هشام آدم - لانجي .. سليلة الكاكاو، بائعة المريسة

لانجي سليلة الكاكاو الطازج، ذات العشرين ربيعاً. رقيقةٌ وقاسيةٌ كالأحجار الطينيةِ المنثورةِ على سفوحِ جبلِ يايي
- 1 -
. ما زالت خطوط الاستواء مرسومة على جبينها الذي زخرفته لها أمها - المقعدة الآن - بخطوطِ اليارُومبا
- 2 -
، بإبرة التايونج
- 3 -
، مذ كان عمرها ستة أشهر. كانت في حقول المانجو، والبن المزاجي بلون ملامحها الدافئة، تفرش أوراق الخيزران الرطبة، وتسْحلُ أطرافه بحجارةٍ صوَّانيةٍ ناعمة، عندما مرّ قطيع البقر الوحشي الأبيض بخطواتها المتهدلة، كمِشيَةِ أحدنا في البحر. يقودها "بابويل تنقارو" - الذين يناديه أهل القرية بـ(بابو) – واضعاً عصاهُ خلفَ رقبته، سادلاً يديّه الاثنتين على أطرافهما، حافي القدمين، عارياً إلاّ من بنطال التيل. تبادلا التحايا، وبعض المُناغشاتِ السريعة، وهما يتفقان على المقابلة في ساحة القرية بعد غروب الشّمس. كانت الشمس – في الغروب - ككرة هائلة تحترق مختبِئة خلف نهاية المدى البصرِي. حين استعاض أهل القرية بمشاعل نارِيةٍ وضعوها على شكل دائرةٍ كبيرة. ظِلُ هذه المشاعل، كانت تسقط على أجسادهم العاريةِ لترسم تكعيبةَ الظِلِ والإضاءة على الصدور، والجباهِ، والنحور. وَدَقّ "سُورمَانتُو" رقصة البَالِمْبُو. وما هي إِلاّ إِغمَاءَةٌ لبعض المشاعلِ تحت إِيحاءِ النسائم الليلية، حتى تعالت الأصوات النسائية لتلتف كشجرة لبلابٍ عجوز بأصواتِ الخلاخل، وأصوات الرِجالِ بدقات الطبول، وتصفيقُ الأطفالِ بركلاتِ الأقدام على الأرض. وينتشر لون الغبار، لوناً إضافياً جديدَاً إلى التكعيبة.


في هذه الرقصة – البَالِمبُو – يجتهِد الراقصون في الحركة، حتى تعرق أجسامهم العارية. وتتمُ إضافة البُعْد الجديد "بُعْد الرائحة"، فتتساقط الروائحُ كأوراق شجرةِ النيم: رائحة البقر الوحشي، ورائحة البنِّ المحروق، ورائحة الكُوِيِل، والسَّاويِك، والتِّنْدَالُو
- 4 -
. كأنهم يريدونَ أَن يغتسلوا من جهدهم النهاري المضنِي في رقصةٍ واحدة. رقصةٌ ثلاثية الأبعاد:صوتٌ ورائحةٌ ولون!


لانجي، التي تبيع الحصائر في سوق القرية الصغير، كانت تحلم بأَن تزور الخرطوم، أَو أَن تعيش فيها لأسبوعٍ واحد. وكان ذلك هو حلم فتياتِ القريةِ أيضاً، إلا أَنَّ عواجيز القرية الشُمَطَاء – وهنَّ يمضغنّ النَجْالِيَتْ
- 5 -
– يحكينَ لهنَّ عن الخرطوم، وعن شوارعها الإسفلتية التي تدمي الأقدام. وعن سكانها العربِ الذين يحملونَ في صدورهم – إضافةً إلى النيكوتين – حقداً على أبناءِ الخطوط الاستوائية. وكُنَّ يعطينهنّ دروساً لتعابيرِ الوجوه العربية العديدة، والتي لا تعرف وجوههنَّ غير اثنتينِ منهما، أَو ثلاثةٍ على الأكثر: الابتسامةُ والبكاء. فهُم – أبناءُ الخطوط الاستوائية - يبتسمونَ دائماً: صباحَاً عندما يستيقظونَ، وعندما يتقابلون عند النهر، وعندما يرقصون البَالِمْبُو، وعندما تضعُ بقرةٌ وحشية مولدها. ولا يبكونَ إلاّ لفراقِ موتاهم، أو تنْفَقُ بقرة! لم تكن وجوههم مدرّبةً على وظيفةٍ أخرى غيرَ ذلك. ولكنَّ هذا الحلم كبُرَ مع لانجي؛ ليلاً عندما تُؤرِّقهَا أصواتُ الجنادب، ونهاراً عندما ترى سرباً من السَّنَابِر المسافرةِ ناحيةَ الشمال. كانتْ لانجي صديقة مقربةً من آنجِلِينا ابنة رئيسِ القبِيلة، بل إنّ آنجلينا كانت تعتبرها وصيفتها. في قرية تُرْويتْ – إحدى القرى التابعة لمدينة رَمْبِيك - لا تفرّق بين رئيس القبيلة وأيّ فرد آخر فيها إلاّ بعدد ما يلبس من قطع؛ فكلما زادت عرِفتَ أنه ذو مكانة في هذه القرية. ولذا فإنّ آنجلينا كانت تغدق على لانجي بقطع القماش، والحُلي المصنوعة من قرون البقر. وكانت لانجي تحفظ الودَ لها ولأشجار الموز المنتشرة في كل مكان، فتزورها كل يوم مرتين، فمرة وهي في طريقها إلى النهر، ومرة وهي تعبر حقول الموز إلى سوق القرية الصغير.


كانت لانجي عصفورة داكنة السحنة "الرِّيش" قبل أن تزحف الحرب إلى قريتها، كما تزحف الغيوم المراهقة على جسد سماءٍ بتول ِي خريفٍ لا يعرف معنىً لعفّة اليابسة. وقبل أن تستبدل أشجار الموز بالجنود، وأصوات الجنادب بطلقات الرصاص، ورائحة البنِّ برائحة البارود. لانجي التي كانت صوت طبول سُورمَانتُو أَصخبَ ما سمعتْ في حياتها؛ سكنتْ في أذنيها أصوات الجِيم ثري، والبازوكا وجنازير الدبابات، وأصوات الجنود وهي تتعالى - في سماءٍ كانت مِلْكاً حصرياً لأصوات اللقلق، وأبو الحناء - عبر مكبرات الصوت: "إِعلان حالة حرب. أَخلو القرية. الآن! أمامكم ساعتين فقط." تنشغل لانجي في كل ذلك بإيجاد طريقةٍ ما لتحمل أمها العجوز المقعدة، فلم تجد أمامها إلاّ أنْ تحملها على ظهرِها. بعد أنْ علّقَتْ على ساعدها كيساً قماشياً وضعت فيه بعض ما لا يستطيعون تركه. كانت الطريق وعرةً، والناس يتساقطون كفراشات الضوء العمياء، ولكن لا أَحد يتوقف أبداً، فقد بدأت أصوات الصواريخِ تسمع من مكانٍ قريب. ساعتان تمضيان ثقيلاً؛ وكأنما تشبث الوقت بحائط اللحظة، كطفل عنيد يتشبث بثوبِ أمِّه. وفي مكان ما سقطت لانجي منهكة، لتسقطَ فوقها أُمُها، التي تمزقتْ إلى نصفين، نِصف يشفق على ابنتِها، ويريدها أَنْ ترتاح، وقبل كل هذا وذاك، أَن يطمئن عليها. فكانت تضع كفها على الجانب الأيمن من رقبتها للتأكد من سريان النبض. والنصف الآخر، يتوسل إليها بأن تنهض وأن تواصل المسير. تمنت رَابِيَكَا تلك اللحظة، أن لو كانت بكاملِ عافيتها، إذاً لحملت لانجي بين ذراعيها، وَعَدَتْ بها، تشقُّ حقولَ القصبِ، والمانجو. أو على الأقل، لم تكن لتحمّل غيرها عناء حملها هكذا كخرقة لا حول لها ولا قوة. ولكن لانجي لم تكن قادرةً على مواصلة السير. كانت لانجي ورَابِيَكَا شاهدتا عيان على مقتل أشجار الموزِ بنيران الجِيم ثري، وحرائق حقول القصب. وفيما بدأ الناس يتساقطون الواحد تلو الآخر برصاصٍ كالمطر، يأتي من كل صوب، وتسيل الدماء جداول متثاقلة فوق الأرض الطينية لتروي حشائش البَنقو واليَانكي
- 6 -
. توقفتْ جميع الأصوات ما خالا صوت غرابين كانا واقفين أعلى شجرة بلّوط. وبدأ الدخان – ليس الرمادي بل الأحمرُ – ينتشر في المكان بهدوءٍ مخيف. شعرتْ لانجي بسكون أمها التي لم تكن تكفُّ عن الحركة؛ طالما كانت فوقها، فنادتها بصوتها المشبّع بالدخان الأحمر. ولكن أُمها لم تكن ترد عليها. وفجأة تحس لانجي بِميوعةٍ فاترة تسيل على رقبتِها. مدت يدها حملت من السائل – في كفها – ما يقنعها بما لم تكن لتصدقه. نعم! إنه دمٌ أحمر، كذلك الذي يسيل على مهل في كل مكان. نعم! إنه دمٌ يحمل مذاق الحليب، ورائحة العرق. نعم! إنه دم أمها. أرادت لانجي أن تنهض، ولكنها كانت مصابةً في كاحلها، وأثقلتها جثّة أمها النائمة فوقها، فآثرتْ أنْ تدس رأسها بين كفيها المقلوبتين، وتتيه في ملكوت البكاء المقدس. وتغيب - في حضرة الحزن - عن العالم الدخانيِّ الصامت. عيناها شرفتانِ ما زالتا مفتوحتين على جسد منهك. مفتوحتان، ولكن لا تمارِسان الرؤية، بل البكاء. والبكاء فقط ما كان يغسِل في عينيها ضباب الغبار الأحمر. بعد ساعةٍ أو ساعتين، تستفيق لانجي لتجد أشخاصاً يركلون الجثث بأقدامهم - برفق - إنما كانوا يبحثون عن أحياء في بركة الدم والبنقو. فصرخت بصوتها الركيك. ومدت يدها المبلولة بدم مَنْ تحبْ. فحملها الرجال وذهبوا بها معهم.


لم تعلم لانجي كم من الوقت استغرقت كي تفيق بهذا الشكل، وأنْ تشهد بعينيها ما تراه أمامها فعلاً، صافياً غير مشوبٍ بالغبار الدموي. عندها وجدت – من بين الصور الواضحة – صورةً لشابٍ ينظر إليها مبتسماً وهو يقول: "لقد أنجاكِ الرَبّ. أنتِ حيّة، وفي مأمنٍ الآن." عندها فقط علمتْ أنّها لو لم تحمل أمها على ظهرِها لكانت الرصاصة من نصيبها، فابتسمت شاكرة. وظنَّ الشاب أنها تبتسم له. وحمّسهُ ذلك أن يناولها فنجاناً من الشَّاي الدافئ. نهضت لانجي كأنها تختبِر أطرافها. وتناولت الكأس وهي تسأل:

* من أنتم .. وإلى أين نحن متجهون؟

* اسمي (مَالوَال)، دِينكَا
- 7 -
. نحن نحاول الذهاب إلى الخرطوم.

ما أن سمعت لانجي بكلمةِ "الخرطوم" حتى اشتمّت رائحة قديمة كانت قد اعتادت عليها. نعم! إنها رائحة ذلك الحلم القديم، الذي لا طالما حدّثتْ به أشجار الموز، وأسرابَ السَّنَابِرِ قُبيلَ المغيب. كانت لانجي تعلم أنَّ الوصول إلى الخرطوم، لن يكون بِسهولِ رائحة الحلم. إنّ بينهم وبينَ الخرطوم أميال وأميال. ولكن . . ولما لا. ربما أراد الرَبُّ لها النجاة لكي تحقق هذا الحلم. وربما كانت الحرب خدعةً من الربِّ، ليجعلها تنزع عنها ثوب قريتها الطيني، استعداداً للدخول في عالم الإسفلتِ والحصى الحقيقية، وليستِ الطينيةِ هذه المرّة. عندها شعرت لانجي بامتنان عظيمِ للربّ، وأحست بأنَها يجب أن تُقابلَ هذا المعروف بمزيد من الحماسة. لذا فقد أخذت ترشف الشاي بسرعة، وكأنها تريد أن تسترِد عافيتها مع آخر رشفة لهذا الشَّاي منزوعِ السُكّر! وفي طرِيقها إلى الخرطوم، رأت لانجي ما لم تره طيلة حياتها من قبل. أناس آخرون محتشمون، كانت تقف أمام كل واحد منهم وقفة إجلال، كما كانت تقف أمام رئيس قبيلتها. بل وأكثر، فهؤلاء عليهم ملابس أكثر من تلك التي كان يرتديها رئيس القبيلة. كانت لانجي في ذلك تشعر بأنها أقل من كل من تراهم، فقط لأنها الأقل ثياباً، وهذه عادة قبيلتها. رأت لانجي الخيول لأول مرة، والمراكب لأول مرة، والسيارات لأول مرة. كانت لانجي مندهشة طوال الرِحلة، غير آبهة بما تلاقيه، ويلاقيه من معها من تعب. كانت – عندما يتوقفون عن السير – تقف بِمنأى عنهم تراقب أطفال القرى البعيدة وهم يلعبون بالطائرات الورقية. أو تختلس النظر إلى الصيادين وهم يمسكون بِعصي أشبه بتلك الخيزرانات التي كانت تسحلها، ويقذفون بما تعلّق في أطرافها من خيط إلى النهر. وتندهش، وهم ينظرون إلى بقعة ما في النهر، وهم ينتظرون في هدوء. لم تكن لانجي تعلم سر هذا الهدوء، وهذا الانتظار، حتى وقف أحدهم وهو يشد العصا إلى ناحيته، ساحباً ذلك الخيط لتكتشف أن سمكة ما قد علقت بطرفه. وكانت تلك هي المرّة الأولى التي ترى فيها لانجي أناساً يصطادون سمكاً بهذه الطريقة. كانت لانجي ومن معها يقتنصون الفرصة التي تسنح لهم، ليستقلوا أيَّ شيءٍ، ولو لمسافةٍ قصيرة كي يريحوا أقدامهم من المشي.


وبعد مسيرة أسبوعين من المشي المتواصلِ وجدت لانجي ومن معها أنهم قد اجتازوا الدُّويِمْ ولم يتبقى لهم ليصلوا الخرطوم إلاّ القليل. كانت عينا لانجي ينطلق منهما بريق غريب. فهي كلّما نظرت شمالاً شعرت بأن ثمة ريحاً قويةً تشدّ جسمها شداً، ولكنها كانت توثق نفسها إلى الأرضِ كلّما تذكرت جثة أمها التي ما زالت تحس بها على ظهرِها. "مَالوَال" - أكثرهم خبرة بالطريقِ -، أخبرهم بأنهم لن يتمكنوا من مواصلة السير على أقدامهم. وأن عليهم أن يجدوا طريقة ليدخلوا بها الخرطوم غير مرتجلين. فانتبذت لانجي مكاناً غير قصيّ، بينما راح الآخرون يتناقشون في الطريقة التي يمكنهم بها أن يواصلوا مشوارهم. كانت أصواتهم تمر على أذني لانجي وكأنها صرخات أرواح خيّرة قادمة من مكان بعيد، بينما تعلقت عيناها بنجم ناحية الشمال. كانت لانجي تهمس بعينيها لآنجِلِينا صديقتها العزِيزة وهي تقول: "ها أنا يا آنجِِلِينا على مشارف الخرطوم. هل تصدقين ذلك؟ حتى أنا أكاد لا أصدق. ليتك كنت معي. ترى أين أنت الآن؟" وتغمض عينيها برفق وكأنها تحاول أن تصغي سمعها إلى هفهفاتِ الريحِ الناعمة؛ علّها تسمع صوت آنجِِلِينا في مكان ما. وفجأة! أفاقت لانجي على صوت مَالوَال ينادي عليها. لقد اتفقوا على أن يتفرقوا إلى ثلاث جماعات، وأن تحاول كل جماعة أن تصل الخرطوم بطريقتها. لكن لانجي رفضت الانضمام إلى أيّ من الجماعات الثلاث. ورغم إصرار الجميع، وغضب مَالوَال إلا أنّ لانجي كانت تعلم تماماً ماذا سوف تفعل. فانصرفت عنهم حتى غابت عن أنظارهم. بدأت لانجي بالبحث عن الطريق الإسفلتية المؤدية إلى الخرطوم، حتى وجدته بعد عناء. فجلست القرفصاء على حافة الطريق. وعندما مرت حافلة بالطريق، اعترضتها وتوسلت إلى السائق بأن يقلَّها معه إلى مشارف الخرطوم. ورغم رفض السائق، إلاّ أنَّ بعض الرُّكاب أقنعوه بأن يفعل، شريطةَ أن تجلس على سلالم الباب، فقبلت بذلك. وما هي إلاّ ساعات وكانت لانجي في قلب (السوق الشعبي – أم درمان). ترجّلت لانجي لتجدَ أفواجاً من العابرين، والباعة المتجولين. الكلام – كشجرةِ الموز – في كل مكان. وأصواتٌ أُخرى صاخبة لم تعرِف ماهيتها. سارتْ لانجي في تلك الضجة حافيةً، لا يؤلمها وخز الحصوات الصغيرة على الأرض. فقد كانت مشدوهة بما تراه حولها. فلأول مرة ترى لانجي بيوتاً من الطوب والحجارة. ولأول مرة ترى أن كل من حولها يرتدي كامل ملابسه. فتوقفت لبرهة وهي تفكر: كيف لها أن تقف لكل واحد من هؤلاء لتفيه حقه من التبجيل والاحترام. ولكنها سرعان ما تحركت عندما لكزها رجل يحمل سريراً حديدياً: "هوووي .. ما تقيفي لينا في نص الشارع. زحّي كده ولاّ كده." بدأت لانجي تحدث نفسها : "ها أنتِ أخيراً في الخرطوم!" كانت لانجي تفتش عن تلكَ السعادة التي كانتْ تتوقعها بمجرد أن ترى الخرطوم؛ فلم تجدها. ولكنّها قالتْ لنفسها: "ربما بعد أنْ أفيق من هول الصدمة. إنّ السعادة هنا، في مكان ما داخل هذه المسام. إني أشعر بها تخرج خجلى مع هذا العرق." لم تكن لانجي تعرف أين تذهب، فأخذت تمشي على غيرِ هدى مشدوهةً بكلِ ما تراه. لانجي وصيفة بنت رئيس القبيلة، التي كانت تقابل بالاحترام من الجميع في قريتها، رأتْ في وجوهِ العاصميين نظرات الازدراء والاشمئزاز؛ فتذكرت ما كانت عواجيز القرية يحكينه لها عن "أولاد العرب" الأقل منها سمرة. وبدأت تقرأ الوجوه التي تراها، واكتشفت أن ثمّة عضلات في وجهها لم تتحرك بعد!


هاهي الخرطوم يا لانجي تتقاذفك شوارعها في كل اتجاه. وتشعرين بالوحدةِ الموحشة؛ كما لم تشعري من قبل. ليلها الطويل ليس كليل تُرويَّت الذي كان يربّت على كتفيك عندما تشعرين بالحزن. إنه ليلٌ آخرٌ ليس له ملامح، بائس السحنة. والأيام هنا تمر عليك يا لانجي ثقيلة، ربما أثقل من وقْع الوَايُونْقِ
- 8 -
على حبوبِ القمح. الخرطوم التي حلمت بها، تنام داخل كل المساحات الضيّقة. هناك في آخرِ الرواق المظلم، تتراقص أشباح الليل عاريةً، تمدُّ ألسنتها نحوك في سخرية. ترسل إليك شحّاذين الرجفة معلّبةً في صناديقٍ صغيرةٍ وباردة. تنامين الآن على الأرضِ الإسفلتية، وتنقطع أصوات الجنادب ليحل محلها نبح الكلابِ، وصافرات العساكرِ الليليون. تشتاقين لصوت همهمات أمك التي كانت تغني في الليل قبل أن تنام. الآن تسمعين صوت غناء الجوعِ، وكورال طقطقة الأسنان برداً. جلدك الذي كانت تسقط عليه أضواء المشاعلِ في تكعيبة البَالِمْبُو، أصبح ملطخاً بزيوت الشاحنات، ووسخِ الطريق. هاهي الخرطوم يا لانجي: شمس، وكلاب، ورجل يتبّولُ على قارعة الطريق. ها أنت – كالقطط الضَّالةِ – تبحثين في الخرائب عن منزل لك، وبين النفايات عن أثاث! زوّاركِ الليليون يطمعون في كأس من النبيذ الذي لا يجيد صنعه غيرك. أنت هنا فقط بائعة المريسة
- 9 -
التي لا يحفل لها أحد إلاّ ليلاً . تتحمّلين أياديهم الطويلة التي تمتد إلى جسدكِ الطاهرِ عندما يثملون. يأخذون عرقكِ المكثّفَ في هيئةِ أوراقٍ مالية. وفي الصباح، تُسفِر أَوِيِلْ
- 10 -
عن وجهها القبيحِ لبيوتٍ نصف خربة بلا أسوار، و لا أبواب. بيوتٍ مُشاعة لنظرات الفضوليين نهاراً، ولأقدامِ السُّكَارى المترنّحةِ ليلاً. كيفَ أصبحت منْ وصيفةِ لها ذلك الشأن والمكانة، إلى امرأةٍ ليس لها غير معنيين: الخمر ليلاً، وغاسلة الملابس نهاراً!! ألم يتساءل أولئك العساكر وهم يطرحونك أرضاً عند كل مُدَاهَمَةٍ كيف أنّهم يرتقون في مراتبهم على أكتاف من لم تنحن قط؟! ألم يتساءلوا يوماً عن سر خطوط اليَارُومْبَا التي فوق جبينك؟! ألم يتساءلوا عن سر رائحة الكاكاوِ التي تنضح منك عند كل ركلة؟


لانجي يا سليلة الكاكاو بالأمس ويا بائعة المريسةِ اليوم. هاهي الخرطوم، خمّارة كبيرة فقط، فلا تنسِ خطوط الاستواء من دعواتك التي لا تعرف المجاملةَ ولا الرياء. هاهي الخرطوم؛ كما لم تكن منْ قبل، نهارها مشحون بزمر العابرين في شرايينها العفنة. وليلها مشحون بآثارِ الخطواتِ المُتعرّجة أو المُترنّحة. عفواً يا لانجي كانَ يجدرُ بي أنْ أُخبركِ الحقيقة قبل أن تستمرئي الحلم أكثر!!!




الهوامش
[1] جبل ياي: جبل عظيم في جنوب السودان
[2] اليارومبا: نقاط أو خطوط يستخدمها سكان الجنوب السوداني كزينة في الوجوه أو الجباه.
[3] التايونج: إبرة خاصة تستخدم لزينة اليارومبا على الوجوه وعلى الجباه.
[4] الكويل، والساويك والتندالو: هي أسماء أكلات شعبية في جنوب السودان
[5] النالجيت: مفتّر كالقات وما شابه.
[6] اليانكي نبتة استوائية غير مثمرة.
[7] الدينكا : إحدى أشهر القبائل الجنوبية في السودان
[8] الوايونق: سحّانة بندق ومسكرات يدوية
[9] شراب مُسكر
[10] حي شعبي جداً فقير جداً يعج بالأخوة الجنوبيين ويشتهر ببيع المريسة والخمر. إنه أقرب ما يكون لحي (الباطنية) المصري.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى