غبرييل بن سمحون Gabriel Ben Samhoun - المرأة التي بسطت جناحيها.. قصة قصيرة - ترجمها عن العبرية: محمد المدلاوي

كلما مررت بذلك الزقاق من تحت تلك النافذة الزرقاء المطلة على حي الصفـّاحين وسمعتُ نغمات أوتار الماندولين، إلا ورفعت عينيّ لأرى ما إذا لم تكن تلك المرأة باسطة جناحيها في الهواء. إنها النافذة التي منها ارتمت ياقوتُ، خالتي وشقيقة أمي، بعدما تمّ تزويجها بشمعون؛ لقد فعلت ذلك على إثر سماعها لأنغام موسيقى تسيون، عشيق قلبها وزميلها في الفصل. كانت في ربيعها الثاني عشر لما وعد بها أبوها حاييم عوليل عونه شمعون، الذي يساعده في أعمال الحقول. كان شمعون شخصا عظيم الجثة، قويا ومفتول العضلات، ويناهز الثلاثين من عمره، وكان يساعد حاييم في كافة أشغال الحِـقالة من حرث وزرع. لقد كان بذلك قادرا على تأمين حياة كريمة للفتاة الصغيرة. وكان، زيادة على ذلك، من ذوي قربى العائلة؛ فلم يكن يبقى هناك إذن من داع ولا مبرر لعدم الاستجابة لوفد الخـُـطـّاب الذين حلوا ذات يوم سبت ببيت حاييم محمـّلين بالهدايا من عطور وحـُلىً ذهبية، راغبين طالبين منه ابنته لتصبح ربةً لبيت شمعون.

أعد الجدُّ عوليل والجدة ُ يامنة ببيت حاييم مائدة غنية بألوان السلائط، والمتـَبـّلات، وقنينات النبيذ، وغير ذلك، ثم بعثا بمن يدعو أهل الفتى شمعون، ومن يحضر السخائن من الفرن العمومي، ثم استوى أفراد الأسرتين يأكلون ويشربون مع الأحبة والأقربين، يرتشفون جرعات النبيذ ويتعانقون، بينما بقيت ياقوت، الخطيبة ذات الاثني عشر ربيعا، مستغرقة في لعبة القفز على الحبل مع أخواتها على سطح المنزل.

كان ذلك بالنسبة للأسرتين فاتحةَ فترة من أجواء الانشراح والغبطة والأفراح. فبينما كانوا يتبادلون دعوات الاستضافة فيما بينهم، كان الجميع، ولمدة أسبوع كامل، منشغلا بإعداد فقرات حدَثِ العتُرس، من تهييء للرقائق والحلوى، وتقطيرٍ للنبيذ، وإعدادٍ لألوان الأطباق والسلائط، استعدادا ليوم الإسبات المشترك المرتقب. غير أنه – وخلال كل تلك الاستعدادات – لم يكن أحد قد فكر ولو مرة في محاولة معرفة رأي ابنة الاثني عشر ربيعا في هذا الأمر أو ذلك. وهي لم تكن تعلم من جهتها بأنه في الوقت الذي كانت فيه ما تزال تمارس لعبة القفز على الحبل وتتخذ من علبة سجائر أبيها قطعةَ لعبٍ على رقعة لعبة الخانات، كان أهلها يعرضون أمام أهل زوجها المرتقب ترازيم تجهيز عرسها، باسطين أمامهم كل أصناف فساتين اللباس وكل مواد تجهيزها، بينما يتقبلون منهم شروط وعناصر عَـقـد نكاحها وضمان معاشها. لقد وجدت نفسها بين عشية وضحاها، ولمدة أسبوع كامل، بطلة رئيسية في قصة عرس أسطوري: ما لا حصر له من الحلويات ومن اللذائذ في أجواء من الغناء والرقص وألوان الفساتين وأصناف اللعِـب؛ ثم هناك على الخصوص ما جربته خلال كل ذلك وهي متأزرة إزارا أبيض في طريق الذهاب بها إلى حوض الميقفي (מקווה)، لما كانت زميلاتها يتسابقن على قرصها قرصا بأطراف أصابعهن، ووخزها وخزا بالإبر كما جرت بذلك التقاليد، وهن يتضاحكن ويغنـّين كلما غطسنها في ماء حوض الميقفي على ضوء الشموع وروائح البخور؛ هذه تغسل يدا لها وتلك تغسل لها رجلا.

في طريق عودتها إلى البيت استقبلتها النساء بالسكـّر والحليب على طول جنبات الطريق مقدمات لها ملعقة من ذا وملعقة من ذاك. أما المسنـّات منهن فقد تجمعن ليلا ليضفرن لها غدائرها وهن يعاقرن النبيذ ويرددن أناشيد فراق وتشييع حزينة. ثم بعد ذلك كان الانطلاق نحو بيت العريس على إيقاع وأنغام الجوق؛ وكانت ياقوت، وهي في حـُلة ملكة، محمولة على أريكة عبر الشوارع والأزقة، والمدينة بأسرها تسير خلفها حاملة الشموع تخترق بها سحب البخور. اعتقدت الصغيرة ياقوت خلال كل ذلك بأنها أنما كانت تمتـثــِل من خلال ذلك لإرادة أبويها ضمن طقوس مناسبة أقاماها لحسابهما الخاص ضمن سلسلة الأفراح والأعياد المتعددة التي دأبا على إحيائها. فلم يخطر ببالها لحظة بأنها قد تزوجت بالفعل وبأن الشخص الذي كان إلى جانبها في الحفل والذي هو في سن عمها ينوى بالفعل أن يصبح لها بعلا ويتخذ منها ربة لبيته. فقد اعتقدت بأن أبويها قد أعدا لها من جديد وعلى سبيل الدعابة مُزحة تـنـكـُّـرية من مـُزَح الصبية: تمثيلية زواج يتخذان منها ذريعة لإحياء سنن الاحتفال بعيد من الأعياد كعيدي "البوريم" أو"الحانوكة" أوغيرهما. ذلك أن قـِرانها الحقيقي عندما تكبر، كانت قد حسمت في أمره مع نفسها كما تصورته على أساس أن يتم مع تسيون، زميلها في الفصل الذي كان يجلس خلفها والذي دأب على مداعبة ذؤابتيها وعلى ملاطفة قفاها من حين لآخر موقظا لديها أحاسيس غريبة ممتعة.

كان تسيون يكتب لها جذاذات بـَوح على شكل رسائل وأشعار. لقد جمعت ما يقارب حجم كراسة كاملة من أشعاره. وكان يغني لها بعض تلك الأشعار على نغمات الماندولين تحت نافذة غرفتها، فكانت تطل من حين لآخر من النافذة فترمي إليه بباقة صغيرة من السوسن الأحمر الذي دأب من جهته على أن يأتيها به في الغداة إلى الفصل. كان أسود الشعر أخضر العينين؛ وكان تلميذا متميزا ومحبوبا لدى أساتذته. كان يحتل الرتبة الأولى في الفصل وكان منافسَ ياقوت في مادة الحساب بحيث إنه ما من مرة تـُفلح فيها ياقوت في التوصل إلى حل مسألة بالغة الصعوبة إلا وتحداها قائلا بأنه إذا ما ثبت لديه بأنها قد توصلت إلى الحل اعتمادا على نفسها، وبغير دعم من أبيها أو من أخيها، فإنه سيرمي بنفسه من النافذة.

من البديهي أنه كان يُحظـَر على الطفلين حظرا كليا أن ينفردا بنفسيهما. لكن كان يحصل لهما من حين لآخر أن يلتقيا في الحديقة العمومية خارج حي الملاّح، فيجلسا جنبا إلى جنب بينما أنسام الورود واليسامين تملأ الفضاء وتنعش الجو من حواليهما، وهما حذِران محتاطان من أن يقع عليهما نظرُ أحد الأقرباء أو الجيران. تمكنت ياقوت يوم السبت الأخير من التسلل من البيت إلى بوابة المدينة حيث كان ينتظرها تسيون. من هناك اتجها نحو شلالات المياه ثم زادا فتجرآ على الدخول هناك إلى المقهى الوحيد المتوفر في مدينة صفرو، فجلسا إلى طاولة. لما وقف عليهما النادل سائلا عما يرغبان في تناوله كمشروب، لم يجد أي واحد منهما ما يجيب به. عاد إليهما النادل على التو مبتسما بكأسين من مشروب مخضرّ اللون فوضعهما أمامهما قائلا: " 'بيرنو'؛ هذا يسمونه 'بيرنو' ". كانت حافة الكأس محلاة بما يشبه السكر أو العسل؛ لكن ما لبث المشروب أن أحدث دوار خفيفا في رأسيهما إلى حد أنه مع الجرعة الثانية كانا قد شبكا أصابع أيديهما، ومع الثالثة تجرأ تسيون على طبع قبلة على جبين ياقوت، التي قبلته بدورها على وجنته. لم يجرؤا على أكثر من ذلك، ولكنهما تيقنا بأنهما سيتزاوجان في يوم من الأيام.

غير أن ما حصل اليوم هو أن ياقوت وجدت نفسها إلى جانب شخص آخر في حفل عرس لا أثر فيه لوسائل ومظاهر التنكر؛ إذ اتضح أن المناسبة لم تكن مناسبة عيد "البوريم" [الذي اعتاد الصبية أن يمارسوا خلاله لعبة التنكر وتبادل الأدوار الاجتماعية]. فهاهم قد أوصلوها إلى بيت العريس في موكب حقيقي يتقدمه جوق من النافخين والناقرين. ولقد خلـّفها أهلها هناك وحيدة وعادوا إلى بيوتهم رفقة صديقاتها وكل النافخين والناقرين والمغنين والمغنيات، والراقصين والراقصات. لقد وجدت نفسها فجأة في عقر غرفة غريبة الأطوار وقد أخذت جوقةٌ من النسوة ينقرن في إيقاع من الخارج على بابها المغلق، بينما يوجد إلى جانبها على السرير ذلك الشخص الذي كان يلعب دور العريس فيما كانت تعتقد أنه حفل "بوريم". ألقى عليها بعقيرة رجله مرددا دعاء "سبحانَ مَن وهبنا الحياة ..." ثم شرع في نزع ثيابها عنها. دفعت عنها عقيرتـَه بعنف ثم قفزت نحو الباب تدق بقوة لتفتح لها النسوة؛ إلا أنهن حسِبنها تشاركهن النقرَ في غنائهن، فصعـّدن من وتيرةِ إيقاعِ نقرهن. سقطت على الأرض مُغمىً عليها. ولما استيقظت في الغداة اعتقدت بأن الأمر كان محض كابوس ليلي ولم تفهم بعد ما سر وجودها هناك. أرسلت في طلب أبيها ليصحبها معه من هناك، لكن لم يظهر أحد. احتارت فيما عسى أن تفعل وما عسى أن تقول لخليلها، تسيون. أما تسيون، فإنه لم يستوعب من جهته ما حصل لياقوت، فكان يتوجه بعد حصة المدرسة إلى حيث أصبحت تقطن فيجلس تحت نافذة بيتها الجديد بقيثارته صادحا بأشعاره القديمة والحديثة التي قالها فيها. كانت الأنغام تصل إلى أذنيها فيتألم قلبها كمدا وتذرف عيناها الدمعَ من بعيد على أوتار قيثارته. كلما حاول زوجها، شمعون، ليلا الاقتراب منها كانت تدفعه عنها بنزواتيةٍ حادة. لقد بقي حائرا فيما عسى أن يكون منفرا إياها منه. أخذ يحضر لها من أصناف الحلويات واللذائذ، ولكن دون جدوى. جاء أبوها بعد ذلك فقضى معها على سرير النوم أشهرا طوالا، لعلـّها - حسب اعتقادهم - تتعود على وجود رجل إلى جانبها على سرير النوم فتسـوّى الأمور بمجرد ما تستقبل العروس الصغيرة عادتـَها الشهرية الأولى. وبالفعل، لما حصل ذلك ذات صباح، قام أبوها بقلب مطرف السرير ثم انصرف ولم يعد.

عاد الزوج من جديد إلى محاولاته مع ياقوت التي عاشت الآن تجربة حيضها الأول، لكن عبثا. بدأت ياقوت تشكو من بعض الآلام فأرسلت في طلب أمها أو إحدى أخواتها لتنام معها وتؤنسها ليلا؛ ذلك أنه حينما تجد نفسها رأسا لرأس مع زوجها كان يستبد بها الجزع فتخرج عن أطوارها، فكانت تعضه وتندُب صفحتي وجهه بأظافرها فيضطر إلى الخروج إلى صلاة الفجر بوجهه المشفـّر في كل اتجاه بخموش محمرّة. وحينما ينصرف للعمل في الحقول كان تسيون يتسلل إلى المكان المعلوم تحت النافذة يتغنى فيه بأشعار غرامه، فكانت تطل عليه من النافذة وهي تتمثل نفسها تعانقه في الحديقة العمومية أو في مقهى الشلالات حيث كانا قد تناولا مشروب "بيرنو" وجرّبا أولى القـُبلات.

بعثـَتْ يوما في طلب أمها سائلة أن يـُعيدوها إلى بيت أبيها؛ فقد استبد بها الحنين إلى لعبتي الحبل والخانات على سطح منزل ذويها. إلا أن الأم لم تستجب؛ إذ ما عسى أن تفعل؟ أفــبإمكانها أن تُعيدَ عجلةَ الزمن القهقرى؟ فمن ذا الذي سيقـْدِم على الزواج من ابنتها إذا ما حصل أن طلقت؟ الأسلم لابنتها إذن أن تتعود على أمرها ونصيبها كما تعودت هي نفسُها على نصيبها من خلال تجربتها مع أب ياقوت، وكما تعودت الجدة على مثل ذلك مع الجد. غير أن صحة ياقوت أخذت تتدهور يوما بعد يوم. وذات يوم، ما أن سمعت أوتار قيثارة تسيون حتى اعتـلَـت حافة النافذة واقفة، فبسطت ذراعيها ورمت بنفسها من النافذة.

--------------------

جبرييل بن سمحون كاتب قصصي ومسرحي وأستاذ للسينيما والتليفزيون متخصص في السينيما الإيطالية. وهو من مواليد مدينة صفرو سنة 1938. من أهم أعماله المسرحية مسرحيتا "1948" و מלך מרוקאי "ملك مغربي". ومن أهم أعماله القصصية המהלכים על המים "المشاة على الماء"، הולכת עם כמון חוזרת עם סעתר "يا لغادية بالكامون، يا لراجعة بزّعتر"، و פנטאזיה מרוקאית "فانطازيا مغربية". فضاءات أعماله القصصية تتوزع ما بين صفرو، وفاس، والشاون، وزاكورة وغيرها، وتتميز من الناحية الفنية بتداخل الواقعية والفانطاستبك راصدة التداخلات السوسيو-ثقافية التي كانت تخترق النسيج الإثني للمجتمع المغربي منذ الإربعينات من نهاية القرن العشرين.

توثيق مرجع القصة المترجمة عن اللغة العبرية "المرأة التي بسطت جناحيها" الواردة في صفحات 32-35 من مجموعة جابرييل بن سمحون القصصية التي هي بعنوان معناه "الذاهبة بالكامون والعائدة بالزعتر؛ قصص غرامية مغربية" :

בן שמחון גבריאל (2002) "האשה שפרשה כנפיים". דף 32-35 הולכת עם כמון, חוזרת עם זעתר. סיפורי אהבה מרוקאים. הוצאת הקבוץ המאוחד.


* عن:
جبرييل بن سمحون: المرأة التي بسطت جناحيها / ترجمها عن العبرية: محمد المدلاوي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى