على حزين - المحطة الأخيرة.. قصة قصيرة

في صبيحة ذلك اليوم .. خرج مستعجلا من البيت.. علي غير عادته .. يتأبط حقيبته الرمادية .. يقف في نفس المكان .. ينتظر الأتوبيس الذي يقله إلي العمل .. كجزء لا يتجزأ من روتينه اليومي .. واقفا ينتظر حتى يفرغ النازلون.. فهو لم يعد قادراً علي المقاومة.. فجسمه النحيل يعجز علي دفع تلك الأجسام الضخمة , والتي تبدو من نظارته المقعرة , وكأنها قطعان من الفيلة الاستوائية .. تأفف في ضجر .. وهو يتمتم ساخطاً ...

ــ زحام .. زحام ...أ.أ.أ.ف ...!!

" سارينة " الأتوبيس تخرم أُذنيه .. يقفز.. متقززاً .. يدفعهُ رجل في حنقٍ واشمئزاز, يأمره بالإسراع حتى يمكنه المغادرة .. أومأ إليه برأسه وقد انتشرت ابتسامة صفراء بين طرقات وجهه , الذي حفرته الشيخوخة والمرض .. استطاع أخيراً أن يجد مكاناً .. ليضع رجله في الأتوبيس , والأخرى علي السلم .. وهو متكالب علي حقيبته الرمادية .. التي ترقد بداخلها رواتب الموظفين .. أخرج من جيبه ــ بصعوبةٍ بالغةٍ ــ ساعته " ماركة " التُرومّاي" لينظر فيها حتى يتأكد انه لم يتأخر عن موعده .. يتوقف الأتوبيس .. ينزل بعض الركاب .. وقبل أن يصعد غيرهم .. كان قد وجد له مكانا أخر أفضل .. وقف فيه.. أشعل سيجارة صنع محلي , أخذ نفساً عميقاً , احتبسه في صدره , ثم أطلقه في الهواء .. يلتحف وجهه المترهل دوائر الدخان .. يسعل بصوتٍ عالٍ .. ينصحه من بجواره .. بعدم التدخين مرة أخرى.. ويشرع في شرح مطول , عن أضرار التدخين , المادية والصحية , فضلاًً عن حرمتها الدينية , .. و.. و... يشفط نفساً أخر , وهو يهز رأسه , مستمعاً إليه , وقد طلب منه الدعاء له بالهداية.. يسعل مرة أخري حتى تتهاوى قواه ..

الأتوبيس يشبه علبة سردين .. تفحص الوجوه التي لم تتغير كل صباح .. نفس المساحيق التي هي من الدرجة الرابعة , والتي تبعث علي الغثيان والاشمئزاز , الهواء يكاد ينعدم من حوله , شعر بالضيق والاختناق..

تذكر ... " أنه لم يدفع إيجار الشقة منذ ثلاثة أشهر , والبقال البارحة ألمح له عن الحساب " .. شفط نفساً عميقاً من السيجارة , واسترسل في تداعياته .. أما المعلم " سيد "، فقد ردّه البارحة، وهو خاسئاً عندما رفض أن يقطع له نصف كيلو لحمة علي " ألنوته ".. أبتسم وهو يتكئ علي الباب , واثقاً من حقيبته , التي احتواها تحت جناحيه , اللذين ينزان عرقا , نظر إلي حذائه المتآكل .. وتذكر أنه لم يغيره منذ فترة طويلة ,

ــ المحطة اللي جاية للنازل ..؟!.

نزل كثيرون , وصعد أكثر, وهو كما هو, مرابطاً في مكانه , يخشى أن يتأخر, ويحذر الزحام , يقع بصره علي فتاة حسناء, تكاد العيون تلتهمها , يقترب منه " الكُمسارى "..

ــ اشتراك ..!!

ــ .........

يأخذ نفساً أخير من السيجارة قبل أن يلقي بها من الباب لتتطاير في الهواء .. يتذكر ..." عم بسيوني حين يفرُك يديه .. حتى يَعُدّ ورائي راتبه ... هو لا يتهمني ــ لا سامح الله ــ ولا يشك في ذمتي .. ولكن يخشى أن أنسى لحكم السن ... أما الأستاذ " محمد " فسوف يأتيني كعادته .. يغمزني بسيجارة , وكوب الشاي الساخن .. حتى أعد له راتبه .. قبل زملائه .. يتمتم .. " معذور يريد أن يتزوج .. خطيبته هددته في أخر لقاء بينهما .. إما الشقة , وإما أن ترد له دبلته , فعمتها معها عريس " متريش قوي" ومستعجل كمان" ــ علي حد قولها ــ " يحدّث نفسه ..

ــ آآه..معذور يا أستاذ " محمد " أنت وأمثالك .. الدنيا غلا وبلا .. والفقر ينهش في أخلاق الناس ...!!! .

ــ أيه الوقاحة وقلة الأدب دي ..؟!!!

يعم الركاب فوضى ..هرج , ومرج , وصياح .. وهو ما زال مرابطا في مكانه , ممسكاً بحقيبته كأسدٍ ممسك بفريسته , يصفر الكمساري , يقف الأتوبيس , ينزل بعض الركاب, ويصعد آخرون , يلمح الفتاة وقد أجلسها شاب بجواره .. تجلس وهي تصلح من فستانها ... قائلة بصوتٍ مرتفع:

ــ قلة أدب ...!!

أحد الصبيان يحمل فوق رأسه.. حزمة من الجرائد .. والمجلات .. يزعق بمد صوته الحار ...

ــ اقرأ الحوادث ... الإرهاب ... جريمة الاغتصاب الأخيرة ..؟ !!.

راح يقلب عينيه بين المنشات الملونة.." إسرائيل تعتدي على .. " الكروات والصّرب يحتلون.....".. الأمم المتحدة تقول ... العراق ... " مصر".... وإعدام 47 إسلامياً متطرفاً في الجزائر .... يهمس شاب في أذنه ..

ــ أخبار الرياضة لو سمحت ..؟!!!

أشارت إليه إحدى السيدات ... بالجلوس في المقعد المجاور ... يجلس في حذر شديد ... فكثيراً ما قرأ .. أو سمع عن السرقة... من خلال فتاة جميلة تستدرج الضحية بالكلام .. و.. و....... يخرج علبة سجائره .. يشعل النار في واحدِة ... ينظر من نافذة الأتوبيس ... والذكريات تتقافز في رأسه .. أخرج منديله البنفسجي ليجفف عرقه المتساقط .... ينظر إلي المرأة الجالسة بجواره .... وقصص السرقات تملأ رأسه ... و.....


على السيد محمد حزين ــ سوهاج ــ مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى