نوع من تلك البقوليات وبدون اي تردد.
– ” من المحتمل اننا نعيش في ليال عربية هذه الايام ” قالت الانسة فريتن بسعادة
– ” اسكتي واسمعي ” توسلت اليها السيدة غريس
– ” هل جاء الصبي ذو البشرة السوداء والذي حدثتك عنه بالامس الى محلك اليوم؟” سأل الرجل الغريب
– ” لقد جاءنا اليوم زبائن اكثر من المعتاد ولكني لا استطيع تذكر الصبي الذي تصفه ” اجاب السيد سكاريك
تلفتت السيدة غريس والانسة فريتن حولهما موجهتان انظارهما بفخر الى اصدقائهما الموجودين في المحل.
-4-
– ” لن يكون باستطاعتي تصديق ما يقوله لي عن عدم وجود لون في المربى ” همست السيدة غريس
غادر الرجل الغريب وقد رأت لورا ليبينغ بوضوح ملامح ثورة غضب ونوبة حيرة ترتسمان على وجهه تختبئان خلف شاربه الغليظ وياقته الفرائية المقلوبة.
بعد دقائق حذرة قليلة ظهر الباحث عن البرتقال من خلف كومة علب البسكت واثار الفشل واضحة عليه حيث عجز عن ايجاد برتقالة واحدة ترضيه، غادر هو ايضاً وبدا المحل فارغاً من قسم كبير من المتسوقين مروجي الاشاعات.
كان يوماً عظيماً بالنسبة لايميلي يورلنغ لان معظم المتبضعين شقوا طريقهم لزيارة معرض لوحاتها الذي تقيمه، ان التوجه مباشرة من جولة تسوق الى حفلة شاي كان يعرف محلياً بـ(العيش في دوامة)، كان هناك مساعدان اضافيان مشغولان ايضاً بالترتيب للامسية القادمة، المحل كان مكتظاً والناس كانوا يشترون ويشترون ولا نهاية لطلباتهم والسيد سكاريك لم يصادف مثل هذه الزحمة منذ ان بدأ العمل في محل البقالة، الامسية استمرت وشاع جو من البهجة العارمة كل الموجودين عندما دخل الصبي ذو العينان الكبيرتان الغامقتان حاملاً سلته الى المحل، البهجة على ما يبدو انتقلت الى السيد سكاريك لدرجة انه ترك الحديث الممل مع سيدة كانت تحاوره عن كيفية التعامل مع البط الهندي وتوجه الى الصبي ليعترض طريقه ويعلمه وسط سكون المتسوقين الشبيه بسكون الموت انه قد نفد منه بيض السمّانى.
نظر الصبي بعصبية واضحة في ارجاء المحل واستدار بتردد يهم بالخروج، اعترض طريقه مرة ثانية ولكن هذه المرة من قبل جيمي ابن اخت السيد سكاريك حيث اندفع مسرعاً كالسهم من خلف طاولته، كان يريد ان يحدثه عن نوعية جديدة من البرتقال معروضة في الزاوية.
تبدد تردد الصبي ومشي مسرعاً نحو زاوية البرتقال المظلمة وهنا تحولت انظار الناس الى الباب حيث دخل الرجل الطويل الملتحي بطريقة مؤثرة جعلت عمة السيدة غريس تردد وبلا وعي:
– ” الاشوري دخل عبر الباب كذئب يريد الانقضاض على حظيرة الخراف ”
-5-
الداخل الجديد اوقف ايضاً قبل وصوله الى طاولة دفع الحساب ولكن هذه المرة ليس من قبل السيد سكاريك او مساعده ولكن من قبل سيدة ترتدي الحجاب بشكل كثيف لم يكن احد من الموجودين داخل البقالية يعرفها او قد رآها من قبل، قامت ببطئ شديد من مقعدها وحيّته بنبرة حادة واضحة
– ” فخامتك يتسوق بنفسه؟ ” سألته السيدة المتحجبة
– ” اطلب الاشياء بنفسي ” اجابها الرجل موضحاً ” وجدت الامر صعباً ان اجعل خادمي يفهم ما اريد ”
وبصوت منخفض ولكنه ما يزال مسموعاً لعطت المرأة المتحجبة معلومة عرضية للرجل
– ” لديهم برتقال من يافا، انه ممتاز ” وبضحكة رشيقة انهت حديثها مع الرجل ومضت متوجهة نحو باب المحل، حملق الرجل موجهاً انظاره الى ارجاء المحل ثم فجأة ثبّت عينيه بتركيز على حافة اكوام علب البسكت مطالباً البقال بصوت عال
– ” ربما يمكن ان يكون لديك بعض من برتقال يافا؟ ”
الكل توقع انكاراً سريعاً من جانب السيد سكاريك وقبل ان يجيب على السؤال كان الفتى ذو البشرة الداكنة متوجهاً نحو الشارع حاملاً سلته الفارغة وجهه يكاد يكون مغطى بلا مبالاة متعمدة مصحوباً بشحوب شبحي مروع وامتقاع في اللون مع وهج وتحد واضحان في عينيه، البعض قال ان اسنانه كانت تصطك في فمه والآخرون قالوا انه خرج الى الشارع وهو يردد النشيد الوطني الفارسي، الكل لاحظ ان سيماء الرجل المليئة بالسيطرة والحزم اختفت وخطواته الواسعة الثابتة تحولت الى خطوات هزيلة جيئة وذهاباً كحيوان محبوس يبحث عن مخرج، وبسلوك تعوزه الحماسة حوّل انظاره الى مدخل المحل، نظر للحظات بعشوائية محاولاً التظاهر بأنه يشتري ثم اسرع بالخروج وكأنه قد خرج من معركة حامية ولم يعد، لقد اندفع بقوة نحو الشارع حيث ابتلعته عتمة الليل، اي من الزبائن الذين توافدوا اياماً وايام بعد الحادثة الى المحل، لم ير احد منهم لا الرجل الملتحي ولا الفتى الاسود ولا السيدة المتحجبة.
-6-
– ” لا استطيع ان اشكرك كفاية لا انت ولا اختك ” قال البقال
– ” لقد استمتعنا كثيراً ” رد الفنان بتواضع ” اما بالنسبة لعارض الازياء فكان شيئاً جديداً له وتغييراً نافعاً بدل وقوفه لساعات وهو يتوضع كعلجوم الشجر* ”
– ” على اية حال ” قال البقال ” انا اصّر على دفع اجرة توظيف الرجل الملتحي “.

* السمّانى: نوع من انواع الطيور.
* ابن مقرض: حيوان شبيه بابن عرس يستخدم لصيد القوارض.
* علجوم الشجر: علجوم صغير يسكن الاشجار.



* عن الناقد العراقي
ساكي: بيضة السمّانى..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى