عبد العزيز دياب - أوسكار 18.. قصة قصيرة

إلى "أيسِلْ علاء"

وَضَعْتُ رُخَامَة في واجهة بيتي كتبت عليها فيلا "عبد العزيز دياب" صاحب الفيلم الحاصل على أوسكار 2018م

الناس في الحى الذى أقيم فيه لم يعجبهم أن أطلق على بيتي المتواضع كلمة فيلا، وأعجبهم كثيرًا أن أكون صاحب الفيلم الحاصل على أوسكار 2018م، لذلك اشتبكوا معي في حوارات ومناقشات عديدة تخص ذلك الأمر.

جاء أحد أصدقائي المقربين، وضع فمه قريبًا من وجهى، اتخذت ملامحه شكلا منبعجًا كاريكاتوريا: وَرَمٌ اعترى أنفه، انتفاخ مبالغ فيه لشفتيه، أما العينان فقد زحفت واحدة لأعلى واتسعت، كل ذلك لا يقارن بعظمة ذقنه المكلل بسكسوكة رائعة، تراجع للخلف قليلا وهو يقول:

"إزاى فيلم زي ده يعدى من الرقابة وياخد أوسكار رغم كل تجاوزاته؟"

"تجاوزاااات...؟!"

"أيوه تجاوزات"

بعد انصراف الرجل حاولت أن أتذكر اسم الفيلم، أو حتى القضية التي يناقشها لكنني لم أفلح وقلت إن أي واحد من الممثلين أو الفنيين يستطيع أن يساعدني في هذا الأمر، لم أتذكر كذلك أي واحد ممن شاركوا بهذا الفيلم.

الفيلم الحاصل على أوسكار 2018م ينبغي أن يصاحبه العديد من الندوات تحليلا، ونقدًا، وتغطية، وإعلامًا... هذا بالفعل ما حدث، سلسلة من الندوات، بدايتها كانت الندوة التي أقامها قصر ثقافة المدينة بخصوص الفيلم، وجدتني في ورطة، لكنها كانت ورطة لذيذة، وجه لي القائمون على الندوة دعوة للحديث عن الفيلم وملابسات منعه من العرض، كذا مشاركته في جائزة أوسكار 2018م

لن تخلو الجلسة ممن ينبشون في التفاصيل، ويضعون الفيلم في خانة ضيقة، فهم إما يريدون ذلك أو أن فهمهم كان خاطئًا، وعلى المخرج والكاتب انتظار التحقيق والمساءلة بأية تهمة يمكن أن توجه لأى منهما، لكن ألا يخبرني أحد إذا ما كنت أنا المخرج أم الكاتب...!

صاحب الحنجرة القوية والألفاظ اللامعة التي يقذفها بثقة وتَمَكُّنْ مثل: دَعْنَا.. لنفترض... أينما... ربما... تجاوزًا....، لن يسكت هو الآخر، بل سيهاجم كل من يتربص بالفيلم وصُنَّاعه، تتطاير الكلمات اللامعة مصحوبة بالآراء السديدة، ترتطم بوجوه المعارضين الذين لا يعرفون رؤية الفيلم ولا فنياته.

منحنى من يقوم على إدارة الندوة عشرين دقيقة أتحدث خلالها عن الفيلم، ماذا أقول وأنا لم أعرف اسم الفيلم إلا من خلال حديثهم، أيضا من خلال اللافتة الملصقة وراء ظهورنا التي يسبح فوقها اسمى "عبد العزيز دياب" ولا يستقر أبدًا في مكان بمساحتها العريضة البراقة.

فخامة اللافتة، والمكان، والإضاءة، والحضور الكريم بالبدل والكاسكيتات والبرانيط، علب الكانز الأنيقة يقدمها شخص يجيد انحناءة سريعة... رشيقة... مبتسمة، كل ذلك تركني في حالة من الارتباك، قلت أفضل شيء أن أتحدث (على العايم) كما يقولون، أو في المطلق وبدأت... تحدثت كأنني أرى أحداث الفيلم تركض أمامي، أو أنني أنتجت فيلما في مخيلتي يمنحني القدرة على الحديث المنمق الذى يحمل كلمات مثل: دعنا... لنفترض... أينما... ربما... تجاوزًا....

لا أعرف من أين جاءت كمية التصفيق هذه، تصفيق عنيف... حار... متدفق، إذن أنا صاحب الفيلم، وجاء اللامعون من الجمهور، قاموا باحتضاني وتحيتي.

كان لزوجتي الحق وهى تدفعني دفعًا لحضور الندوة: الندوة من غيرك ملهاش قيمة....!

جَهّزَتْ بدلتي الكالحة، أرسلتها إلى "هابي كلين"، جميل هذا الاسم حتما سأضعه في سياق فيلمى التالي الذى سيحصد بشيئة الله "السعفة الذهبية"

فليكن حديثنا الآن عن أوسكار 2018م، أنا كنت من المعارضين لإرسال الفيلم إلى مهرجان أوسكار، لأن عدم حصوله على الجائزة أو دخوله القائمة القصيرة هو إهانة للفيلم، وللقائمين عليه، ولمصر كلها، وسمعت صوت الأغنية في رأسي "أنا الشعب... أنا الشعب... لا أعرف..."

"يا أخي... إنت ما تعرفش قيمة فيلمك ولا إيه؟!"

الغريب أن أهلي، وجيراني، وأصدقائي ما كانوا يصدقون أبدًا أي كلام أقوله... حدثتهم عن جدى الرابع عشر بأنه مؤسس هذه المدينة، كافح المماليك إلى جانب محمد على باشا، حاول مملوك اغتياله في سفح جبل المقطم، لكنه تغلب عليه، كانت تنتظره رتبة عسكرية، أو منصبًا من مناصب الدولة، لكن وشاية قذفت به إلى السجن بعد أن أسس هذه المدينة، كان محبًا للفن، ترك هذا المكان من أملاكه خاليًا، شُيِّدَتْ فيه دار سينما في عصرنا الحديث، بعد أن أتاه في حلمه أشخاص مسطحون، أو ثلاثي الأبعاد، أو أي شيء من هذا القبيل يركضون داخل مربع على الحائط، قال له المفسرون إن هذه رؤى الشيطان أعد له جيشًا مسطحًا من صغار الشياطين...

لم يصدقوا كذلك أن القبعة التي أظهر بها في المناسبات الخاصة هي قبعة "أرشميدس"، قذف بها في الفضاء عندما اكتشف قانون الطفو والإزاحة وهو يهتف: وجدتها... وجدتها، فظلت القبعة طائرة تسبح في الفضاء سنوات طويلة، عبرت البحر الواسع حتى سقطت قريبة من قبر جدى الثالث عندما كنت أقرأ الفاتحة على روحه وروح كل من سبقوه... بذلك أصبحت قبعة "أرشميدس" المطبوع عليها حروف اسمه بحوزتي.

لم يصدقوا هذا الكلام، لكنني اليوم- وهذا ما لم يعترضوا عليه- صاحب الفيلم الحاصل على أوسكار 2018م، فلا غرابة لو جاءني شخص ودود وتحت إبطه المجلة التي ورد بها الخبر بحصول الفيلم على جائزة أوسكار 2018م، كما أنني لاحظت اسمى "عبد العزيز دياب" لكنني لم أتأكد إن كنت مخرج الفيلم أم كاتبه.

قلت إن كانت اللوحة الرخامية التي وضعتها في واجه بيتي هي السبب في كل ذلك اللغط فقد آن الأوان لإزالتها، لكن زوجتي صرخت صرخة حقيقية منعتني من حماقة كنت سأرتكبها، بعدها عرفت أن معها كل الحق في تلك الصرخة... جاء مسئول من المدرسة الكندية يطلب أوراق ابنتي "أيسل" وجه القمر كما نطلق عليها لأن إدارة المدرسة قد منحتها مكانًا مجانيا في فصول "كيجي ون"، وجاء مندوب من المحافظ يبشرنا بأن المحافظة منحتنا شقة ضمن مشروع إسكانها الفاخر، وما علينا إلا الحضور لإتمام إجراءات استلامها، و.....،.....، بدأت السماء تهطل... تهطل.

لا أعلم بالتحديد الوقت الذى اندفعت فيه أفتش في أوراقي، لكنني أخمن أنه كان بعد إفاقتي من غفوة، أو بعد رجوعي- كما أخبرتني زوجتي- إلى البيت ساعة الظهيرة أرتدى برنيطة تشبه التي كان يضعها "فؤاد المهندس" على رأسه في فيلم "أخطر رجل في العالم"، لم أعثر في أوراقي على ما يفيد بأنني مخرج أو كاتب أو مصور، أو حتى كومبارس، لكنني عثرت على كتابة بخط يدى: مطلوب القبض على مجرم خطير يتقمص دور فؤاد المهندس في فيلم "أخطر رجل في العالم"، وطلب تَقَدُّمْ لمعهد السينما، مع وثيقة تفيد برسوبي في امتحان القدرات بالمعهد عام 1985م، وتسجيل بصوتي أقوم فيه بتقليد الفنانين بطريقة فجة، وإخطار لولى الأمر بتعدد مرات هروب نجله "عبد العزيز دياب" أثناء فسحة المدرسة لدخول سينما "باللو"، وبعض أعداد من مجلة الفن السابع عليها تفل شاي وبقع زيت وعناكب محنطة.

بدأت من جديد أجهز نفسى للحصول على "السعفة الذهبية" عن أحد أفلامي القادمة كمخرج أو كاتب أو أي شيء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى