عبدالرحيم التدلاوي - بلوغ

وصلت المكان المحدد قبيل الموعد بدقائق معدودات ، وجدته ظليلا بأشجاره السائبة وقد تركت لوحدها تنمو بحرية ، ربما لكون صاحبها قد سحبت من تحت أقدامه أرضه ، و ربما مات و لم يخلف عقبا. كان المكان منعشا تتلاعب فيه النسائم بطلاقة ، غير بعيد يوجد الملعب الذي شهد مبارياتنا ضد فرق الأحياء المجاورة ، كما شهد صولاتي ، و سجل بمداد التذكر إصاباتي البارعة.
حضر أصدقائي تباعا ، و قد بدا التعب أو الخوف على محيا بعضهم. أخبرني علي أنه وجد في طريقه حافلات مشتعلة يتصاعد منها اللهب ، و شاهد شبابا يافعا ، و أطفالا صغارا ، و رجالا غاضبين يرشقون بالحجارة مدرستنا و كل السيارات المارة بلا تمييز ، كما تابع أطوار صنع حواجز من إطارات السيارات المنهوبة و قد صارت كتلا من النار لإبعاد قوات التدخل السريع ، و المدرعات الماجة الماء لتفريق الجموع. قال لنا :
لقد بقيت أتابع المظاهرات الجامحة بمتعة و كدت أنخرط في الرشق لولا تلك العصا التي لامست كتفي حيث تفادية غايتها بأعجوبة ، و قفزت هاربا.
ثم أرانا الخدش الذي أحدثته في ساعده الأيمن ، كان مايزال يحمل أثر دم طري.
أبريل 1973
كنت سمعت البارحة عن إضراب ، و فرحت لأن المدارس ستتعطل ، و أننا سنستريح من عناء الدروس و مللها. ما كنت أتصور أن البلد سينقلب نارا تتلظى.
نشبت القيامة في حينا و الأحياء الأخرى . الناس تصرخ و تبكي و سط سحائب الغضب و النار. أما الصفارات المتجهمة فقد لعلعت تريد الفرقة و التفريق. ماج الناس و تمايلوا كما لو أن ريحا مجنونة نفخت ريحها السموم في سنابل قمح طرية. غير أن الإصرار أفسد التفريق فظلت الجموع هائجة. كانت لحظات خافضة رافعة ..
العودة إلى غرفة الحكاية :
المهم ، وقفنا في صف متراص كما لو كنا جنودا على أهبة الزحف ، فيما تعلقت أنظارنا بشرفة المنزل المجاور. دارت عيوننا في محاجرها ترقبا لبزوغ القمر المنير ، إنها الشابة الحسناء التي تكاد تأكلها العيون كلما خرجت من المنزل أو عادت إليه. تتقد فتنة و و تعد شركا لكل ناظر أمين و غير أمين.
هي في ريعان شبابها تطفح روعة و جمالا ، أستطيع تمييزها حتى ولو كانت وسط حشد من الناس ، إذ تتميز بلباسها العصري ، قميص يظهر النحر و ما تخفيه الصدور ، و سروال لاصق يبدو عن بعد خرعه ، أقصد شقه الذي يفصل بين تلين عظمين؛ يكاد يشبه فما و قد اقتربت منه اللقمة. تلك النقطة تشد أنظار الناس و تسيل لعابهم.
أنزل أصدقائي سراويلهم بانتظارظهورها الممتع ، و تفتح أزهارها الزكية ؛ فيما فتحت تكة سروالي. و حين ظهرت بلباسها الشفاف ، شعرنا بنورها المشع يغمرنا ، و يحرك جوارحنا ، و يوقظ الهاجع فينا ، فانتصب وسطنا.
وقفت كسارية و بدأت في تحريك يديها على مطلق جسدها ، انخفاضا و ارتفاعا ، ثم أمسكت نهديها من الأسفل فارتفعا بجراءة و تحد ، ثم مسحتهما برفق تمسدهما و هي تنظر إلى الأعلى ربما تتخيل عاشقا وسيما تدعوه برمز للوليمة المعروضة. و حين اتكأت على البرواز الشمالي بدت مؤخرتها الفاتنة كهضبة أو سهل خصيب عامر بشتى أنواع الورد و الياسمين ، لحظتها داعبت أنفي رائحة عطرة فتفجر في داخلي الدم يجري في أوردتي جريا كحصان جافل فر من سوط غاضب.
كنا في ميعة صبانا ، نطل بأعناقنا على شرفة الشباب، نتفجر حيوية ، مثل براكين تغلي تنتظر لحظة الانفجار ، طاقتنا تسد علينا منافذ التفكير ، و تضبط إيقاعه على أجساد الصبايا..
كانت لحظة اتكائها إيذانا بتحريك أيدينا صعودا و نزولا و نحن نتخيلها فوق أفرشتنا ، كل واحد يرافقها وفق إيقاع خياله المجنح. في وقت استمتاع رأيت الماء ينطلق من فرج الأشجار يخترق الفضاء يصعد عاليا قبل أن يرسم منحناه ليبلغ الجذوع يسقيها. تخيلت أنفسنا في مسابقة رياضة رمي الجلة ، كل يسعى إلى النقطة الأبعد. لم أستطع مجاراتهم ، فقد تأخرت . نظرت إليهم لأعرف إن كانوا قد لمحوا فشلي ، فأبصرت خوذا تتحرك كأحجار يحركها السيل قبل أن يدحرجها إلى الأسفل بقوة. ثم وقع الاكتساح ، فررت بأقصى سرعة ، و حين أراد أصدقائي اللحاق بي ، تعثروا في سراويلهم ، فبلغني صراخهم و عويلهم ، زادني الألم الصاعد إلى عنان السماء إصرارا على متابعة الهروب ، لم أكن أعرف اتجاهي حينها سمعت صوتا ينادي علي ، رأيت الحسناء تشير لي بالقدوم ، أمسكت بيدي و أدخلتني المنزل. جلت ببصري ، لم يكن أحد فيه سواها. جلست على الكنبة ، و جرتني إليها ، فارتميت في أحضانها بكل نعومة ، لم أبد أية مقاومة ، فكيف أقاوم من سكنت فؤادي المتفتح حديثا.
في كنبة تلك القصة ،" رأيتني العاشق الولهان ، و رأيتها الفتنة المدوخة ، يسبح نوري في نورها في ثغر الحال. ننساب في خمرة الشهد ، نقطف سلاف العسل حتى زغرد في و فيها دفء الماء" *



* ندف الروح ، إسماعيل البويحياوي ط 1 سنة 2011.



عماد الطائي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى