حنون مجيد - أستئصال عقل.. قصة قصيرة

الى د. حسين سرمك حسين

بعض وفاء
آخر ما ظل عالقاً في ذهنه ،مستعصياً على الزوال ،رجل رث الهيأة ، يتنقل ، كما القرد ، بين حنايا شجرة ضخمة ، يقطع ،بمنجل حاد ، فروعها الغليظة ويرميها عصياً يتلاقفها بعض رجال . أما أولئك المصطفون أمام جدار مقابل فقد خفتت صرخاتهم وغامت صورهم حتى كادت تتحول الى شيء أشبه بالهلام .

* * *

في غرفته التي حل فيها أخيراً ، ما كان بمقدوره أن يرى شيئاً خارجها من خلال ثقب بحجم رأس مسمار نفذ من مكان ما في الباب ، غير كلب في حركة دائبة مربوط الى الجدار المقابل بسلسلة حديد .

كان الطريق الى غرفته هذه طويلاً ، عبر ممرات ضيقة في دورات ملتوية متتالية أنهكت جسده الجريح وأسقطته ثلاث مرات .

حسنٌ .. كان يقول دائماً. لقد مضت فترة اللعب على الجسد وما كانت تستنزفه عصي الشجرة الفرعاء ، وها هو منبوذ وحيد في غرفته وإن كانت ضيقة معزولة ، فان ضيفه الذي يحل عليه بعض الوقت من كل يوم عبر كوّة أعلى الجدار ، يداعب دخائله ويضفي على أيامه لوناً حيوياً ، ومعرفة بأن الأشياء مازالت قائمة ، وأن الشمس تشرق كل يوم ، وأن ما تحتها الآن هو عينه ما كان منذ الآف السنين .

كل يوم مع إطلالة ضيفه يشعر بأنه حي ، فيلتصق به أينما يحل سواء على أسفل الجدار أم أعلاه ، أم على أي نقطة تسمح بها كوّته العصماء .

كذلك كان أمره أولاً مع الكلب شريكه المعزول عنه في وحدته المتحركة قليلاً ، والمتطلع مثله لحريته . كلا .. كان الكلب أكثر تطلعاً مني ، ذلك أنني بدأت أعرف أن الأمر لم ينته معي ، وأنني سأساق الى لعبة أخرى هي لعبة الكف عن الذاكرة ، عندئذ حين يسود البياض تكون الحرية .

كان الجدار القائم والأجساد المتراصفة عليه تنتظر بهلع دورها في الحساب ، قد تهاوى في هذه الغرفة أكثر مما تهاوى في مكان آخر من الأمكنة العديدة التي أقتيد اليها .

كتم غضباً عاوده ، وتمنى قلماً وقرطاساً يدون عليه ما بدأ يغادر لونه ويدخل في البياض . فتش أرجاء الغرفة ، بل دقق النظر في الزوايا والأركان ،إمتدت أصابعه الى الجدران لعلها تلمس مسماراً دقيقاً خفي عن عينيه ، ثم عادت إلى الأسفل تبحث في نتف التراب الملقاة باهمال هنا وهناك . لا شيء مما يمكن أن يخط به حرفاً على الجدار أو يعلّم به عليه ولو كان عود ثقاب . أظفاره ؟ كلا .. لا يمكن لها أن تقوم بمهمة مثل هذه .. لو كانت أدواته بين يديه الآن إذاً لرسم الشجرة العملاقة وبين أغصانها الرجل القرد ، وعلى الجدار المقابل رجال بقلوب راجفة يتراصون بعضاً على بعض ، بل ويتهرب بعضهم عن دوره فيلوذ كالفأر خلف جاره الذي يليه .. كلا ، المحنة حين لا مندوحة منها ، فهي المحنة نفسها في أيما وقت ، وسمح للذي قبله أن يلوذ به وقدم نفسه للحساب .

* * *

تدريب كلب

إهتزت السلسلة على صفير بشري قريب ، بدأ يتكرر منذ أيام ويقترن بموعد الاقبال بوجبات الطعام ، وكانت أذنا الكلب قد توترتا أولاً ثم التصقتا بجمجمته وطفق ذيله يخفق برشاقة ، وجسده ينخفض نحو الأرض حتى حطت قدم عليه .

إن الثقب الذي لا يدري من نفذه على الباب ، كان من مستوى أدنى فلا يسمح الاّ برؤية المساحة التي يتحرك عليها الكلب ، وعدا ذلك فلا مجال لرؤية شيء آخر أكثر إرتفاعاً ، ولا سيما أعالي قامة الأنسان .

مع الصفير عينه ، وعقب وجبة طعام الكلب مباشرة ، جلجلت سلسلة الباب وصوّت المفتاح في القفل وانفرج الباب على يد إمتدت بوجبة الطعام .

تناول الرجل غداءه .. لقد مرّ يومه منذ الصباح دونما طعام ، وإنه ليعترف بأنه أنجز المهمة بشهية تعارضت هذه المرة مع شهيته إلى طعام تشكو منه معدة غير متحركة .

لقد تجاوز إمتحان الجسد ، وها هو في امتحان النفس ، ولكن لماذا الكلب بسلسلته التي ما تنفكّ تصلصل وهريره الذي لا ينقطع ؟

من خلال الثقب الصغير أرسل سهماً حاداً من نظرة لاهفة تتقصى أمر الكلب الذي أنجز مهمته مثل كل مرة بنجاح ، لكن عظماً عظيماً بات لا يزال يتقافز بين فكيه وقدميه . لقد هشّم قمته المفصلية ولم يُبق على شيء منها ، وهاهو يبذل جهده مع البقية الباقية منه .

إن من لطف الله على الانسان ، فكر ، أن لم يهبه أسناناً قوية تتدارك مثل هذه العظام ، والاّ لضاع منه الكثير من الجهد والوقت ولما حقق غير ما يحقق لنفسه الكلب .

لفتته شظية من العظم ذات رأس مدبب حاد طفرت من بين أسنان الكلب ، لو نفذت اليها يده لكانت له عوناً كبيراً على ملامسة هذا الجدار الأصم بخطوط وعلامات .

كلّ الكلب ، وأستسلم لقناعة ترك على وقعها العظم القاهر وألقى بجسده على الأرض ، وقد توغلت في أنحائه رغبة في النوم تداعت لها أجفان مواربة سرعان ما انغلقت ، ربما على حلم بعظم أفضل !

من جانبه أرخى الرجل نفسه لنوم ما .. نوم قصير عادة لا يدري إن كانت له علاقة بنوم الكلب ، أو بغرفة صغيرة موحشة ، أو بتوقعات محزنة تثيرها بين حين وآخرإجراءات مريبة ، من بينها مداهمة الغرفة والتطلع اليه ومراقبة ما يجريه .

هبط الضوء وحاذى أسفل الجدار .. زحف نحوه حتى وضع رأسه تحته .. تطلع من خلاله الى حزمة الكريات الهبابية التي تلعب في مداره .. سره منظرها الحر ولعبها السادر ولهوها المتواتر. نفخ فيها فاضطرب هبابها ثم سرعان ما أستعاد كيانه ، نفخ ثانية وثالثة ، وكان كل مرة يثير فيها اضطراباً ما ينفك ينتظم من جديد حتى غلبه ضحك ما فزّ عليه في حلم قطعه صليل سلسلة الحديد ..كان حلماً قصيراً مجهولاً ، لكن ضحكه وقد استعصى التكتم عليه ،استمر فاعلاً خارج غفوته لحظة أو لحظات .

هل يمكن لسعادة أن تهبط على النفس المحزونة كما يهبط الضوء من هذه الكوّة النائية ؟ وأي سعادة هذه التي تولدها ضحكة مبهمة ؟

إذ تداعت أسئلته من دون جواب ، نهض الى الفتحة وأنفذ بصره الى الكلب فألفاه مقعياً موجهاً نظره ، عبر الممر الضيق الملتوي ، نحو شيء ما .

ماالذي يحرك غريزة الكلب هذه اللحظة ؟ لا شيء غير الطعام ، ولربما هوالغريزة الأقوى عنده دون غيره من الحيوانات ، وأنه لا يفكر بغرائزه الأخرى الاّ إذا وجد موضوعه الآخر بين يديه ، فكّر .

توترت أذنا الكلب وثقبت نظرته ، ودبت حركة هادئة في ذيله جعلت تأخذ به في ميلان على الأرض ذات اليمين وذات اليسار .

لا بد أن احداً في نقطة بعيدة يداعبه ويغريه بشيء ما ،وأنه ليقترب منه الآن لينهض على قوائمه ويرتجف جسده لهفة اليه . ليس من شك في أن طعام غدائه لم يشبعه ، وأن الوليمة القادمة مغرية حقاً والاّ لما بدأ لعابه يسيل وتتساقط قطرات منه .

في دائرة حريته ، وهي دائرة محددة بطول سلسلته ، كانت هنالك ظلال صار بميسور الرجل رؤيتها ، تنفرد فيها يد طويلة تلّوح للكلب بما هو بعيد عن متناوله .

تراجع الكلب ، ثم وثب بعيداً فمنعته السلسلة وكاد يقع على الأرض .

ابتلع الرجل اللعاب الذي تجمع في فمه ودقق النظر .. تحركت اليد من جديد ، وكانت إستجابة الكلب واهنة بعض الشيء ، لما المّ بجسده من ألم ، بيد أن ذيله لبث ملازماً أهتزازه الودود .

حتى اللحظة لم ينقطع سيل اللعاب ، ثم أذا تلاشت الظلال أو اوشكت ، وكاد الكلب يقعي على عقبه ، انطلق الصفير كما أنطلق قبل ساعات وقُذفت قطعة لحم .

لم تشا اليد التي فعلت ذلك ان تُسقط قطعة اللحم في المنطقة التي يرغب الكلب ، ولكنها لم تبتعد بها كثيراً عنه ، وإن كانت بنسبة ما أقرب الى الباب . اما وقد نازع سلسلته واستعان بمرونة جسدهِ ، فقد اصبحت اخيراً بين فكيه .

وخيل للرجل بان أصدق الاكل ولربما امتعه هو اكل الحيوان ، اذ مع اقدام الكلب على معالجة طعامه ، وانصرافه التام عن ايما شيء خارجه ،كان ثمة انين يصدر منه لعله غناء .

فترت حركة الكلب بعد ان اتى على طعامه وارسل نظرا مستقراً نحو خطوات رحلت تواً ،كان صوتها يتلاشى مع صفير خافت ذي امتدادات نافذة مسترسلة ،وجد فيها صاحبها متعة لم يعرف ان كان شاركه فيها الكلب نفسه والرجل خلف بابه الموصود .

طغى على المكان صمت حاد .. غابت الخطوات واختفى وقعها تماما مثلما اختفى الصفير ،ولم يعد لأحد من عمل غير ان يخلد للسكون .

من جانب آخر غاب عن الحائط مستطيل الضوء .. خرج من كوته وارتحل ارتحالته اليومية ، وكذلك غاب الضوء الآخر عن الممر واصبح لون الكلب اسود مائلا الى زرقة لامعة ، تتخللها في مواقع معينة عتمة أخف .

أسند ظهره الى الجدار .. بدأ الظلام يعم ويشتد ، ومع ذلك فليس الوقت الآن ملائما للنوم .. السابعة .. الثامنة ، لا يدري . لقد سقطت ساعته تحت الاقدام حينما كانت العصي تنهال على اليد والمعصم والقدم .

لم يكن مضى على رحيل الضوء أكثر من ساعة حتى وجد نفسه وحيداً مثل كل ليلة مضت أو ليل ولى.. كانت وحدته في وقت ما ممتعة ،ذلك أنها لم تكن تخلو من النظر للامام . الآن ثمة جدران اربعة يدخل في تصميمها باب حديد مغلق ، يقف في مكانه ثابتاً مثل جندي حراسة اصم ، وكوة عالية صماء هي الاخرى وتعبث بمشاعره في حياد بارد ، وكلب لا يفصله عنه سوى جدار ، أذا جاع يسيل لعابه على صفير ولو كان كاذباً وياكل الحديد .

من دون وعي منه نهض تلقائياً ..ان ما يثير ريبته حين يفكر ملياً ، ان الكلب لا ياكل غير اللحم ، او ان القائمين عليه شاءوا هذا .

جعل يذرع الغرفة جيئة وذهابا .. كرر التطلع الى الكلب : العتمة تحيط به وهي اشد على مواقع من جسده المسجى على الارض ، وسوى بؤرتين شعتا حينما اقترب من الباب ، فلم يعد يرى شيئا محدداً منه .

لحظة صدرت حركة خارج غرفته ، وكانت عنيفة نوعاً ما ، سرت في قلبه رهبة تراجع اثرها ومضى يراوح الذهاب والاياب متحسسا طريقه على هدي ذاكرته وما بقي يهمي عليه من اطياف ضوء باهت دأبت الكوة تحتفظ به اليه حتى بٌعيد مغيب الشمس .

اذ تحسس حركة الكلب حالما انفذ بصره اليه ، قرر الا يفعل شيئا من هذا القبيل مرة اخرى الليلة ذي وعاد الى جداره يسند ظهره اليه ويمد ساقيه: سيمارس الشيء الوحيد القادر عليه ، الذي يخترق الليل والصمت والجدران .. سيقول لها ، كوني كما عهدتك. . تذرعي بقوة الامل المغروس فيك .. لا تنسي شوارعنا ونزهاتنا . وكل ما تعاهدنا عليه لا يزال قائما وقد نحققه ذات يوم .

قطع حلمه صوت حركة قدمين مع صفير خافت آثر صاحبه ان يكون في حدود اذني الكلب ، لكن صمت الليل آثر هو الآخر ان يحط به تحت اذني الرجل كذلك .

في مساحة محدودة من شعاع مصباح يدوي بان الجسد ناهضاً متأهباً لما سوف يلقى به اليه . القيت قطعة لحم كبيرة كست عظاماً مهشمة راح الكلب يلتهمها على الضوء مصحوباً بصفير محزن جميل كان ذيل الكلب ما يزال يهتز عليه .

تمنى لو كان يمتلك مثل هذه القدرة على الصفير ، اذاً لصفر الحاناً فائقة الجمال حفظها عن ظهر قلب منذ سنوات طوال ، ولدفع بها هذا الوقت الممل والفراغ الممسوخ .

أتى الكلب على طعامه المضاف وتحول الشعاع عن المساحة التي تسلط عليها بعض الوقت ، ولحظة اثر اخرى ، كشأنها دائماً ، تلاشت الخطوات وخفت معها صوت الصفير .

نام الكلب وما عاد يتحسس موقع الرجل ان كان قريباً او بعيدا من فتحة الباب ، وعاد الرجل الى مكانه من الجدار نفسه يسحب الى داخله آخر خيوط لعابه . اما وقد بدا الجوع يعضه بناب حاد ، اسلم نفسه للنوم بعد اذ عاود خياله كالطائر الجريح حلمُ ان يثبّت على الجدار عمودا على قمته مثلث متساوي الاضلاع ، في داخله يبرز كعلامة استفهام خط معقوف ، وفي الفضاء ومن اسفل قاعدة المثلث تهبط خطوط متلاحقة تستلقي على اخرى لها شبه بزوايا مترادفة ، وتحتها على الارض هناك خطوط دقيقة متعرجة لها مساريَ الانهار .

* * *

هذه الليلة لم ينم .. لم يكن مضطربا مثل كل ليلة ،انما لم يراوده نوم مطلقاً .. كان يسمع فحيحاً يأتيه من خلف الجدار الذي يسند راسه الى نقطة قريبة منه . لا بد ان فراغا ثمة يمكن للريح ان تلعب فيه وتصدر مثل هذا الصوت .. لعل غابة هناك او خلاء واسعاً اقتحمت ارجاءه نباتات برية هشة تتصادى بعزف قوي مع كل ريح .

إذاً هو الخريف، وهذه الريح اولى علاماته التي يسمع بعد ان حجز نظره بين اربعة جدران . الخريف عينه ، قال ، لكنه هناك في بيت له نوافذ واضواء وابواب ، زوج واطفال واهل .. لا يا سيدتي .. انه لشيء مختلف ، وانا الان افتقد صوتك ودفء انفاسك وعذوبة حديثك .. افتقد الخريف ذاك ، لغط الشوارع وصخب الاسواق وجماعات الاصدقاء في المقاهي والحانات .

الليلة ذي راودته صورتها اكثر من اي ليلة مضت ، وكانت في كل مرة ، شأنها في حقيقتها ، إمرأة تثير الخيال ، فمن اي منفذ انفذ نحوك ومن ينتشلني اليك ؟

* * *

من خلال كوته وضوئها المحاذي لاعلى الجدار انتبه الى ان الخطى الثقيلة التي تزوره كل صباح قادمة اليه ،أما الكلب الذي أخمد الطعام المتراكم انفاسه فلم يعاود يقظته المبكرة كل يوم .

على خلاف الكلب، الذي لبث رابضا في موقعه ، كان هو . فلقد تغافلت معدته عن زهده وتمردت عليه واعلنت عن شهية غريبة للطعام . ايتها الغبية انت الآن في اسوء حالاتك وتترغبين ما يؤكل ؟!

في جلبة ارتعد لها قلبه وأنتفض عليها فجأة جسد الكلب تقدمت العقب الحديدية ذاتها ، وعولجت سلسلة الحديد وأنفرج الباب عن الجسد العملاق مشيراً بيد خرساء الى الخارج ، موعد الذهاب الى الحمام .

في طريقه المتوجس مر بالقرب من الكلب .. لفتته النظرة العدائية التي دهمت نظراته الودود اليه ، والزئير المشروخ الذي صاحب ذلك حتى اختفى عنه .

لم يمكث طويلاً هناك ، لكنه أستمتع بالماء . كان بارداً عذباً لامس جسده بنعومة ماء نهر .. لماء دجلة موسيقى ، وثمة أضواءوعليه زوارق تروح وتجيء ،ولأمواجه ترف أمواج البحر .

في الليلة الماضية ولم يكن النوم مس أجفانه بعد ، عاد الى تحسس الجدران الأربعة للمرة المئة واحداً بعد آخر لينتقي أيها يصلح لتدوين ذاكرته عليه . كان يؤمن أنه سيجد الشيء المناسب لفعل ذلك ،وبالرغم من أن المكان الذي يقبع فيه الكلب ويترك فضلاته وبقايا طعامه عليه ، يكنس كل يوم فأن يقيناً ظلّ عالقاً في ذهنه بأنه سيجد بغيته أو سيبتكرها طال الوقت أم قصر .

أثناء عودته أشتد صوت الزئير و لو كان لديه بقية من طعام لألقاها الى هذا الكائن المزروع في غير مكانه وقمع زئيره المخيف .

تجاوز ذلك كله ، فمنذ اليوم الأول لوجوده في هذا المكان الذي لا يعرف أحد أين موقعه ، وهذا الكلب يجثم قبالته من غير أن يتآلف معه أو يبادله الود .. الفواصل كثيرة ، فكر ، الباب المغلق طيلة اليوم ، والطعام المحدود الذي لا سبيل الى إطعامه شيئاً منه ، والحركة المراقبة والوقت المحسوب بين الذهاب الى الحمام والاياب منه ، ثم الطبيعة الصعبة التي عليها هذا الكلب الذي يجهل مقدار صلته بالذئب،غير شراسته البادية وجلده الأسود المبقع ببقع صفر .

قطع عليه استرساله إحاطة السلسلة بالباب ووقع الخطى الراحلة ثم ما تلا ذلك من صفير بعد برهة ليست بالقصيرة ، هب عليها جسد الكلب في انتباهة من لم يذق طعاماً من قبل .

مضى الصفير يتصاعد لحظة بعد لحظة ،ثم عاد يخفت ليتلاشى في الوقت الذي كانت السلسلة فيه تجلجل واللعاب يسيل .

زمجر الكلب على نظرة الرجل واقترابه من الباب بل إنه ما لبث أن استدار نحوه في استدارة سريعة وانطلق ينبحه .

لم يتراجع الرجل فهو الآخر بحاجة الى طعام وثمة أحساس بخيوط من لعاب بدأت تملأ فمه لا سبيل الى مقاومتها .

مرة اخرى ارتفع الصفير وارتفعت عليه اذنا الكلب ثم ما لبثتا ان انحدرتا الى الخلف مستويتين مع جمجمته .

اعطى الرجل جسده للحائط مستمتعاً باللحن الشيطاني الممسوس ، الذي شك في ان يصدر من بين شفتين وليس من شبّابة رقيقة من خيزران .

مع تصاعد اللحن الذي لا غرو ان صاحبه يطرب له ، مثلما تطرب له كل اذن ويحرص على ان يكون منساباً متصلاً كما لو انه نداء قلب موجوع ، تصاعدت وتيرة خطوات وئيدة ومتراخية .

نهض الكلب بعد ان كان اقعى وانشدت السلسلة على انطلاقة جسده الواثب للامام ، وكرة اخرى بدأت خيوط اللعاب تسيل والذيل يهتز والاذنان تتذبذبان في انتصاب وارتخاء ، قبل ان تقترب ظلال الجسد القادم وتتقدم يدان تلقيان بقطع من اللحم تداخلت مع عظام مهشمة . بدا اللحم طازجا ومختاراً اختيارا جيدا ما سهل على الكلب التهامه مع دمدمة غناء .

على صورة طعام متخيل ابتلع الرجل لعابه متفقاً مع نفسه على ان الجوع أمر كريه ، ومقاومة الرغبة في الطعام شيء صعب .

هبطت ظلال الى مستوى أدنى غطت جسد الكلب وامتدت يد تلامسه مربتة عليه .

استجاب الكلب لليد الرقيقة التي اطعمته ثم جعلت تمسد رقبته وظهره وحتى صدره ، ومع ذلك مكث على هياته منتصبا مثل ذئب كاسر .

مع عودة الحارس ، وحتى تلاشي اصوات قدميه ، لم يصدر صفير هذه المرة .. حالات ، قال وانكفأ هو الآخر ،ولكن بانتظار افطاره الذي لا يتاخر كثيرا عن افطار الكلب. وخيل اليه ان افطاره ،كما هو الحال مع افطاره يوم امس سيلغى ،وان عليه ان ينتظر الغداء بعد ساعات قد تقصر اوتطول .

تمطى الكلب ،قدم قائمتين وأخر أخريتين ، وشد جسده للامام ثم عاد الى وضعه المعتدل وطفق ينقل بصره في الارجاء المحدودة التي سد افقها الانعطاف الحاد للممر .

اذ جلجلت السلسلة نهض الرجل الى فتحة الباب ليرسل بصره من هناك ، وليفطن الى ان الكلب قد تعافى كثيرا .. ضاعت العظام التي كانت بادية على هيكله ، ثم تنامى اللحم في الفراغات، وغابت غبرة الجسد ، واصبح اخيراً املس الشعر ، وكان ما يزال راكزا على قوائمه الاربع مادا خطمه للامام، ومراوغاً بنظر مضطرب منعطفات الافق المسدود .

لا افق في هذا المكان ، قال الكلب ، او هكذا تراءى للرجل حين وجده يتراجع على عقبيه ويستوي مقعيا على الارض .

ارتفع مستوى النقطة التي توقف فيها الضوء .. لقد بدأ الانسحاب ، وها هو جسده يعلن انسحابه نحو وهن ما .

أرهف السمع .. ليس غير وشوشة دأبت تغازل اذنيه .. هبط الارض مفترشاً اديمها الخشن مستشعراً حمى غريبة تجتاح جسده .. منذ زمن بعيد لم يعرف الحمى ، فلجسده صلادة الحديد ، لكن ما راح يغزوه الان قلب موازين قناعته واسلمه الى يقين مدو ،ان للجدران والباب المغلق قدراً أعتى من كل الاقدار .

كان يريد ان يقول لها ذلك ، ان يشتكي لها الجدران واِحكام الباب وأحكام الطعام والخروج الى الحمام ووحدة النهار ووحشة الليل ، ويريد اكثر من كل هذا ،ان يقول لها احبك .

كلا .. لن يعترف لها بضعفه ووهن ساقيه ووشوشة اذنيه .. بل ولا يريد لها اِلا ان تظل على يقينها او وهمها بانه قوي الان .

هي ذي اطياف القيلولة تراود عينيه كما السراب .. وها هي ذي الجدران الاربعة البيض تقترب منه .. هل يمكن لهذه الجدران القديمة ان تكون لامعة وعلى هذه الدرجة من البياض ، وهل هذه اللوحة التي افترشت مساحة عينيه مرسومة على الجدار ؟ كيف يقيض لذئب ان يفترس حصاناً ومن دون ان تنز من جسده قطرة دم ؟ المسكين قالها في حلمه وانبرى يصيخ السمع لعزف على ناي مصنوع من قصب فارسي او ربما من خيزران يسيل له اللعاب . يا لروحي ، كرر،في حلمه واسترسل هائما مع اللحن الجميل .

تلاشت صورة الذئب في الوقت الذي تالقت فيه صورة لحصان سليم قائم على ارض مريعة زاهية ، تضرب عليه شمس دافقة تحيل لونه الادهم الى ذهبي صقيل.

دمدمت بين اذنيه الحالمتين ريح اهتز لها الباب ، باب غرفته قبل ان ينفتح على اليد التي تمتد اليه بطعام العشاء .

لقد استغرقه النوم اذاً حتى المساء ، واصطخبت في عينيه احلام شتى . لا بد ان الكلب تناول عشاءه منذ وقت .

زالت الحمى ، او هكذا احس ،فنومه الثقيل منح جسده راحة عميقة لم يبلغها منذ ايام ، ومع ذلك فلم يجد في نفسه رغبة في الطعام ، ولو قدر له ان يلقي به لالقى به الى الكلب .

مع تقادم الساعات واشتداد وحدته اجبر نفسه على تناول جزء يسير من طعامه . كان الطعام قليلا ، وهو هكذا في اغلب الاحيان ، بل هو الان اقل من ذي قبل .

الان يستطيع ان يظل يقظاً حتى الصباح ، ولكن لو كان مع شمعة في الاقل . الظلام يمسح الالوان ، قال ، ويعمي البصيرة والبصر . ولا شيء سوى الذاكرة المتعبة المحاصرة ، ومع ذلك كانت الصور تترى كالخيول المطاردة التي ما تلبث ان تصطدم اما بجدار او بصفير او بزئير كلب . وغير كوته وما تجود به اليه من ضوء انيس فليس ثمة من فاصل بين الليل والنهار .

تذكر القطارات والمسافات التي كانت تتهاوى امام عجلاتها القصار ، السيارات بدروبها الملتوية وما يحف بها من مناظر جميلة خلابة ،والطائرات فوق المدن وفوق وتحت السحاب ، والشوارع والطرق والانهار التي تبدو من هناك كالخيوط ،المدن التي زارها والفنادق التي نام فيها ، المقاهي بجلاسها ،زوجه واطفاله واصدقاءه ومعارفه ومحبيه ، طرق الموت التي تعرض لها ونجا منها . اشياء كثيرة كانت تتداعى كل مرة وتذبل كل مرة ،تحيا وتموت وتحيا وتموت دونما انقطاع ، فيعود القهقرى الى جدرانه يبحث عن شيء حاد يدون عليها او على واحد منها في اقل تقدير ، ذلك الشيء الذي كان رهانه ورهانهم عليه .

قدم الصفير .. ليس من شك في ان الساعة متاخرة الان .. الصفير عينه الذي يخلب اللب والذي هو اثقل وطأة منه في النهار .

ويعجب اذ يثيره هذا الصفير بهذا القدر، ففي الوقت الذي يستدعي فيه لعابه فيسيل عليه يفزز في دواخله الحانا نائمة تستيقظ عليها اجمل ذكرياته ، ويعجب اكثر اذ يكون الامر كذلك وما يزال جسده يئن على اكثر من جرح .

هل كان يحلم ؟ ومتى كان الانسان الا حالما ؟ثمً ماالذي قاده الى هذا الوضع غير حلم اكبر حجما منه ؟

على ضوء المصباح اليدوي المتقادم ببطء كان الكلب ينهض ، يرتعش كل جسده في رقص محموم ، يسيل لعابه وتظهر عليه بوادر سعادة متعاظمة كاد عليها يحطم قيود سلسلته .. وثب للاعلى وانعطف على نفسه ، ولما دنا الضوء كثيرا وعظمت اشجان الصفير استكان على الارض والتمعت نظرته ، ثم هب بغتة منتصباً بأنتظار طعام غير موعود .

القي الطعام في مدار متناوله ، وكان قطعة كبيرة من اللحم موصولة بعظم مسحوق كذلك ، كما قدم قريبا من ذلك اناء فيه ماء .

اضطرب الكلب في أيها يتناول اولاً ، غير انه ، بعد ان لعق قليلا من الماء ،فضل الانصراف الى الطعام .

بعد ان التفت الى الماء وارتوى منه انحسرت فسحة الضوء وارتفعت طبقة اشجان الصفير الذي ما برح ينداح سلساً عذباً كأنه يحاكي تعافي الكلب بطعامه الوفير واللذيذ .

عاد الرجل الى جداره .. وكعادته ، التي اضطر عليها ، اسند ظهره اليه ومد ساقيه للامام . لقد انقطع كل شيء يمت بصلة للحياة . فالكلب عاد فنام ، وانقطع الصفير، ولم تعد الريح تهب فتصفر في الاشجار . ولا احد يا سيدتي يبدد وحدتي سواك .

في وحدته المفردة تماما ، ولما يمض من الليل اوله والوهن الجسدي يعود ثانية اليه ، تساءل ان كان للذكريات القدرة التى تنجي الانسان من العذاب . ثم حين فكر في الشيء الذي يمكن ان يشتري حريته فيه ، هتف عاليا ، كلا .

في لحظة واحدة الغى كل ما فكر فيه ، واستعاد التفكير في الوسيلة التي ينبغي فيها او من خلالها تدوين ذاكرته ، حتى نام .

في حلمه ، وكان هذا من الاحلام القليلة التي تظل تراود يقظته فتشغله فترة قبل ان ينساها ، راى عينا صغيرة قبالته تنز كالنجمة القصية الساطعة في دمس الظلام ، لها في عينيه شعاع ثابت خاص وكأنها توميء اليه .. وطوال يومه كان يبحث عنها حتى وجدها وكانت سعادته فيها .

* * *

قبل موعد صفير الافطار ،تقبل الخطوات الثقيلة المرتقبة والايعاز بالذهاب الى الحمام . هنا قد لا ينهض الكلب ، اذ تعلقت اذناه بسماع الصفير .. وبالرغم من جلبة سلسلة الباب فقد مر الامر بسلام واخذ الرجل طريقه المعتاد.

حينما عاد ومر من امامه وجده قد استيقظ مكشراً له ومعاوداً نخيره العدائي . لم يزجره الحارس ولم يخف هو منه كثيراً فحدود سلسلته تمنعه عنه ، ومع ذلك فقد اسرع في عبوره تحاشياً لما قد يستحكم في نفسه من عداء له ، ولئلا ترسخ صورته في عينيه .

مع اغلاق الباب واستحكام جدران غرفته عليه ،شعر بنوع من الامان ،لكنه تساءل عن عدد الاخطار التي عليه ان يتفاداها في حياته ليشعر بالامان . انا لاعب سيرك ، قال مستدعياً وصية مدرب للاعبه ، لاعب السيرك <في عالم مملوء بالاخطاء عليك وحدك ان لا تخطيء> ووجدها وصية ثقيلة وان كانت مجيدة .

صدر الصفير .. يا الهي كيف تتواءم المتناقضات ؟ اعاد عبارته التي سبق ان اطلقها وانطوى على اللحن الجميل يستشف منه نهراً سبح فيه وحقلاً تمرغ على خضرته وحبا قطعه على نفسه وها هو امين عليه .. وانت يا سيدتي اجمل من رايت .

كان صفيرا متمهلا نزف عليه من اللعاب اكثر مما نزف الكلب ، وقد كان جائعاً جداً وشرب الكثير من الماء في الحمام وتلك هي فرصته ، ومضى على ذلك ساعة او يزيد . حسن . اننا لكي لا نخطيء علينا ان نكون اقوياء .

تدانت طبقة الصفير الذي يوهم بان صاحبه مفتون به وماخوذ عن حاجة صاحبيه ، وكان ذلك عسيرا على الاثنين ، الرجل والكلب معا .

مع اقتراب ملموس وصار القادم في طوق رؤيته قفز الكلب للاعلى منازعاً ، كالعادة، طوق رقبته ومندفعاً في الوقت عينه نحو اخر الحدود التي تيسرها له حلقات سلسلته .

فجاة كف الصفير وجمد الكلب واغلق فمه على اخر ما سال منه .

طغى الصمت على الجميع .. لابد ان القادم ، ولامر ما ،عاد عن قراره واختفى .. لبث الكلب على جموده محدقاً في الحدود التي لا يبدو ان هناك مجالاً لرؤية شيء بعدها .

من مركزه كان الرجل يتبين حجم الحزن الذي اخذ يلوح على عيني الكلب ، فبينما لبثت العينان شابحتان على نقطة واحدة كان ثمة سهوم ينتاب نظرتهما يشف عن استسلام تام .. هل عٌدم الكلب التفكير الى ابعد من انفه ؟ تساءل وتراجع هو الاخر عن موقعه وبصق نصف لعابه .

أحزنه أن تكون اللعبة مستمرة الى هذا الحد .. نعم . ففي هذا المكان هنالك الكثير من الألعاب التي ليس اخرها هذا الوضع الذي يكمن صانعه في موقع ما .

رهن جسده الى وضع جديد واغلق عينيه .. لقد جفت الذاكرة يا سيدتي ، واخشى ان تنغلق على الصورة التي لا اريد .. لا . ليس الماضي وحده الذي ينبغي ان احافظ عليه . بل هذا الجديد المزدحم بالظلام والالاعيب .. كلا .. ليس النهر ما اريد وليس الشارع الجديد والمدينة النظيفة ، بل وليس الحب ،ولا اخر العهود ، انما هذا الذي يحيط بي ويستغفل ذاكرتي . نعم ، ساضيف الى الشجرة والرجل القرد هذا الكلب الاسود المبقع بلطخات غبراء ، وذلك الحارس الثقيل الخطوات الذي يفتح الباب للحمام مرة واحدة ، واللعاب الذي يسيل على صفير اعلانا عن طعام يجيء ولا يجيء . لا يا سيدتي انا هنا .. وحلم بائس ان يفكر الانسان في ماض لا يستطيع ان يحطم باباً على سجين بريء .

يبدو ان الكلب الذي قطع امله في فطور قادم ، افلح قبل الرجل في سماع الصفير المنطلق من بعيد ، او انه راى الشخص القادم اليه حينما طار من على الارض .

لم ينهض الرجل هذه المرة ، فالامر منذ لحظته متروك لغيره ، ومع ذلك فعندما أيقن ان الصفير انتهى عند منطقة الكلب ، وطعامه قدم له لم يستطع كبح جماح لعابه وانتظر بادرة فتح الباب .

حال انتهى الكلب من طعامه وكان تناوله بسرعة قياسية بالرغم من كميته الفائقة ، أنقطعت وتيرة الصفير وعاد كل شيء الى وضعه السابق؛ الكلب مرتمياً على الأرض منفوخ الجانبين والرجل محيراً مجتراً أسئلة بلا جواب ، وكان النهار قد تقادم بحيث صار في حسبانه أن نظام غذائه قد تخلخل بفعل مقصود وسيظل كذلك .

بالرغم من تداخل أحزانه ووعيه لما هو فيه فقد أحس ّ ضيقاً شديداً كما لو أنه لم يمر بموقف أشد من هذا الذي يحدق به الآن .

أنسيت ؟ قال وهبّت نفسه ويده الى آخر زر ظل ثابتاً في قميصه بعد ان تساقطت تحت الشجرة بقية الازرار ، وكان هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن له ان يسطرّ بواسطتها على الجدار لوحته الخالدة في وضح النهار .

* * *

أكتشاف رموز

دوهمت الغرفة كما هي العادة كل فترة حين يفتح الباب دون سابق أنذار .. هذه المرة كانت النظرات أشد كثافة وتفحصاً ، لذلك لم يكن صعباً على أحد أكتشاف خارطة أو رموز لشجرة ورجل معلق فوقها يبتر أغصانها الغليظة فتتلاقفها أيدي رجال يهبطون بها على ظهور رجال آخرين تسيل دماؤهم على الأرض متعرجة تعرج الأنهار .

هكذا فككوا الرموز التي جاءت على هيأة مثلث قائم على عمود نابت في الأرض ، تتساقط من أسفله خطوط حتى آخر تفاصيل اللوحة التي جادت بها أصابعه بواسطة زر قميص

"الذاكرة حية ما تزال " قال أحد الرجال الثلاثة لرفيقيه ، ثم أشار لهما بمغادرة الغرفة تاركين بابها الموارب لسلسلة حارسها العتيد .

* * *

تسمين رجل

فُتح الباب لمراودة الحمام .. كان الوقت مبكراً هذه المرة .. أثناء ذهابه الى هناك وعودته منه لم يستيقظ الكلب أو لم يشأ ذلك .

وقف تحت الضوء المتسلل اليه عبر كوّته يدقق النظر في ألغازه التي لايدري إن كان الرجال الثلاثة فقهوا منها شيئاً .. غمره شعور من صنع لوحته الأخيرة الفذة واستنام لنشاط ذاكرته التي أكملت اللوحة على أفضل وجه .

من فتحة الباب رأى كسل الكلب وبلادة نظرته وازوراره حتى عن جهة الصفير . لقد أصبح خنزيراً قال ، وعاد الى حيث موقعه ينتظر ولا ينتظر قدوم الطعام اليه .

لقد تأخر الطعام عن موعده ، فأذا كان اليوم كالأمس فلربما هو الطريق المعبد للموت . وحسن أن يكون كذلك ، ولا سيما إذا بدأ خَدَرَاً في الأطراف .

تهادى الصفير .. صفيرٌ لعوبٌ هذه المرة لا يثير في النفس ما كان يثيره فيها في بادئ الايام . على أنه إن كان كذلك فلقد جاء مرافقاً لطعام وفير قدم اليه .. هل يعقل هذا ، وأين طعام الكلب ؟

بدءاً لم يتحرك الكلب كثيراً ولم يستجب للصفير الجديد ، الاّ أن الرجل حينما بدأ بطعامه فكر فيه .

غبّ الأنتهاء من وجبته لم ينكر أنه أحس راحة عميقة ، باستثناء ما راح يخالط نفسه من أسى عكرّ عليه مزاجه منذ أن أفرد بالطعام دون الكلب .

في حين لم ينقطع الصفير الراقص حتى تلاشى في المنعطفات ، ظلّ الرجل مترقباً ذلك الصفير الهادئ المثير ، الذي كان يأتيهما عليه الطعام ، لتقدِم عليه الآن وجبة الكلب .

أسرع الرجل مدققاً النظر الى الكلب فألفاه وقد تأخر موعد طعامه ، قد تقدم عن مكانه ، منتصباً على قوائمه نافضاً عن جسده أطياف خموله .

وتراءى له أن ماكان عليه الكلب قبل ساعتين غير هو ما عليه اللحظة ، وأن حجمه الضخم ومقدار ما أكل لن ينسياه حقه في وجبة الصباح . كان يتطلع للأمام ثم ما لبث بعد أن مر وقت طويل أن انكفأ على ذاته وطوى جسده على الأرض .

استنكر الرجل رأيه في الحدود التي يصل اليها تفكير الكلب ، وعدّ ذلك غفلة منه ؛ فهذا الأنكفاء لدليل على انطفاء أمل كان قائماً حتى هذه اللحظات ، ولربما سيظل كذلك وإن تحت الذبول الذي يســـود نظرته الآن .

اقترب من حائط الضوء .. إقترب منه أكثر حتى وضع رأسه تحت خيوطه وهبابه الراعش .. مع عمود الضوء أرسل نظرته للأعلى فاصطدمت بزجاج النافذة التي وجدها أول مرة صغيرة لا تكفي لأستيعاب جسد طفل .

منح جسده راحة قسرية كان لحظتها يتمنى ولو ذبابة تدخل عليه .. كان يريد أن يرى شيئاً حياً غير هؤلاء الذين يراهم كل يوم أوالذين يزورونه بين آن وآن وغير الكلب . ماذا لو اخترقت الكوّة حمامة هائمة أو عصفور ضال .. ماذا لو ..! وقمع أمنيته ، فوحده يكفي .. لن يتمنى لأحد أن يشاركه وضعه لمجرد أن يهوّن عليه وحدته .. كلا .. ثمة دم يجري في عروقه يتيح له أن يفكر وأن يتذكر .. لقد ذهب الوهن الذي سرى مؤخراً في جسده وبدأ بأطرافه .. هاهي الحياة تدب اليه ولو بين أربعة جدران .. يا ألهي ، قال وأسلم رأسه لحلم آخر .

* * *

حين عاد الصفير بعد ساعات .. الصفيرالمحموم نفسه ، امهل نفسه لحظات يتابع بعض احلامه التي تشابكت الى الحد الذي كانت فيه اشبه بسحاب مختلط تدفعه ريح .

لم يشك في ان الصفير بعيد عنه حتى اللحظه وانه لن يثير استجابة الكلب رغم جوعه الظاهر ، كما كان يستثيرها الصفير القديم .

يعرف ان عليه ان يتمهل بعض التمهل لاستقبال طعامه اذا جرى الامر كما هو عليه في الصباح ، فمشيئه الاخر ، وهي عصية على الادراك ، فرضت عليه صبرا طويلا ، وبرغم ذلك فقد بدا لعابه يسيل وعدّّ ذلك شيء قاهراً .

حتى دقائق تربو على العشر لم يتقدم الطعام ، في الوقت الذي كان فيه ما يزال منطلقاً من مواقع عدة بحسب ما يوحي به تباين مستوى درجات الصوت . واذا كان من شانه ان يفكر ما يفكر في طبيعة الصفير ، فأنه كان في الحقيقة ينمّ عن فرح ومرح طليقين ، ولماذا لا فمع الحرية كل شيء جميل .

من وحدته المطلقة ،وحدته الموحشة حد البكاء وحد الموت ، كاد يهتف بذلك " مع الحرية كل شيء جميل " لكن صخباً صدر من ناحية الكلب قطع عليه ذلك وكانت نظرته تسرع لتراه قد ضاق بعذابه وهاهو يكرر جاهداً انتزاع رأسه من طوق سلسلته .

أقترب الصفير .. إنه يقترب بوتيرة متسارعة كما لو على لهفة حارة ، وكانت نظرة الكلب تشي بأنها ترى صاحب الصفير وتشك في الوقت عينه في أنه يتقدم بطعام .

عندما صار الطعام في مساحة رؤيتة النافذة تململ جسده قليلاً وسرت حركة هينة في ذيله ، بيد أن لعابه لم يسل ولم يرخِ للأسفل أذنيه .

انعطف الحارس صوب الغرفة وجعل يعالج سلسلتها ، مقدماً من ثمة للرجل وجبة غدائه .

أمال الكلب رأسه ناحية الرجل وهو يتسلم طعامه فالتقت نظرتان لم تلتقيا على صورة كهذه من قبل .

أُغلق الباب والتفت السلسلة حتى انتهى طرفاها على قفلها الضخم وعاد الصفير مواظباً على ايقاعه السريع متوارياً عن الآذان لحظة بعد لحظة حتى غاب .

برك الكلب على عقبه تفصح نظراته المتداورة عن قلة حيلة ونفاد صبر .

فيما كان الرجل يتناول طعامه تحت أمر صارم صدر اليه مؤخراً أن " كل طعامك كامــلاً ولا تبق شيئاً منه" لم يقطع التفكير بالكلب ، بل لو أنهما أكلا متقابلين على وجبة واحدة ، تمنى . ففي الوقت الذي يعرف فيه طبيعة هذا الكلب ، فقد كانت صورته تتماهى مع صورة كلبه القديم .

إرتمى الكلب على الأرض وغفى على جنبه .. هل ينام الكلب على جوع ؟ آه لعله أشد الحيوانات صبراً .

تحت رموزه التي حسب أن أحداً لم يفقه لها معنى وها قد بدأت ترتفع للأعلى رقعة الضوء وتلاشى عمود هبابها منذ ساعات ، وضع رأسه على خدر ما .

إذاً هو وقت القيلولة ، القيلولة التي كانت إن لم تصرف مع شجيرات الحديقة وأفيائها ، فقد تمضي وزوج على فراش وثير أو مع كتاب وشباك مفتوح .

عند أول المساء وقد جفاه نوم الظهيرة أسبل جفنيه على غفوة قصيرة حلّ فيها على فضاء واسع انقتحت فيه أبواب وانهدت جدران ، انطلقت من خلفها جموع نحو حقول وأنهار كان يجري في المقدمة منها غير آبه بمن ينادي عليه ؛ حليم ، حليم .. كان حلماً جميلاً وأسماً أجمل ، قال عند يقظته ، وظلت آثاره قائمة في نفســه لحظات .

ليس ثمة سوى لمعة واهنة ، رأى ، تبدو على عينين حزينتين . إذاً لقد جفاه النوم فود لو يناديه بصوت ودود فلعل ذلك يمسح عن نفسه غبار الجوع .

رفع أصابعه وتحسس الآثار الموجودة على الجدار .. لقد ظلّ محتفظاً بالزر الوحيد في جيبه ، فمرره بتلمس مرهف دقيق على الخطوط التي لم يكن الحفر فيها عميقاً ، متحسساً إياها مثلما يتحسس الأعمى بأنامله حروفه البارزة ليقرأ الشيء المكتوب .

في الظلام يتساوى الأعمى و البصير ، وهذه ميزة عظيمة تعدل بين الجميع ، وها أنا معك يا صديقي في حال واحدة ، بيد أنك حر وأنا سجين .. تذكر صديقه الذي فقد بصره في حرب .

بغتة فتح الكلب أذنيه.. كان ثمة صفير واهن لا يُسمع الاّ إذا قطعت الأنفاس ، ينهض الكلب عليه ولم يكن الفه بعد ، هل تراجع الكلب أم غيّر سلوكه ليستقبل هذه المرة هذا الصفيرالغريب. إذاً لو كان ضوء كاف هناك لكان عرف ما يجري الآن تحت لسانه وبين فكيه.

تساءل عن مقدار جوع الكلب قياساً على جوعه ولما يمض على غدائه وقت طويل ، وحسب ذلك ظلماً قاسياً يقع على كائن آخر ربما لم يقترف ذنباً من قبل .

تدانى الصفير ،ثم عاد وتلاشى لحظات في لعبة حسبها سمجة ليظهر ثانية قوياً مع ضوء مصباح .

بينما تلاعب الرجل بخيوط لعابه ، تقاطر لعاب الكلب وانتفض بجسده للأعلى كالملسوع .

انحرف الضوء عن رقعة الكلب وأتجه نحو الغرفة ، وكان الصفير ما يزال منطلقاً بأقصى درجات مرحه متداخلاً مع تصويت سلسلة الباب الثقيلة . قدم الطعام وأغلق الباب من دون أن تنقطع دوامة الصفير حتى عدّه هذه المرة فاحشاً وكريهاً .

غاب كل اثر للحارس او لغيره ، واستسلم الكلب ليأس قاطع وربض على رقعته مكوراً جسداً انخفضت بطنه وبرزت بعض عظام صدره ونتأت غوارب شعر رقبته .

هاهو الليل يتقادم يقدم للوحشه وجبتها الطازجه التى تتجدد كل ليلة على هيئة رجل وحيد .

" ان من يتيه هو الذي يجد الدروب الجديدة " هكذا يقول المثل ، وها انني تهت يا سيدتي فلم اجد غير الدروب المغلقة .. امامي جدار وخلفي جدار فعلى اي الجدارين أميل ؟

كان الليل اسرف في جريانه وجرف معه قوة الرجل على التفكير وعلى التخاطر ، او ما كان يحسه هكذا احيانا ولا سيما تخاطره الليلة مع الكلب ، فنام كعادته تحت الجدار الذي عليه خطوطه مثل حارس امين .

* * *

في حلم ليلته الفائتة كان هناك نهر واطفال وبنات آوى وكلاب .. شمس وحقول وسماء مفتوحة تشق العين .

من اجل ماذا سرب ذلك الليل المعتم دوامته الحلمية التي غمرته حتى ايقظه الصفير؟ وحتى التفت الى حيطانه العالية وبابه المغلق باحثا عن شيء يمكن الامساك به مما دعاه بالحلم الفريد؟ اكان حلماً واحداً متصلاً ام مجموعة احلام ؟ آه .. الحلم يبدد الوحدة ويهدم الجدران ويقتلع الابواب ، ويا ليته في حلم لا يقظة فيه .

ُفُتح الباب .. سُحبت السلسلة وانفرج انفراجة ضيقة سمحت له بالمرور من خلالها .. كان في حاجة قصوى للوصول الى الحمام متجاوزاً زئير الكلب ووثوبه المحدود عليه .

كان الحارس منشغلا باشعال سيجارته حينما عاد في هدوء واخرج قطعة اللحم التي وفرها من عشائه واخفاها في جيبه والقى بها الى الكلب الذي كانت قدم الحارس الرياضي اليقظ اسرع اليها من فمه لتسقط بعيدا عنه .

" المرة القادمة سأخرم مخك بهذا "، واومأ الى مسدسه الذي في حزامه ودفعه حتى اصطدم بحافة الجدار سال عليها دم رأسه .

ذلك كله لم يمنع صفير الفطور من ان ينداح بعد ساعة كما لو من وراء جبل ، ثم يقترب ويقترب حتى يدخل فضاء الكلب والرجل ، ثم يخفت مثل كل مرة ، وبانتظار وقت ما ، اشارة ما ، ينطلق من جديد اكثر مرحاً واكثر حركة وتجاوباً .

هذه المرة هب الكلب بأعظم قدرة لديه فأذا منعته سلسلته عاد ادراجه الى الخلف ، والى حيث تمنعه مرة اخرى من انتزاع راسه منها .

وسوى الرجل لم يكن هنالك من يعلم ، بمن فيهم حارسه ، مقدار ما بذل من جهد وما اصابه من الم ليستكين استكانة الذليل اليائس تماماً ، ولتذوب لمعة الامل التي كانت تنوس في عينيه كالدموع ، هل يبكي الكلب الذي لم يحرك الحارس ، الذي تقدم بطعام الفطور، فيه غير حركة ذيل معزولة عن جسد هامد وبعض خيوط من لعاب شحيح؟

" كل طعامك واحذر ان تلعب لعبتك البائسة تلك " يقول الحارس ذلك ويغلق الباب على اكثر من لحن ويغيب في الوقت الذي لبثت فيه عيناه ماثلتين في عيني الرجل مثل عيني ذئب يغني لوليمة جاهزة .

من يستطيع ان يمنع رصاصة عن جسد البريء ومن يستطيع ان يمنع تناول الطعام بالاكراه ويمنع تقييد الحيوان ؟ من يستطيع ان يمنع اقامة مثل هذه الجدران ؟

لقد جف طعامه منذ ساعة او يزيد ، وشهيته المغلقة تأبى عليه ان يتناول شيئاً منه ، ومع ذلك فعليه ان يأتي كلية عليه .

بين اربعة جدران وباب مغلق تحصل اشياء غريبة ، ومن عجب ان احداً لا يعلم بها ، وقد تبقى مجهولة الى الابد ثم حتى اذا انفرج عنها الباب ، فقد يمر عليها الآخرون دون اي مبالاة وقد تداس بالاقدام ، فمن

يعرف ان على رجل ان يفتح شهية تامةً لطعام ولم يجف دم رأسه المشروخ بعد ؟ ومن يعرف ان قبالة رجل بريء كلب جائع له انياب ذئب وطبيعة ذئب .. وانت ايتها الاجمل هل تعرفين ؟ آه .. نعم .. فانت الوحيدة التي تعرف والوحيدة التي تحزن والوحيدة التي تخسر .. وانت الوحيدة التي احب .

لقد ضاق بالطعام الذي كان يتوالى عليه بتوالي الساعات ، ولم يعد يأبه بالصفير كما لم يعد لعابه يسيل عليه .. وبقدر ما كان يحصل هنا ، كان الكلب هناك يحرم من طعامه وتزداد شراسته وينازع كل آن سلسلته .

ان ما بدأ يقلقه الآن ان الثلاثة عادوا كرة اخرى وبصورة سريعة ، ترتجف عضلات وجوههم على غضب شديد .. دهموا الغرفة والقوا نظرة شاملة على ارجائها بما فيها الرموز المتجددة التي ازدادت عمقاً وتهامسوا في ما بينهم :

"لقد جاع الكلب بما فيه الكفاية ، والرجل يجدد ذاكرته باصرار "

* * *

بمضي ساعة او يزيد عاد الصفير .. الصفير القديم الذي لعب بنفس الكلب حين فتح عينيه واشرع اذنيه ودارت بين فكيه قطرة لعاب .

حين تدانى الحارس كثيراً ، يتصاعد ايقاع صفيره الموصول ارتعد جسد الكلب وبدأ يضرب الارض بقدميه .. لقد كلّ نظره حين لم يكن الحارس يحمل طعاما بيديه . ثم تدانى كثيراً وما يزال صفيره يدفع بالكلب نحو الجنون ، حتى اذا نهض فاتحاً له ذراعيه تحول عنه نحو الغرفة واعمل مفتاحه في بابها فانفرجت تماماً.

فغر الرجل فاه وتراجع الى الوراء حين رأى الحارس يعود مسرعاً ليمسد على رقبة الكلب ويغمره بصفيره المثير ويُعمل مفتاحه في سلسلته من بعد .

لم يكن الحارس ذكياً هذه المرة حينما انقضّ كلبه عليه .


* عن الناقد العراقي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى