ميسلون هادي - الهدايا العشر.. قصة قصيرة

البيت الذي دخل إليه الرجلان المبعوثان من المحكمة لم يختاراه بشكل مقصود، بل هو الذي اختارهما كونه أول بيت صادفهما، بعد أن أومض البرق بشدة إيذاناً بدوي الرعد فعجّلا في الدخول إلى ذلك البيت تحسباً من هطول المطر.
كانت مهمة المبعوثين تنحصر في اختيار أثر واحد من آثار جدهما الإنسان المدلل وتقديمه إلى المحكمة لتقليبه والتفكر فيه كدليل دامغ على الجريمة الشنيعة التي ارتكبها ذلك الإنسان بحق الأرض ويحاكم عليها الآن مع اقتراب نهاية الزمان، تلك الجريمة التي جعلت المحكمة نفسها لا تعقد إلاّ في محمية نائية ومعزولة تحيطها غابة من الأشجار الكثيفة وترتبط مع باقي الأمكنة المحيطة بها بخراطيم مبتكرة تعتمد على التحكم باندفاعات الهواء القادم من خارجها للانتقال من مكان إلى آخر داخل الخرطوم وذلك بسبب نفاد مصادر الوقود منذ زمن طويل، أما الإنسان المعمّر وهو الأخير ممن بقي في جيل المدللين فلا يخرج من تلك المحمية أبداً ، بل عليه أن يبقى هناك داخل قفص الاتهام لحين انتهاء المحكمة.
ذلك البيت الذي قررا الدخول إليه وعدم البحث عن مكان آخر، كان، حسب ظنّهما، سيكفي لتقديم الأدلة المطلوبة على جريمة الإنسان المدلل، لأنهما مع ما تبقى من البشر يعرفون أن آثار الجريمة تلك موجودة في كل متجر وبيت وشارع ومطعم، بل في كل خطوة يخطوانها على سطح الأرض. وبحكم تخصصه فقد كان المبعوث الأول أكثر قدرةً من رفيقه على اختراق سيميائية الماضي القريب للجد والجدة وقراءة أيقونات ثقافته، التي كانت تسمى بالثقافة الاستهلاكية، مما جعله يتولى مهمة نقل وترجمة ما كان يراه ويقرؤه من ألغاز وشفرات وإشارات يعثرون عليها في البيت، ومن ثم التداول بشأنها مع رفيقه المبعوث الثاني.

رفع المبعوث الأول أثراً محدداً من آثار الإنسان وهو مجلة أسبوعية اسمها “الجمال والرفاهية” تحتوي على عدد هائل من الأوراق السميكة وتتصدرها صورة لماعة لإمرأة لطخت وجهها بالألوان، سأل الثاني:
– أكل هذه الأوراق المصنوعة من سليلوز الأشجار لكي يصبغون النساء ثم ينشرون صورهن؟ وهذه المرأة؟ هل ضربها أحد؟
ضحك المبعوث الثاني:
– لا يا سيدي، هذا هو ما يسمى بالمكياج في زمن الجد والجدة، وكل هذه الألوان التي تراها كانت تستعمل لتجميل النساء.
قال الثاني وهو يقرب وجهه من المجلة:
– المكياج؟طبعا اعرف هذه اللطخات. كنت امزح حسب. هذه المجلة كأنها تشبه كتاب الموتى لدى الفراعنه ولكن بدلاً من أن تقدم تعليمات التحنيط تقدم لنا تعليمات التجميل.
قلب المبعوث الأول غلاف المجلة وفتحها على صفحتين متقابلتين فظهرت صورة لامرأة أخرى ترتدي حلية فضية حول عنقها وتنتشر حولها قنانيَ للعطور، فقال الأول:
– هذه المرأة تعلن عن عطر معين، والإعلانات هي المفتاح المقدس الذي يستدير ويفتح الأبواب أمام كل البضائع حتى وصلت إلى الحفاظات التي تستعمل لأوساخ البشر، من الواضح أن الأموال كانت ترمى إلى النفايات كما لو كانت أوساخاً لا قيمة لها هي الأخرى.

قال الثاني:
– هذا الإنسان الذي دلل نفسه بهذه الطريقة يستحق أسوأ الصفات لما ارتكبه من جرائم لا تُعدّ ولا تُحصى. أكان ضرورياً أن يهدر كل هذا الورق والحبر الملون من أجل الإعلان عن قنينة عطر بحجم الإصبع؟
قال الأول:
– ثم يرميها بعد ذلك إلى النفايات كشيء لا قيمة له، مثل مليارات القناني والأوراق الملونة والعلب الفارغة التي لا معنى لصناعتها سوى الجنون المطبق.
ابتسم الثاني بألم وقال:
– أصبحنا نعثر على موارد الماء بشق الأنفس ولا نغتسل إلا مرة واحدة في الشهر، وهؤلاء الأجداد المجانين يحولون الحليب والعسل إلى رغوة للاستحمام. دعنا نرَ ماذا أيضاً؟
قلب الأول صفحة أخرى من صفحات المجلة، فرأى صوراً مختلفة لحلي ومجوهرات وعلب ملفوفة بأشرطة ملونة يبدو أنها باهضة الكلفة، وتلك الأشياء الجميلة تحيط بصورتين لامرأة ورجل، قال الأول:
– انظر ماذا كتب الإنسان في مقدمة هذه الورقة، إنه يقترح أفضل عشر هدايا تحلم بأن تحصل عليها المرأة وأفضل عشر هدايا يتمنى أن يتلقّاها الرجل.
قال الثاني:
-أعرف، إنهم كانوا يشكرون بعضهم البعض بتدمير الأرض.
قال الأول ضاحكاً:
– انظر ماذا كتبت رئيسة تحرير مجلة الموتى هذه: يبقى للهدايا مفعولاً سحرياً لرسم البسمة على الشفاه وزرع الدفء في القلوب.
قال الثاني:
– ها قد حرمونا من الدفء إلى الأبد وعدنا نقضي الشتاء البارد القارس بلا وقود نتدفأ بالسبات داخل غرفنا كما تفعل الحيوانات ، هه، شفاه وقلوب ولكن بلا عقول، وما هذه الهدايا العشر؟
قلب الأول الصفحة وقال:
– أولاً قنينة العطر التي رأيناها في الإعلان قبل صفحتين- ثم قلب الصفحة وأضاف- وثانياً علبة مكياج، أي أنها هذه الألوان التي قلت عنها إنها تشبه اللطخات، مكتوب عليها إنها لبشرة كبياض الثلج وخدود وردية وشفاه قرمزية. أما العينان فتشعان جنوناً تزينها الرموش الطويلة الملونة على طريقة العصر، عصر هوليود الاستعراضي.إما الهدية الثالثة فبطاقة سفر.
قال الثاني:
– وما حاجتهم إلى هذا الإعلان من أجل قطع تذكرة؟ هل كان من الضروري أن يقضوا أتفه مشاوير حياتهم بالطائرة لحين انتهينا إلى التحسر على رؤية طائرة واحدة في السماء؟
قلب الأول صفحة جديدة، وقال :
– وهذا قناع يجب أن يوضع مرتين في الأسبوع، هكذا تقول خبيرة التجميل نانا نوتي الإيطالية، وهذه هي الهدية الرابعة، علبة مستحضرات العناية بالبشرة، فيها حليب وتونك وجيل راغٍ ومصل مغذٍّ وكريم للنهار وكريم لليل وكريم محيط العينين بالإضافة إلى كريم الحماية من الشمس.
اقترب الثاني بوجهه من صورة المرأة التي تضع القناع ثم قال:
– أهكذا حولوا رحيق الأرض إلى دهونات وهمية لإزالة التجاعيد، وفي النهاية لا شباب يبقى ولا أحد مخلّد ولا حتى إلى مئة عام.
ابتسم الأول وهو يحاول أن يقرب الورقة إلى أنفه ليشمها، ثم قال ساخراً:
– هذا رأيك، فانظر إلى ما تقوله خبيرة التجميل دانيال هادي من بيروت، إنها تقسم البشرة إلى ثلاثة أنواع: جافة ودهنية ومختلطة، ولكل نوع يوجد مرهم خاص وقناع خاص وتونك خاص وواق خاص ومغذٍّ خاص ومرطب خاص.
– رويدك رويدك، يا لها من كاذبة، لا توجد إلا بشرة واحدة يكفيها كوب من الماء لكي تشرق. إبعد عني هذه القوارير الشيطانية وهذه الصور الباذخة، إنها تذكرني بما رأيناه أول مجيئنا من المحكمة إلى هذا المكان، الأشجار والورود قد اختفت وحلت محلها أطنان النفايات والأوساخ والقناني الفارغة، ولكن مهلاً يا صديقي، لم تخبرني ما هو القناع؟
ضحك الأول وقال:
– إنه القناع، تقول نانا نوتي إنه يوضع من أجل مزيد من السحر والجاذبية وللتخلص من الشوائب والأوساخ.
قال الثاني:
– شوائب وأوساخ؟ هم آخر من يتحدث عن ذلك؟
قلب المبعوث الأول صفحة جديدة ثم قال:
– وجدنا رجلاً…
قال الثاني:
– حمداً لله، ولكن ماذا يفعل؟ يبدو رجلاً مهماً، ولكن ما هذه الفرشاة الكبيرة؟ ولماذا ينام تحتها؟ هل يعدوه للدفن؟
ابتسم الأول وقال:
-إنه في جلسة تدليك وعناية في معهد تجميلي، وهذه هي الهدية الخامسة، ولكن من هو المهم برأيك في هذه الصورة؟ الرجل الذي في الوسط أم الرجلان اللذان يدلكانه على الجانبين؟
قال الثاني:
– أرأيت الحلة الفاخرة التي يرتديها الثلاثة؟ ونحن لا نرتدي غير هذه الملابس الواقية من تقلبات الطقس طوال الوقت.
قال الأول:
– تقول خبيرة التجميل الخاصة بهذه الهدية إن عدد الرجال الذين يقصدون المعهد أصبح معادلاً لعدد النساء، وهذا البخار الذي ينظف الوجه يأتي بعدة نكهات من البابونج واليانسون واللوز والبطيخ والخيار والفراولة والليمون والكيوي والياسمين.
انتفض الثاني:
– لا عجب أن عطر الفواكه قد اختفى وزال من الوجود ، هذا الإنسان كان عدو الأرض، بل عدو الأرض والسماء، سيدفع ثمن هذا باهظاً.
ضحك الأول وقال:
– بل نحن الذين دفعنا الثمن.
استمر الثاني:
– فرصك ضئيلة بالبراءة يا جدي المسكين.
مازحه الأول بصورة جديدة لكي يستفزه أكثر:
– وهذه النكهات من أجل أحمر الشفاه.
استعرت صيحات الثاني الغاضبة وقال:
– فرصك ضئيلة بالبراءة يا جدتي المسكينة.
قلب الأول صفحة أخرى وقال:
– انظر لهما يتمددان على الرمال، تحت الشمس على الشاطئ وهذه هي الهدية السادسة.
قال الثاني وهو يغمض عينيه:
– رحلة إلى جزر الكاريبي. هذا لا بأس به، لعله الشيء الحقيقي الوحيد في هذه المجلة، هذا جميل ولا بأس به، بحر ورمل وشمس، لا بأس لا بأس.
تمتماته الراضية عن تلك الهدية القريبة من الطبيعة قطعها الأول قائلاً:
– وهذه هي الهدية السابعة، آلة للتخلص من الزغب غير المرغوب به، إنها تقدم حلاً لكافة مشاكل الجسم، الأولى من نوعها كونها تضم ضوءاً ذكياً لنزع الشعر الذي يصعب رؤيته بضوء الغرفة.
لطم الثاني على وجهه وقال:
– يا إلهي، إذا كان لا يرى بضوء الغرفة فما حاجته إلى الضوء الذكي؟
قلب الأول الصفحة مبتسماً وكان يقضى مع تعليقات رفيقه وقتاً طيباً من المتعة قال:
– وهذه هي الهدية الثامنة، علب لتلوين الشعر، بتركيبة غنية من مستخلصات اللوز والعسل وزيت الزيتون.
قال الثاني متوعداً:
– هذا هو دليلنا الأقوى، إنه عمل تخريبي بكل المقاييس.
قال الأول يستفزه أكثر:
– إن فيه تركيبة أخرى لما بعد التلوين بفلتر للأشعة فوق البنفسجية توفر الحماية الإضافية للشعر من أشعة الشمس الضارة.
قال الثاني بشيء من التشفي:
– ها هم قد اختفوا خلف الشمس.
قال الأول:
– وهذه الهدية التاسعة، هي أيضاً نظارة شمسية للحماية من الشمس، يقول الإعلان المكتوب تحتها إنها موجودة في جميع المتاجر الرئيسية في دول الخليج العربي.
ضحك الثاني بسخرية شديدة وهز رأسه آسفاً ثم قال:
– وبالنظر إلى الحرائق التي اشتعلت في ذلك الزمان سنرى أن القتال كان يدور قريباً من تلك المتاجر من أجل النفط والنفط كان يدور في مكائن تضع تلك الترهات. يكفي ما رأينا من حقائب وأحذية وسلاسل ومعاجين ومناديل وصوابين وقوارير ومساحيق، إنها تصيبني بالدوار.
قال الأول:
– بقيت الهدية العاشرة، إنها حقيبة سفر.
صرخ الثاني بغضب:
– سفر مرة أخرى . مشاوير كثيرة، ومؤتمرات كثيرة، من أجل ماذا؟ من أجل أن يهدروا كل طاقة الأرض؟ ها هم قد ذهبوا وذهبت الأرض معهم، هيا أيها الإنسان المدلل، هيا أيها الجد والجدة، تكفي هذه المجلة وحدها لإدانتكما إلى أبد الآبدين، لا يمكن لأي شيء أن ينقذكما.
ضحك المبعوث الأول ثم قلب آخر صفحة في المجلة وقال:
– ما رأيك بهذه الصفحة الأخيرة؟ إنه دجال آخر يخبرهم بالحظ، بالأيام التي ستحدث فيها المسرات والأيام التي ستحدث فيها المشاكل وبالمواصفات التي يتمتع بها مواليد كل برج من الأبراج. كما ترى يبدو أنهم كانوا مجانين، أيمكن أن تشفع لهم حالتهم العقلية في البراءة؟
قال الثاني وهو ينهض من مكانه ويتوجه نحو الباب:
– هذا كان في زمانهم، أما الآن فقد انتهى عصر الجنون وأصبح هذا المرض شيئاً من الماضي، في النهاية ستكفي هذه النقاط العشر للإدانة. أكاد اعرف كيف سيكون شعور القاضي عندما يرى كل هذه الخزعبلات.
أغلق المبعوث الأول تلك المجلة ليضعها مع باقي الأدلة في مغلف كبير، ولكن المبعوث الثاني استوقفه بترفع وقال كمن يمزح:
– ولكن مهلاً، هلا قرأت لي صفات مواليد برج الميزان؟
فتح المبعوث الأول المجلة مرة أخرى وضحك ضحكة طويلة فقال الثاني وهو يلتفت اليه بانزعاج:
- من باب الفضول، لا أكثر.



* عن الناقد العراقي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى