عثمان حامد ميسرة محمد صالح - في فضاء عذوبة "الماندينغو"

استراحة

"أنتم يا من ستظهرون
بعد الطوفان الذي غرقنا فيه،
تذكروا جيداً، وأنتم تتحدثون عن ضعفنا،
الزمن الأسود الذي عشنا فيه.
لقد مضينا نغير بلدا ببلد،
أكثر مما نغير حذاءً بحذاء.
نخوض حرب الطبقات،
ويقتلنا اليأس، حين نجد الظلم،
ولا نجد من يثورون عليه".
بريشت


نهار الجمعة 4/4

قذف بجسده المتهالك، دفعة واحدة، إلى سرير وحيد، بغرفة، مخصصة أصلاً لاستجمام الطباخين والعمال المساعدين، خالية تماماً، كانت، من كل شيء. عدا ذلك السرير، وبعض كراسي مبعثرة، ممهورة بلون استعمال ثر، وشقوق مسامير غلاظ، صدئة، كما لو أنها تنقلت عبر أزمان، وعصور، منذ الوهلة الأولى، لإتلاف حرفتي النجارة والحدادة.

نام.

نام بهدوء، ورجله اليمني مشدودة، علي السرير، بكسل واضح، بينما ارتخت الأخرى لتلامس قدمه، أرضية الغرفة المعطنة بالرطوبة، كأنه يتحفز لوثوب مباغت.

كنت قد انسحبت للتو، بحذر، من حمي ضجيج الطباخين وكومبارس العمال، صليل الأواني، زفر اللحوم، واعتراك البهارات بالصالة الكبيرة. انسحبت دون أن تخبر ذلك الكائن ذا العجيزة المترهلة الباندولية ... والرأس الملتحم تماما بالأكتاف، والبشرة الدهنية، ذلك الشيف الذي تتجمع كافة عضلات وجهه في شفتيه الغليظتين، حين يلمحك أنت بالذات.

تسللت عبر باب الصالة الخلفي، ومشيت علي طول الممر الضيق، الذي يفصل ما بين الصالة الضخمة، المجهّزة، أصلاً لوجبات طلاب الجامعة، وبين بقية الغرف الصغيرة، المصطفة علي طول الممر. هذه الغرف لا تنبعث منها إلا أبخرة بقايا الطعام، واصطكاك الطباق، في استسلامها القلق لأيادي عمال الغسيل.

البارحة فقط كانت قد ناوشته تلك الذكريات!

عامان، ثلاثة أشهر، وخمسة أيام عجاف. لا يدري كيف انسلت من بين أحشائه تلك الساعات، كما تندلق الدمعة لحظة مزاج طفولي.

تذّكر ذلك الوجه المعطّر بالندي، المكلل بالدهشة، وهاتين الشفتين، المعتقتين بابتسامة ما.

آآه ه ........ه

أنت التي تبللين ذاكرتي
بوجودك الكث حولي،
سأبرر استمراري بك،
أتنسم سحر أطيافك،
أغزل الساحات بحثاً عن
خلاصي فيك. والتقيك.
التقيك ممتلئاً بالحلم، بالورد،
وعامين ونيف من الذكريات.

ألم أقل لك أن هذه، ألم أقل لك، أن هذه ستكون فرصتك الأخيرة؟! حذّرتك مرارا يا ابن...

فاق من غفوته، تلك، إثر التقاطه هدير الشيف، ذلك الذي تتجمع كافة عضلات وجهه في شفتيه الغليظتين، حين يراه هو بالذات.

ماذا حدث؟ رددت بحذر مشوب بالخوف.

أووه ... أخبرتك مراراً بأن لا تبرح مكانك البتة وقت ازدحام الطلاب للوجبات.

أنا ... أنا لم أترك مكاني! فقط حاولت قبل بضع دقائق أن .......

المهم أنّي ...

لن أكررها بعد اليوم. ستكون آخر فرصة. أؤكد أنها الأخيرة.



مساء السبت 4/5

أردت له أن يصير استثناء في المساءات. فمنذ الخامسة، كنت قد همت بتهيئة إحساسك باحتساء شيءٍ من بيرة، يتقطر نداها من علي سطح قدح رقيق،... ما تيسر منها.

قصدت المسرح الصغير بالمدينة المجاورة. المسافة ليست بعيدة، بمعايير المشي في عالم طفولتك وشبابك. فقط حوالي الساعة ...أنت تحب بالطبع هذه الممارسة، أي الترجّل، منذ أن كنت في السادسة، هكذا عرفت لاحقا، من أمك،التي أشهرت أسلحة تمردك علي سلطتها مبكرا،أو قل، هذا ما تحب هي ترديده كلما انعطفت الذكريات ناحية طفولتك المشاكسة.

دخل إلي قاعة المسرح الصغير. خالية كانت من الكراسي، لإفساح المجال للرقص علي تغريد سكوبا

SEKOUBABAMBINO

الساعة شارفت التاسعة إلا ربعا وقتها! كان هو الأسود الوحيد ضمن قلة من طلائع الفلاميات والفلامانكيين، من متذوقي الفن والغناء الأفريقي، أو الباحثين عن غموض في الطبول والأنغام الاستوائية.

لم تكن لك رغبة في الثرثرة. ربما لأنك منتم لقبيلة الاستماع، أو ربما لأن الفكرة الإستراتيجية الوحيدة التي تسيطر عليك، هي رغبتك الأصيلة والعارمة، ذاك المساء، في الرقص، والذوبان الصوفي في الطبول الاستوائية تلك.

كانت هناك، نصف ساعة قاتلة، قبل بداية الحفل، وامتلاء الصالة بأفواج الرواد، حرصت خلالها علي تأكيد نشوتك، بالتهام قدح من رائق البيرة، فكأس من مشروب الـ Jenever الذي يحاكي في مظهره العرقي، ذاك الايثيل الطهور....يا لك من مثابر، في بحثك عن حضور العرقي، الذكي، الثر، بأشكال ماكرة كهذه، ربما لأنك تبحث عن هويتك، أو تفاصيل أيامك الجميلة، المعتّقة بالأصدقاء.

حين اعتلي سكوبا الخشبة بفرقته المكونة من خمسة عازفين، وبنتين تنتصبان علي جانبيه بشروق طاغ، كمشربتين، بتقاطيع إفريقية مشدودة بعذوبة بالغة، كما جلد الطبول، حينها كنت، أنت، أول المصفقين، رغم تحسّرك علي فشلك منذ الصغر في إطلاق الصفير، علي طريقة إدخال أصبعين داخل الفم. كانوا جميعا موشحين بأزياء فضفاضة ومطرّزة بنقوش جميلة زاهية، كأنها أجنحة لفراشات. تلك الثياب.

طرقت الطبول...
انسابت أنغام الكورا،
والبلافون.
سكوبا والبنتان، رخيم الحوار المموسق، الغنّاء ...
تلك كانت ساحات التُمْ تُمْ، المردوم والجراري.
أغلب الحاضرين كانوا يهتزون ويتمايلون بشيء من بطء ولباقة، لا تناسب صدح المغني وحرارة الطبول.

أمّا هو، فقد استدعي كل طاقة البعيو ورشاقة بلوبلو، وشقاوة شقيقته الصغرى. انداح في تطويع الجسد كدرويش غرقان....رقص، ورقص...

ذبذب جسده في فضاء اللحظة بأكثر من حماس عادي، حتى اعتقد البعض أن هذا الكائن الأفريقي، قد أصابته حالة من الجذب الصوفي.

هذا الفعل البدني والروحي، أبعده لثلاث مرات من الصالة، بحثا عن استجماع أنفاسه. فهو الآن على فركة كعب من سن البنوة. وكم كان محظوظا، فقد شملته نادلة مسنة بعين الرأفة والاعتبار، بمنحه منشفة يجفف بها عرقا صار يتدفق فوق جسده، علي نحو كثيف.

في اللحظة التي بدا فيها سكوبا تعريف الحضور بأعضاء فرقته، أدرك الجميع أن ساعة الختام قد شارفت، كان يبتسم بأدب. وتواضع من يتقن فنه، بينما انسابت الكلمات من فمه في سهولة الماء. أدي أغنيته الأخيرة كاسي مامبا بشدو الغابات والضفاف والسواحل، وبتطريب جعلك تصعد إلي الخشبة لمراقصة البنتين، كما لو أنك غزال.

عند انتهاء الأغنية ردّدت حوائط الصالة أصوات جمهور يهتف بنفس واحد:

We want more, we want more.

غير أنه الوحيد الذي اعتلى منصة أحلامه وهمومه المدسوسة، وهيأ نفسه ليوم عمل جديد.

سار متراخياً في رحلة العودة. قدماه اشتغلتا ركلاً في حجارة صادفته. كل فينة، يتذكر فيها صليل صواني الفرن والأطباق، يعتليها، يوميا ثماني ساعات، لإدراك ما يمكن إدراكه، كان يسب الدين عمدا ومع سبق الإصرار. وما استطاع علي إخراجه من حالة بؤسه تلك، سوي طيف ذكري، حبيبة كإيقاع القصيدة، وعدها بالصبر والانتظار.





هولندا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى