دريني خشبة - 2 - أغنية الرياح الأربع.. لشاعر الحب والجمال علي محمود طه

تنطلق الزوجة الحسناء داخل الحانة برمة، ثم يقبل البحارة، فيأخذون في هرج ومرج، تزيدهما النشوة ضجة واصطخاباً، فإذا سألوا من صاحب الحانة وقدم لهم أرسطفان نفسه، عبثوا به وضحكوا منه:

أنظر إلى وجهك في المرآة ... وصف لنا عجيبة الحياة
من أي غاب يا وحيد القرن ... وما اسمك الصحيح؟ لا تكنى

فيقول لهم: أرسطفان. . . فيقول أحدهم

. . . علَمُ مغلوط ... صحته وشكله المظبوط
تنبئ عنه هذه الخيوط ... أرسطفان أنت أخطبوط!!

وهكذا يستغرق الجميع في ضحك متصل، تزيده القيان الحسان اللائى صحبن البحارة بهجة وإيناساً ومرحاً. ثم تأخذ إحداهن في رقصة بارعة يدخل بعدها بطل الدرامة الرهيب (أزمردا) فيأخذ مكانه في ناحية، ويسود الحانة جو من الوجوم لا يفيقون منه إلا على إنشاد باتوزيس الذي يتغنى لهم قصة تلك الآشورية التي تعشقها فتى ملاح، ووقع هو الآخر من نفسها فدعته إلى سفينتها وانطلقا يذرعان البحار عامين سعيدين حتى فرقت بينهما يد الأقدار حين نزل الفتى إلى الشاطئ للصيد فأتي قرصان فصاد حبيبته وذهب بها إلى حيث لا يدري العاشق المسكين. . . وروى أن هذه الحسناء قد تزوجت من بعض الآلهة فأنجبت منه (ربات الرياح الأربع)

فإن سمعتم في صدى الأمواج ... أو لحن شاديكم
أغنية تهفو على الأثباح ... حيرى تغاديكم

فهي لها، وهي تناديكم

فإذا سأله البحارة عن هذا القرصان الفاجر أين مقره، قال باتوزيس إنه يجلس بينهم كواحد منهم. . معرضاً بأزمردا. . . أزمردا القرصان الهائل الذي دوخ أطراف البحر، وزلزلت سطواته جزائر إيجة وشطئان مصر، وأحرز من خطف الحسان ثروة طائلة وبأساً شديداً. .

فيظن البحارة أن باتوزيس يمزح، ثم ينصرفون من الحانة إلى ملذاتهم ومعهم حظاياهم بعد أن ينقدوا الخمار ثمن شرابهم. . . ويقبل أرسطفان على الشاعر المصري مسروراً باشاً لأنه كان روح هذه الليلة بشعره وغنائه وموسيقاه، ويقدم إليه كأساً راوية فيأمر له (أزمردا) بأخرى، ثم يأخذان في حديث طويل نعرف منه انهما كانا صديقين منذ زمن طويل يعملان في البحر ثم افترقا، وأن أزمردا يعمل الآن في القرصنة والاتجار في سوق الرقيق الأبيض، ثم يعاتبه لتعريضه به بين أولئك السكارى، وما غمره به في قصته التي رواها لهم. . . ويحدثه باتوزيس حديث (ربات الرياح الأربع) الذي سمعه في آخر زيارة له في طيبة المصرية:

فتيات أربع يظهرن في ... كل عام صوراً مختلفات
رائعات يتخطرن على ... هذه الأمواج مثل النسمات
فوق شط رمله من ذهب ... لؤلؤي الماء درّي الحصاة
من يحزهن يحز ملك الثرى ... ومقاليد البحار الطاغيات

فإذا جادله أزمردا في أمرهن أكد له باتوزيس حقيقتهن، فيعرض عليه أزمردا أن يعيش معه في سفينته

تعال في سفينتي وكن أخي وساعدي
وذق مباهج الحياة عذبة الموارد

ثم تسمع ضجة عند باب الحانة، وتدخل جماعة من الشذاذ وعلى رأسهم زعيمهم أزيرو ومعه حظيتان من حظاياه لا تلبثان أن تخرجهما حميا الخمر عن رشدهما، فتشاجر إحداهما الأخرى فيصفع أزيرو إحداهما ويطرحها أرضاً فينتصر لها أزمردا ويرفعها بيديه إلى كرسيها فتثور ثائرة ازيرو ويمتشق حسامه ليغمده في صدر ازمردا. . . فينتفض ازمردا كالأسد، ويكشف عن نفسه ويضرب بسيفه سيف أزيرو فيكسره. . . ويذهل الجميع حين يعرفون أنهم في حضرة القرصان الأكبر، وترتفع صيحة من جوانب الحانة يرددها الجميع مشدوهين:

أز. . . مر. . . دا

وينزل ستار الفصل الأول! ويتألف الفصل الثاني من منظرين. . . من أروع ما وصل إليه خيال شاعر - لا في مصر وحدها، بل في الدنيا قاطبة! وهكذا أقولها غير عابئ بجميع الابتسامات التي أراها الآن ترقص على شفاه الكثيرين من قرائي، وعلى أرنبات أنوفهم!! ومن الخطر الأدبي تلخيص هذا الفصل. . . فهو وحدة فنية كاملة يجب ألا تشوه بالتلخيص. وحسبك أن تعلم أن سفينة أزمردا ترمي في ميناء رفح المصرية قبيل الشروق، وأن أزمردا ينزل إلى الشاطئ وحده فيلقى ربات الرياح الأربع يتواثبن راقصات على الرمال النائمة، فيغريهن بزيارة سفينته ويمنيهن الأماني، فإذا طلبن إليه برهانه أبرز لإحداهن وهي حروازا، ربة ريح الشرق، ياقوتة حمراء تبهر العين وتذهب باللب. . . ثم ينتصر بيان أزمردا، فيرضين بزيارة سفينته آخر الأمر. . .

ونرى في الفصل الثالث جانباً من سفينة أزمردا، فهنا مخدع الشاعر باتوزيس، حيث يوقظه العبد ماتوكا ويقدم إليه طعام الإفطار، ويأخذ معه الشاعر في حديث عن حظوظ بني الإنسان، ندرك منه أن ماتوكا لا يبغي بحياة الرق بدلاً

سفينتي هي الحياة والغد المؤمَّل
قد طاب لي في ظلها العيش وطاب المنزل
ومن كساء سيدي الربان هذا المخمل
ومن شرابه أعل هانئاً وأثمل
أي حياة لي من هذى الحياة أجمل؟

وينصرف العبد، ويدخل أزمردا إلى بهو مجاور وفي صحبته ربات الرياح الأربع فما يلبثن أن يوجسن خيفة ويستربن فتطمئنهم حروازا وتذكرهن أنهن آلهة. . . ويمضي أزمردا ليخبر باتوزيس الذي لا يصدق إلا بعد لأي. . . . فإذا سأله عم يصنع بهن وهن آلهة، قال:

أسخرهن قوى ينتظمن ... شراعي ما قادني مطمعُ
وأغزو بهن منيع الثغور ... وأجني الثراء وأستمتع

فيسأله باتوزيس: أتطمع في ملكوت السماء؟ فيقول أزمردا... أو يقول علي محمود طه... بيته الخالد الذي هو أثمن من ديوان: خُلقنا غرائز منهومةً ... فليست تروَّي ولا تشبع!!

ويوشك باتوزيس أن يجن جنونه لهذا القرصان الجريء المغامر الذي لا يبالي أن يخطف حتى الآلهة. فيثور على أزمردا ويثور أزمردا به، فينطلق باتوزيس، ويسمع أزمردا أصوات ربات الرياح الأربع فيقصد إليهن ليسري عنهن، ثم يدخل ماتوكا العبد ليدعو سيده لتسكين ثائرة إحدى المخطوفات فيذهب معه، ويبرز باتوزيس، فإذا سألنه من هو قال:

لا وقت للسؤال من أنت هنا ومن أنا
أنتن في سفينة القرصان، لا وقت لنا

ويخبرهن خبر أزمردا فيطمئنه، ويدخل أزمردا متقلداً سيفه فيرى باتوزيس ويدرك أنه قد فضح سره فيهم بقتله لولا أن تحول الربات بينهما ويأخذن في السخرية بأزمردا، نيهم بقتل باتوزيس ثانية فتمد حروازا ذراعها السحرية فيجمد الدم في عروق أزمردا ويسقط السيف من يده، ثم يرجف بدنه رجفاً شديداً وتغرورق عيناه بالدموع التي تخنق عبراتها صوته ويطلب الصفح على أن يكون خير عباد الله براً وصلاحاً واستقامة. ثم ترق الربات له ويسمعن ضجة، وإذا الحسناء التي كانت ثائرة بالداخل مقبلة، فتلتفت إليها حروازا ويبطل سحر ذراعها فتدب الحياة في أزمردا الذي يتناول سيفه مرة ثانية ويهم بالغدرة مهدداً الربات وكل الحاضرين بالقتل، فتمد حروازا ذراعها ثانية فيجمد الدم في عروق حروازا من جديد، ويسقط السيف من يده، ثم ترفع الربات أيديهن وينفخن. . . فإذا ريح صرصر عاتية تحمل أزمردا فتقذف به في أعماق اليم

وبعد. . . فهذا سحر وشعر وجمال وفن!

(يتبع)

دريني خشبة



مجلة الرسالة - العدد 549
بتاريخ: 10 - 01 - 1944

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى