الطاهر وطار - الـدروب

- درر, درر، الليالي السود ماتت، البيضاء تقول للبيضاء والسوداء تقول للسوداء, الليالي السود ماتت، درر, درر.

تغنى للنعاج, فتناغمت معه، بثغائها الجميل, وكأنما فهمته, بل, كأنما امتثلت لأمره, وراحت تخاطب بعضها، البيضاء تقول للبيضاء, والسوداء تقول للسوداء، الليالي السود ماتت.

كان قد عدها، عشرون, ونظر إلى عصاته, واستعاد كعادته، عد الرشمات التي عليها, عشرون.

عادة الآباء والأجداد, وعادة الرعاة, وعادة النعاج أيضا.

تأملها مليًا, ثم أغلق باب الزربية, وبعد أن تأمل السماء مستطلعًا أحوال الطقس, اتجه إلى البئر, يجر يجر (عفاسه) فألقى بالدلو, وهزه مرات، يتحسس ثقله، حتى إذا ما تأكد من امتلائه, راح، يسحب الحبل، مرة باليد اليمنى, وأخرى باليد اليسرى, ثم ألقى بإحدى يديه في الماء, فاستطاب دفئه، وتذكر قول أمه، الماء مبارك, يدفأ في البرد القارس, ويبرد في القيظ الحار, لأن الصالحين يسهرون على كل بئر.

ثم أسرع إلى برميل كبير، من مخلفات الحرب العالمية مغطى بصفيحة مستديرة, فأخرج منه قدرًا من النخالة, حمله في سله عتيقة, واتجه إلى حيث أواني الكلاب، مزج النخالة بالماء, وانتظر لحظات, ثم صفر, مرات:

مرباح, هبهاب, ويزة.

وإن هي إلا لحظات، حتى حضرت الكلاب وتفرقت على آنياتها، تنهش وتزمجر, وتعلن عن غبطتها بأذنابها, توقف هنيهة, ينظر إليها بإشفاق, فعما قريب, سينفذ فيها أمر المجاهدين وتذبح.

إن المجاهدين, كالصالحين, كلهم خير وبركة, لكن ما دعوتهم بالكلاب؟.

ثم فتح باب منزل عمه، وتدلف إلى الداخل, حي الضرائر الثلاث، إلا إنهن لم يجبنه, خصومة ولا ريب في غياب الزوج, الأطفال يبكون, علامة الخصومة, ربيعة ليست في الباحة, يقين إنها في فراشها تبكي, لأنها سبب الخصومة، ليتهاتطل, فيودعها بنظرة عطشى, ثم ينصرف.

خالتي (عوقة) ها أنني عدت هل تأمرين بشيء.

خاطب خالته، الضرة الكبرى, رافعا صوته لتسمعه ربيعة, فأشارت خالته بيدها, ان أنتظر, ثم دخلت بيت المؤونة، غرفة نومها وعادت بصحن قصديري ملفوف في منديل بالي:

قليل من ( بوهزة)[1] لأمك قل لها, خالتي تسلم عليك كثيرًا سمعته ربيعة, فنهضت من فراشها ووقفت في الباب, محمرة العينين, على خديها دمعتان, وعلى شفتيها بسمة ود, تأملها بعينين متبتلتين, عما قريب تغلق الخامسة عشرة, تريبتي, كما تقول خالتي وأمي, ثم استدار حين ولت ببطء, وأغلقت الباب, ما أبلغ حب ابنة الخالة حين تكون ابنة عم.

تصبحين على خير يا خالتي العزيزة.

تصبح على خير يا إبن أختي.

حي في طريقه عمه، الذي عاد في العربة الخشبية, يمهل الجياد, متقدمًا الخماسة, وهم يسوقون البغال العائدة بالمحاريث الحديدية, في أعياء باد, ثم واصل طريقه نحو الكوخ في المنحدر.

درر، درر، الليالي السود ماتت, البيضاء تقول للبيضاء, والسوداء تقول للسوداء, الليالي السود ماتت, درر, درر بع، بع.

من يستنطق النعاج وتنطق له, بالغ, راشد, يجب عليه الصيام, كمن يثنى حيطًا, ويديره بعنقه، ثم يفتحه ويمسكه بأسنانه, ويمرره على رأسه، فهو بالغ.


الرأس تدخل في الخيط, والنعاج تنطق, السنة الماضية, صام خمسة عشر يومًا فقط, وهذه السنة ينبغي أن يصوم شهرًا.

إنه رجل بالغ, ولو أن وجهه بدون شعر, رغم أنه يمرر عليه كل ربيع الفراشات المختلفة الألوان, ليخلف زغبها الشعر, كما يقول كل الرعاة.

وربيعة أيضًا امرأة بالغة, فصدرها لم يعد مستويًا, بل نبتت فيه رمانتان جميلتان منذ السنتين الفارطتين, لقد صامت السنة الماضية, كامل الشهر.

بلغ الكوخ, وكان الظلام قد ضرب أطنابه, فسربل الكون, واستقبلته أمه، على ضوء القنديل المدخن, بابتسامات السرور،وسارعت تعينه على نزع(عفاسة) الجاف ثم قدمت له ماء ساخنًا, وضعت فيه الملح, ليغسل قدميه, بينما كانت(معوشة) أخته تواصل غزل صوف خالتها.

خالتي تسلم عليك، هذا شيء من (بوهزة) أرسلته إليك.

يسلم عليك وعليها بالخير, حسنًا فعلت بإرسال(البوهزة) فإن عشاءنا بلا (بياض)[2] ولا (كليلة)[3]

معوشة، يامعوشة، ضعي الصوف من يدك, وأيقظي أختك فالعشاء جاهز، وأخوك ينبغي أن يستريح.

ما إن أتم العشاء, حتى أخرج المزمار من قلنسوة برنسه, عانق أخته الصغرى (توتة) ورجاها أن ترقص له, تمنعت قليلا, ثم نهضت وتحزمت بمنديل مدته لها معوشة, ثم قالت في خجل:

هيا.

مرر لسانه على المزمار يبلله بريقه، وتساءل مبتسما أي (هوى) تريد, وعدد بعض ألحان محلية(الهوى نالروس)، صالح أو عمي) (حوست بلاد السقنية وجبل أوراس) طيطة يا طيطة). هذا هو" الهوى" الذي سيروقك ولاشك

ثم أغمض عينيه وأرسلها, نغمات جذلة راقصة, بينما كانت أمه تنظر إليه في إعجاب وود، وتتمتم وعيناها مغرورقتان:

نسخة طبق الأصل عن المرحوم, أبيه, يطرب, ويحزن من الأعماق.حفظك الله يا ضياء عيني.

ما أن تم اللحن, حتى ارتمت عليه توتة حيية منتشية, فعانقها،

ثم حملها إلى الفراش, فلحقته أمه, ثم أخته الكبرى معوشة, وانطفأ القنديل وتمددوا،وبينما راح يتساءل في نفسه:

يقول الرعاة أنهم لا يغلبون, يسيرون في الليل وفي النهار, ويمرون بكل مكان, ولكن لا يستطيع أحد أن يراهم, هؤلاء المجاهدون من يكونون ا لقد تحدث معي اليوم غريب, ما أظنه إلا منهم. آه، لو يعود غدًا.

ألحت توتة على أمها, أن تفي بوعدها, فتروي لها أسطورة.

نامي يا ابنتي, فإن (الباهي) أخاك تعب، ويجب أن ندعه يستريح, إن المسكين ينهض قبل العصافير, ولا يعود بعدها.

قصي لها يا أمي, فإنني لا أشعر بالنوم.

قلت لي أنك ستقصين علي قصة(بحباح المرتاح)

آه (بحباح المرتاح) ياعزيزتي, جرو صغير, قصير القامة، أرقط اللون ماتت أمه المسكينة ليلة ولدته وسط الثلوج والزوابع فاحتضنته جدته(ملحاسة) لتسهر عليه, وتتولى تربيته, وكان ذلك في زمن المناطق،حيث كل الحيوانات والأشياء تنطق.

ولما كانت تحبه، حبًا جمًا, لأنه حفيدها الوحيد،وآخر ما تركت المسكينة ابنتها في الحياة، فإها لم تستطع أن تحسن تربيته،وافسدته بالدلال. فقد كان (بحباح) كلما رغب في شيء لو كان صعب المنال، على جدته(ملحاسة), يبكي ويحك أقدامه على الأرض،ويرفض الطعام.

المجاهدون، قرروا ذبح كل الكلاب.

ردد الباهي في نفسه، وتذكرت معوشة، انها نسيت أن تبلغ أخاها الأمانة التي أرسلتها له ربيعة، قارورة عطر صغيرة جميلة, بينما قاطعت توتة أمها:

إنك قصصت علي كل هذا, لقد وصلنا إلى قص ذيل (بحباح المرتاح), حين لم يعد باللبن الذي أرسلته جدته ملحاسة في طلبه.


- آه. حسنًا, لما لم يجده البكاء واستعطاف جدته رضخ لشرطها, وغادر العريش, حاملا حلاب اللبن، وهو يشعر بالخجل لأنه بلا ذنب وعيناه متورمتان من كثرة البكاء والعويل, وكان الندى قد بلل الأعشاب والحشائش فلما بزغت الشمس, تلألأت أشعتها فوق الروابي، فراقه المنظر رغم حزنه الشديد على ذيله، وخوخة من عدم العثورعلىاللبن فلا تعيد إليه جدته ملحاسة الذنب ويسخر منه الأولاد في الأعياد وخيل إلهيه وهو يتأمل منظرلمعان أشعة الشمس على قطرات الندى إنه أمام بحر من الفضة, حتى كاد أن ينسى مهمته, إلا أنه لما أراد نش ذبابة لسعته, بذيله ولم يجده تذكر المصيبة التي ألمت به, ومهمته التي حمل الحلاب, وخرج من أجلها.

تساءل بحباح المرتاح أين يذهب, فلم يقابله إلا قريب جدته، الذي زاره في السنة الماضية, يوم العيد، وفي الطريق ظل يمني نفسه, بأنه سيجد ما يحتاج إليه من اللبن, وبأن جدته حين يعود إليها بالحلاب مملوءًا ستعيد إليه ذيله بسرعة, وترضى عنه, وتكف عن هذا الغضب.

ولما أبصر قريب جدته، متكئًا أمام عريشة, يستنشق هواء الصباح النقي، ودخان العرعار ينبعث من خياشيمه، فرح واستبشر وبأدب واحترام فائقين.حياه، لكنه لم يرد إلا بنفث الدخان في عينيه، ومع ذلك, لم يغضب أو يسئ الظن, وقال له بلهجة فائقة:

جدتي تقرئك السلام, يا عمي قريبها

ثم ماذا؟

إنها ما تزال مريضة.

مسكينة, ملحاسة قريبتي.

وهي ترجوا أن ترسل إليها شيئًا من اللبن.

لكن أين ذيلك؟

نسيته في العريش، فأنت ترى، يا عمي قريب جدتي،أنني استيقظت مبكرًا جدًا.

ضحك الكلب الهرم، ضحكة كشفت عن كل أسنانه القذرة، وأغضبت بحباح المرتاح، لأنها سخرية بادية، إلا أنه كتم غيظه، وقال لقريب جدته:

إذن, لا تعطيني اللبن، يا عمي قريب جدتيى

ويحك أيها المسكين المغفل، أتظن أن الثمن الذي ستدفعه لجدتك, مقابل ذيلك الجميل, رخيص إلى هذا الحد؟ ابتعد عني, ولا تعد إلي أبدًا, حتى تسترجع ذيلك.

قال ذلك الكلب الهرم، وهو يكاد يعمى بصر الصغير, بحباح المرتاح بالدخان، فلم يكن في وسع المسكين أن يفعل, غير مغادرة المكان, خائبًا ذليلا حزينًا.

لو كان يعرف فكرة أخرى, لسعى سعيًا آخر، ولكنه يجهل كل شئ, فما العمل يا ترى؟ آه ما أقسى قلب جدته ملحاسة, وما أقسى أيضا قلب قريبها، هذا الذي يسخر منه، دون شفقة أورحمة.

مسكين أنا.

قال ذلك, ثم وقف يفكر, وبعد لحظات رأى عنزة ترمق أغصان شجرة مورقة, وتتمنى من صميم قلبها لو تبلغها, فتشبع وتتخلص من الجوع الذي تعانيه، قصدها وقلبه يحدثه خيرًا، ولما وقف أمامها، بكل احترام حياها بأدب وقال لها:

يا عمتي العنزة هل تصنعين جميلا, فتعطيني حليبًا، والحليب لجدتي وجدتي كي تصفح عني، وبعد أن تصفح عنى ترد إلي ذيلي الجميل فلا يسخر منى الأولاد في الأعياد.

حدقت فيه العنزة.ثم قالت:

ليتني أستطيع أن أصنع معك هذا الجميل, فأنت صديقي، لأنك حين تكبر, ترد الذئاب عن أبنائي وتحفظهم, ولكنك ترى أنني هزيلة وليس في ضرعي قطرة من الحليب, أذهب إلى الحقل, وحضر لي قسيلا لأعطيك الحليب.

أوصاها بحباح المرتاح بالانتظار حتى يعود بالقسيل, ثم أم حقلا قريبًا من هناك, ووقف أمامه قائلا, بعد أن حياه:


ياعمى الحقل, هل تصنع جميلا, فتعطيني قسيلا, والقسيل للعنزة، والعنزة كي تعطيني حليبًا، والحليب لجدتي، وجدتي كي تصفح عنى, وترد إلي ذيلي الجميل، فلا يسخر مني الأولاد في الأعياد بحلق فيه الحقل كثيرًا, ثم قال:

أيها المسكين، هل تظن أنه يحصل شئ بدون عمل، إنني عطشان كما ترى, فاذهب, وأحضرلي ماء يرويني، أعطك ما تشاء من القسيل.

أوصاه بحباح المرتاح بأن ينتظره , حتى يعود بالماء, ثم قصد عينًا جارية وقلبه يقول له هذه المرة، بأن ساعة الفرج قد دقت، لأن العين ليس لها كما يبدو ما تشترط عليه،ولما وقف أمامها وحياها، قال لها:

يا عمتي العين، هل تصنعين جميلا، فتعطيني ماء, والماء للحقل والحقل كي يعطيني قسيلا, والقسيل للعنزة، والعنزة كي تعطيني حليبًا, والحليب لجدتي، وجدتي تصفح عنى،وبعد أن تصفح عنى ترد إلي ذيلي الجميل، فلا يسخر منى الاولاد في الأعياد.

فكرت العين قليلا, حتى ظن بحباح المرتاح، أنها ستقول له خذ ما تشاء يا عزيزي، لكنها لم تقل ذلك أنما أجابته:

أيها المسكين, أو تظن أنه يحصل شئ, بدون عمل وعرق؟ إنني أعطيك الماء، ولكن أنت ترى أنني لا أستطيع أن أصعد بالماء إلى الحقل, فاذهب واحضر فأسًا, واحفر ساقية ليجري فيها الماء, وأنا أعطيك ما تريد.

أوصاها بحباح المرتاح كذلك، بأن تنتظره حتى يحضر الفأس, ويعود، ثم ذهب إلى حداد, حياه بكل أدب ثم قال له:

يا عمي الحداد، هل تصنع جميلا، فتعطيني فأسًأ والفأس كي أحفر بها ساقية, والساقية كي يجري فيها الماء, والماء للحقل, والحقل كي يعطيني قسيلا، والقسيل للعنزة, والعنزة كي تعطيني حليبًا، والحليب لجدتي، كي تصفح عني وبعد أن تصفح عني, ترد إلي ذيلي الجميل, فلا يسخر منى الأولاد في الأعياد.

فكر الحداد لحظات, ثم رفع بصره نحو بحباح المرتاح, وسأله :

أيها المسكين، ما اسمك ؟

اسمي بحباح المرتاح، ابن جدتي ملحاسة.

أجاب فرحًا, لأنه أعتقد أن الحداد, سيعطيه فأسًا تعب عليها كامل يومه بدون مقابل, لكن الحداد أضاف قائلا:

أيها الغبي، أو تظن أن هناك شيئًا يحصل بدون عمل؟ إسمع, إنني لا اطلب منك أن تحضر لي حديدًا من المنجم, كي أصنع لك فأسًا, لأننى أعرف أن ذلك صعب عليك جدًا, لكن هل تستطيع أن تعمل عندي أيامًا حتى أجد صانعًا؟

العمل, العمل, لا شئ بدون عمل, لاشئ بدون عرق, الجميع يرددون هذا, العمل، العمل.

فكر بحباح المرتاح في نفسه، ثم راح يقلب النظر، في اقتراح الحداد ويدرسه بدقة وإمعان. لم يسبق له أن عمل او عرق، رغم أنه ليس جرو غنى يدلل الكلاب، ويؤذي الخماسة والعمال.

أمي, أمي،اسكتي.إنني أسمع حركة غير عادية.

قاطع الباهي أمه، وهي مستغرقة في سرد الأسطورة, لا لتوتة التي نامت منذ مدة، ولامعوشة, فهي أنثى، ستغادرها ان آجلا أو عاجلا إلى بيت زوجها، وربما تكون ضرة على واحدة أو اثنين, أو ثلاث، وربما ينجيها الله من الضرائر، وجهنمهن، لكن يبتليها بحماة شريرة، تعذبها أشهرًا ثم تسحرابنها فيطردها،انما تسردها للباهي،الباهي الذكر الوحيد في البيت، الذي يعولهن, ويبسط جناح الاطمئنان على قلوبهن, لقد قصتها عليه منذ بدأ يفهم الحديث، واعادتها على مسامعه أكثر من ألف مرة، لكن الدوام يثقب الرخام، ودروب الأطفال, مهما رسمت بمعالم الرجولة, فإنها تظل غير آمنة، حتى يكونوا رجالا حقيقيين، الباهي رجل، رجل منذ مات المرحوم والده بالتيفوس،رجل وعمره لا يتجاوز العاشرة.واليوم وقد مرت خمس سنوات, على مواجهته للحياة ومشاقها،لاتخصه سوى, سوى امرأة.


ترى ياربيعة يا بنت أختي، متى أراك عروسًا بين أحضان الباهي إبني، لقد "سما كما" أبو كما على بعضكما،ليلة بروزكما للحياة، باقتراح من المرحوم، غير ان والدك ما يفتأ يتغير, يكبر ويكبر،بينما نضعف ونضعف، ابناؤه يرسلهم الى القرية ليقرأوا، بينما ابناءاخيه يرسلهم لرعي اغنامه، وهذه الايام فاجأني يطلب تزويج معوشة المسكينة من (العربي') خماسه، العربي رجل على كل

حال،ولاعيب في العمل مهما كان،فكلنا خلقنا خماسة،لكن معوشة"مسمية" على ابنه الاكبر مجيد. ولايهمني من امر هذا التحول،غير تخوفي،من ان يمنع عنا ابنته ربيعة.

آه،يا الباهي يا ابني متى ترشد، وتزول عنك وصاية عمك، وتحاسبه امام القضاة، قبل ان تفلت ربيعة من يدنا.

خطر للأم، وهي ترهف سمعها، للحركة غير العادية التي نبهها ليها الباهي فلم تسمع غير قرقرة الضفادع في الوديان، وعواء الذئاب في الغابة، وأصوات صراصير متقطعة، ونباح كلاب مركز على الجبهة الغربية،على الدرب الهابطة من الغابة.

بينما وثب الباهي من فراشه،بعد أن أبعد عنه توتة التي كانت تلحفه بأنفاسها،فيستشعر الحنان، تلمس في الظلام عفاسه، فاوثقه في رجليه بسرعة، ثم تناول(البوسعادي)[4] من تحت الوسادة، وعلقه في كتفه فوق البرنس.

إلى أين ولدي العزيز.

تساءلت أمه وقلبها يهتز طربًا, ممزوجا بتخوفات مبهمة، فأجابها:

لأرى ما هنالك يا أمي.

لا شئ يأ بني،ربما العساكر، فقد كثر خروجهم في الليل, هذه اللأيام، أن مابدأ يتحدث به الناس منذ شهرين، أخذ يكدر الصفو بعض الشئ، عل أية حال اخرج لتتعلم الحراسة، واقتحام الظلمات, اصعد على الكوخ كما كان يفعل المرحوم أبوك، وراقب ما يجري, انك غير مسلح يا الباهي ياولدي، اتل آيات الكرسي قبل أن تخرج.

تلمس الباهي طريقه، حتى غادر باب الكوخ، ثم أرهف سمعه، وهو يتأمل السماء.. نباح الكلاب يشتد في الجهة الغربية, ويقترب شيئ فشيئًا من منزل عمه، والسماء صاحية، بيضاء، يقطر منها الجليد.. وفكر أن يصعد فوق الكوخ ويراقب، كما قالت أمه، لكن الكوخ بعيد عن منزل عمه، وهو لايستطيع أن يرى, أو يسمع شيئًا, الكلاب منشغلة, وفي الامكان بلوغ المنزل قبل وصول هذا المجهول, الذي يدفع الكلاب لتتأخر, ثم يتقدم وكأنما هو غير مبال بها..

وبسرعة, أنطلق ينفذ قراره، متجنبًا حقل المطامير، فبعضها لا يزال مفتوحًا، بعد أن أخرجت منها الزريعة, وقد يقع في أحداها، كما تجنب كلالدروب التي يمكن أن توضع فيها كمائن، فاللصوص, من عادتهم ان ينصبوا(مجبودة) للكلاب، فيشغلها بعضهم في جهة،بينما يتسلل بعضهم إلى أهدافهم.

وما أن وصل منزل عمه، وارتمى بخفة في زريبة الأغنام, متخفيًا في زاوية, من نور القمر الذي بدأ ينبعث من خلف الغابة, حتى انقطع نباح الكلاب, بعد عويل مؤلم انبعث منها.

الكلاب ماتت، لم ينطلق أي رصاص.. يقين أنها رميت بخناجر, من أيد ماهرة.. .

وانبعثت جلبة من حوله، المنزل مطوق، بغلان على ظهريهما جثث، يقفان بعيدًا, الباب يدق.. أحدهم يثب الى الزريبة، ويتخفى وراء نعجة سوداء، مد يده إلى البوسعادي, واستله في حذر...

لا يستطيع وحده أن يهاجم كل هؤلاء, لكن في إمكانه على الأقل, أن يدافع عن نفسه، فيسقط واحدًا أو اثنين..

صفر عمه من الداخل، مستنجدًا بالكلاب, ثم تساءل :

من؟

المجاهدون.أخرج لنا بسرعة.

تباطأ عمه، فطرق الباب بعنف من جديد, وعاود الشبح الذي يقف إلى جانبه متسربلا في (قشابية) رمادية، وفي يديه بندقية سوداء, أمره:

المجاهدون.أخرج لنا بسرعة.

ولما خرج عمه، يرتجف رعبًا, خاصة، حين فوجئ بالبندقية السوداء، فتش في الظلام, عن مصدر البندقية, ثم واجهه، متسائلا:

ماذا تريدون عندي؟ لم أرتكب أي شئ …إنني مستعد لدفع الاشتراك.. مرحبًا بكم.

في تلك اللحظة، لاحظ الباهي، تقدم شخص مسلح, نحو زاوية الدار، سوى هندامه وسلاحه، ثم مر أمام عمه، في شبه استعراض, فوثب الشخص الذي كان يربض في الزريبة، وسارع بحذر إلى الزاوية التي انطلق منها صاحبه، وانتظر قليلا، ثم انطلق هو أيضًا مارًا أمام عمه، وأعقبه ثالث ورابع, وخامس،وو…لفت انتباهه, تشابه الأاشخاص في قامامتهم وألبستهم, وحتى في مشيتهم, وتأمل خطواتهم، وتذكر أن الرعاة يقولون, انه لا يوجد شخصان في الدنيا، يتشابهان في سيرهما, وان ارتديا نفس الحذاء, فعجب لهذه الحركة الغريبة، ورفع رأسه يتطلع في فضول حواليه، فلم يجد سوى ثلاثة أشخاص، يدورون حول المنزل في رتابة، أكثر من مائة مرة.

وحين بلغه صوت الشبح الذي يواجه عمه، مخاطبًا, الجندي المارأمامه.

حسنًا, إعط الأمر للفيلق, بالاتجاه نحو الجبل، بعد أن تختاروا فرقة الحراسة، وتوزعوها باتقان على كامل الجهة لمحاصرتها.

ابتسم, وتمنى لو كان طويل القامة، فيستعرض مع هؤلاء المجاهدين ليكثف العدد، وينبهر عمه أكثر.. ثم راح يصغي للحوار، الذي يجري بين عمه, وبين المجاهد, في حين عاد الشخص الذي كان قد اقتحم الزريبة إلى مكانه:

نريد طعامًا مستعجلا، ينبغي أن توقظ عيالك حالا.

سمعا سمعا. نستطيع إحضار كمية من ( الطمينة) و(الرفيس).

قبل ذلك.. معنا جريحان, لابد أن نخلفهما عندك لأيام.

تخلفون عندي, جرحى !! وماذا لو يكتشف الأمر؟

لا أحد غيرك يعلم, فأن لم تكشفه أنت, لن ينكشف, على كل حال، ينبغي إخفاؤهما بعيدًا عن المنزل، هل لك مطامير مهجورة؟

نعم. نعم. لقد فتحت اليوم مطمورتين.

أيهما أوسع ؟

مطمورة الشعير بالطبع.

حسنًا, نتركهما في مطمورة الشعير، لكن ينبغي أن نخفي آثار مطمورة القمح أيضًا, يجب أن تفتح عنهما في الليل، وتدبر لهما متنفسًا في النهار.. الطعام لا ينبغي أن يقدم لهما إلا في الليل.. أفهمت؟

أسرع إلى إيقاظ عيالك, وهيا معنا إلى المطمورتين.. يجب أن تدفن الكلاب.قبل طلوع الفجر.. قد تسأل هل جئناك فماذا تجيب؟

بأن.. بأن..

بأنك لم ترنا.. وإنما شعرت بمرورنا, حين افتقدت الكلاب. هذا كل ما تجيب به، كلفك ذلك ما كلفك.. هيا.

ما أن انصرفوا, وكان الليل في سكراته الأخيرة, حتى سارع الباهي إلى كوخه, ليجد أمه جالسة عند الباب, رافعة اكفها إلى السماء، تطلب الستر والرعاية، فبادرها قبل أن تستفسره, عن الأمر، أو حتى تعبر عن ابتهاجها بعودته :

أمي, ماذا في وسعنا أن نفعل ؟

ماذا يا إبني؟ خير إن شاء الله ؟

المجاهدون كانوا عند عمي، وقد خلفوا جريحين.

آه.يا إبني وما في ذلك.. ينبغي أن تكتم الأمر, هذا كل ما هنالك..

لا يا أمي العزيزة.. عمي خائن.. الرعاة يقولون انه يسعى بكل ما اوتي، للحصول على(التقييدة) والبرنس الأحمر.. وهذه فرصته الذهبية يا أمي..

مجرد أقاويل رعاة فقط.. لكن لماذا لم تخبرني قبل اليوم.. كل علامات الرجولة تبرز من تصرفاتك يا ابني.. . ربنا يسترك من العين..

ينبغي أن ننقذ الجريحين يا أمي.. عمي لن يتواني عن ارتكابها ماذا في وسعنا أن نفعل ؟

أطرقت أمه تفكر, وبعد مدة مزقت السكون:

مطمورة أبيك في السفح, هل تعرفها؟ لننقل الجريحين إليها، فانه لا أحد غيري يعرفها, والله يفعل |ما يشاء.

آه. يا أمي العزيزة.

ثم تدلفا إلى الداخل, ليوقظا معوشة, وتشد أمه حزامها, ودروب الرجولة, التي أوصاها المرحوم برسمها في قلب ابنه, تتراءى لها, دربًا فدربًا, وتسلل ثلاثتهم نحو مطمورة الشعير

ربط الباهي حبلا في خصره, واعتدل لدخول المطمورة بعد أن أزاحوا عنها الغطاء, وأمه تردد آيات الكرسي, وكل التعاويذ, ثم تدلى في الحبل الذي تمسكه أمه ومعوشة, فلفحت الحرارة جسده, وفكر أن المطمورة, لم تبرد بعد, ولربما أضر هواؤها المخنق بالجريحين. كان على عمه, أن يخبر بذلك. يقين أنه خائن, وإنه مصمم على ارتكاب الفظاعة..لكن ها قد سبقه..أمه, رددت له ذات لكن ها قد سبقه..أمه, رددت له ذات مرة, أن أباه كان أذكى من عمه, وإلا لما اقتصر على زوجة واحدة, بينما عمه في رقبته ثلاثة نساء, ولربما يفكر في الرابعة..

اعترته, ورجلاه تلامسان الأرض, وتصطدمان بالجثتين, وملأت أذنه نغمات جميلة...درر... الليالي السود ماتت..درر..البيضاء تقول للبيضاء, والسوداء تقول للسوداء..الليالي السود ماتت. درر. درر..بع..بع...

الرجال لا يخافون, ولا يرتعشون.. وهذه السنة يصوم رمضان كاملا..

-من ؟

انبعث صوت خافت, يشبه الأنين, يسأل, فبادر الباهي, وهو ينزع عنه الحبل, ويتلمس - صدر أحد الجريحين, ليربطه به :

أصدقاء, أصدقاء, نريد إنقاذكم, فأنتم في مكان مريب.

ما هذا الغاز الخانق ؟ أين نحن ؟ آه..سارع إلى الآخر أولا, فجراحه أبلغ...

وحين كان الثلاثة, خارج المطمورة, يتنشقون الهواء الطلق, حاول الباهي, أن يحمل أحد الجريحين, غير أن أمه أصدرت أمرا صارما :

- دع ذلك لي أنا, وتعاون مع محوشة على هذا ؛ فهو هزيل, خفيف تقدمي يا معوشة, قدمي ظهرك, لأضع صدر الجريح عليه, أنت يا الباهي أعنها بحمل ركبتيه.

جست معوشة الجثة, وهزتها, ثم وضعتها على الأرض, وبدأ لها أنها تستطيع أن تحملها وحدها :

ألقيه على كتفي يا أمي, فإني أقوى على ثلاثة من أمثاله...

تقول هذا, بالنسبة لمجاهد بطل, فكر الباهي, وابتسمت الأم في الظلام, وهي تفكر أن عريس ابنتها, ينبغي أن يكون رجلا كاملا. ثم احتج الباهي :

-ينبغي أن نطرحه في البرنس, وتحمله معا.

-لا يا أبي, ينبغي أن لا نسير خلف بعضنا, فنخلف آثارا بارزة..

-الجليد يغضي على الآثار..وسأمر قبل الشروق على الدرب بالأغنام.

ينبغي أن لا نضيع الوقت..تول أن إغلاق المطمور, ثم قم باستطلاع حول منزل عمك, وأكواخ الخماسة..فمن يدري.

أمرت الأم, ثم حملت الجثة على كتفيها, وسارت أمام معوشة, التي ظلت طوال الطريق, تشم أنفاس الرجل التي تلفح خدها الأيسر, وتتساءل أين لفحتها هذه الأنفاس, قبل اليوم...

إن أحدا لم يقترب منها ؛ أو يلامسها, أو يلفحها بأنفاسه...لكن هذه الجثة التي على كتفيها, تعرف رائحتها, إنها تذكرها.. ولكن لمن تكون ؟

لعل أنفاس المجاهدين كلها طيبة, نعرفها مثل أنفاس الصبح...بل, لعل العذاري يتوهمن, أنهن يعرفن أنفاس الرجل الأول الذي تلقيه الأقدار بين أحضانهن ؟ قد يكون ذلك, وقد يكون غير ذلك

- وما كادت الشمس تبزغ, مسلطة أشعتها الدافئة على الجليد، حتى كان الباهي، خارجًا بأغنام عمه.. يسير بها في درب السفح, حيث مطمورة أبيه المهجورة.يتلمس مزماره تارة، وخنجره البوسعادي تارة أخرى، وقلبه مفعم بالمسرة والعواطف المبهمة.. وزقزقة العصافير, تزاحم ما يتردد في أذنيه منذ البارحة درر.. . درر.. . الليالي السود ماتت.. البيضاء تقول للبيضاء والسوداء تقول للسوداء.. الليالي السود ماتت درر.. . درر.. . بع بع.. . ويرتفع غثاء النعاج عذبًا كأساطير أمه.. .

وظل حين جلس قرب المطمورة، يرسل نغمات أبيه الحزينة من مزماره.. (عياش ياعياش[5]. ويرقب الدروب، وهي تمتلئ بعربات العسكر, تعززها الطائرات, حتى كانت, دشرتهم, محاصرة، وعمه يتقدم بالضباط نحو مطمورة الشعير, ثم يقف, ويشير باصبعه.. هنا هنا.. لكن.. . لاشئ هنا.. . وبعد حوار طويل, بينه وبين الضباط, تلقى بصقة على لحيته، ثم طأطأ رأسه.. . وانصرف الضباط بعساكرهم, نحو الغابة، ينقبون بحماس, تحت الصخور والاشجار.

(عياش ياعياش).. . ظلت النغمات تنبعث في السفح من مزمار الباهي، حتى ولى العسكر الأعقاب خائبين.. ثم فتح المطمورة في حذر ليلقى بقربة الماء إلى الجريحين.. . وفغر فاه مشدوهًا, وهو يشاهد إلى جانب البندقية التي لم تكن البارحة مع الجريحين, بل, كانت من قبل في المطمورة.. ابن عمه الذي كان في القرية يواصل التعليم.

مجيد.. مجيد.. .

ابتسم إبن عمه, وقبل أن يدلي القربة.. أجال بصره في الدروب، يتأملها ليتأكد من أن العسكر اختفوا.



[1]) نوع من الجبن, يصنع من اللبن والحليب, ويستمر كاملا لسنة يشبه بكثير أجبان الأوروبيين.
[2] البياض هو الحليب.
[3] الكليلة نوع من اللبن المجفف.
[4] نسبة الى مدينة بوسعادة, وهو خنج في شكل السيف, وله غمد جلدي جميل, لايغادر الريفيين.
[5] أغنية أوراسية قديمة 1968
  • Like
التفاعلات: عبد الرحيم سليلي
أعلى