عثمان محمد صالح - ماتروشكا

في تلك الصبيحة الصائفة استغفل شقيقته بعذب الكلام. سوت له فراشه العليل في برودة الظل المنعكس من ظهر الديوان على القسم الخلفي من الحوش. تخيرت ذلك الظل دون سواه كيما يكون في مسار دمرها ونشوقها - داخل شبرية من نسيج المحبة في صدر الشقيق - على راحلة من المطاط بين مـطبخين: الصيفي والخريفي: مطبخ الخبيز ومطبخ الإدام تربط بينهما ضفيرة من الآجر الداكن الحمرة. وانصرفت عنه إلى شغلها المنزلي لما رأت كيف يعود بريق الحياة إلى محجريه المنطفئين المستغرقين في مطالعة نعيهما الموشك على الصدور في جريدة يومية. على يمينه حبل غسيل ونفاج. قبالته فيراندا معروشة بألواح من الزنك يستبطن انفتاحها على العوالم المحيطة نزعة استعمارية، ضاقت بها أرض بلا زرع وبلا ثروات باطنية، فتمددت على أكتاف السور الخلفي القصير مبتلعة البقعة التي كانت تحتلها المزيرة الأسمنتية بدنانها العملاقة. تلك ماتروشكا من الفيرندات، أو قل دنيا من الفيرندات مدمجة في ماتروشكا جلبها الأخ الأصغر من موسكو إبان دراسته في ذلك الجزء من العالم في منتصف الثمانينات من القرن الماضي.

زنكية، آسبستية العريشة ثالثة ذات سقف مستعار: فيرندات من كل شاكلة وطراز وطلاء ينطـق بألسنة شتى، لكنه في خاتمة المطاف طلاء! محض طلاء لا يحجب الجوهر الوحداني للفيرندات بما هي فيرندات تجمعها قسمة المصير المشترك في سراء وضراء فناء. فيرندات. متعالقة، متداخلة ومتنازعة فيما بينها على ماتيسر من الموارد الشحيحة في الحوش الفسيح : الظلال وبراد الماء ماركة كولدير، حافظة الثلج البرتقالية اللون معبأة بعصير هجين من الأناناس و الموز واللبن الحليب، مزاح الهواء المراوغ بين الملاءات، لقاء أنفاس أهل البيت والجيران حول مائدة عشاء وموقع المسمار المحظوظ الذي تتدلى منه بركة مصلاة.

الوحيد الذي لم تنطلِ عليه حيلة الموت المتقنع بأردية الحيوية المفتعلة والبريق الزائف هو شقيقه الأكبر. هاتفه قبل سويعات من إغماءته في قلب الحوش.

"كان صوته في التلفون غريباً، صوت أخويا وما أخويا، فيه غلظة كما لو أنه صادر عن جهاز تسجيل قديم. وقتها تيقنت من أن أخي قد صار من ناس الآخرة. بكيت عليه وحدي قبل أن يأتيني النعي في المساء"، حكى الشقيق الأكبر في أيام العزاء.

طلب رؤية الماتروشكا المهملة في مخزن مترب قرابة العقدين من الزمان. جلبت لتكون آخر ما أمسكت به يده قبل أن يغمى عليه ثم وهو يلبي النداء لاهجاً بذكر قريب بعيد، مردداً مقاطع شعرية عن رياح الشمال، هاتفاً: هو اليوم المعلوم فأين السماء ذات النجوم والرحيق المختوم؟ متنقلاً بين النوبية والعربية والإنجليزية عبر نفاجات يشرعها له الموت وحده فيعبر لتصطفق بقوة في وجوه الأحياء. ممسكا بالماتروشكا غسلوه ولحدوه.

لما عدت إلى السودان في صيف هذا العام لاحظت ضياع الكثير من متعلقاتي المودعة في المخزن المترب. سألت عن عالمي القديم فقيل لي: وما عالمك القديم؟! فوقفت على قبره المتضخم دون بقية القبور.


* ماتروشكا هي الدمية الروسية الشهيرة





فنراي، هولندا

24 أكتوبر2009

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى