محمد حساين - ريشة على الرف.. قصة قصيرة

نزلت للّا لكبيرة، كعادتها أيام عاشوراء، ضيفة على المختار ابنها أو ضيفة على بيتها كما تقول.
وللا لكبيرة عجوز أخذ منها الزمان الأسنان وقوة العضلات وعفا عن سمعها وبصرها وأكرم حنجرتها ولسانها وضاعف طيبوبتها.
والمختار لم يكن ابنها حقا بل لم تكن تربطه بها صلة قرابة، لكنه في صباه، كما تدّعي، جفف ثدييها وبلّل عباءتها وكدّس في مناديلها مخاطه وهذا دين في عنقه وعليه وعلى زوجته الوفاء والطاعة والإكرام والاحترام.
للا لكبيرة البدوية المكتسحة كعادتها، بمجرد الوصول من السفر وبعد أن شربت كأس ماء، قامت بجولتها التفقدية لأركان البيت لجرد ما جدّ والسؤال عمّا اختفى وازدراء اللوحات التى لا صور فيها.
استوقفتها، وهي أمام رفّ الكتب، ريشة طير متوسطة الحجم متعـــددة الألوان تحملها دواة بلورية لا حبر فيها.
سألته، وكغير عادتها، دون أن تمد يدها نحو الدواة:
- هي ريشة حقيقية؟
- نعم حقيقية...
لاحظ أنها لم تقتنع تماما فتابع:
- والله العظيم هي ريشة حقيقية، من طائر حقيقي.
- لاشك أن الطائر جميل جدا.
أحس أن الحديث أعجب للا لكبيرة فأردف مؤكدا:
- نعم جميل وعجيب ويتكلم كالبشر و...
قاطعته كأنما فقدت الاهتمام بالريشة وبالموضوع.
- آه، عرفته إنه الببغاء.
لم ترقه مقاطعتها هو الذي وجد فرصة لجعلها، استثناء، في وضع المستمع المهتم.
- لا لا ليس الببغاء، الببغاء طائر تافه يعيد بعض الكلمات فقط أما صاحب هذه الريشة فهو يجيد الحديث وريشه ثمين ونادر ويشفي من علل وأمراض.
- ريشه دواء شاف؟ يشفي ماذا ريشه هذا؟
استلذ ببريق التعجب والفضول في عينيها فرفع الحظر عن خياله واستمر:
- صدقيني ماما، في البلاد التي كنت فيها يجعلون هذه الريشة فتاتا ويخلطونها بعسل النحل وتعطى كدواء للبكم ولها مفعول سحري.
سكتت العجوز وأخذت الريشة بيدها
- حقا؟ بالله العظيم، أنت بنفسك شاهدت هذا؟
- هل عهدتني كاذبا أو مازحا؟
- يطبخونها؟
- لا، يجعلونها شعيرات مقطعة ويضعونها في كأس عسل نحل صاف وتخلط وتعطى للمعاق كجرعات يومية.
استولت المرأة على الريشة ودستها دون استئذان في جيب صدرها وأمرته:
- لا تقل شيئا، عيشة ابنة أختك عمرها سبع سنوات مريضة بكماء لا تنطق أي حرف رغم أنها تسمع جيدا. ولم تنفعها لا الأدوية ولا القرابين وزيارة الأولياء الصالحين...
يا بؤسي، بلا لسان، سيضيع مستقبل حفيدتي
ثم استطردت وهي تضع يدها على صدرها وترفع عينيها نحوه :
- وهذه الريشة هدية من الله وتأكيد لما رأيت أول أمس في المنام.
ذهل الرجل وأحس بالبرد والندم وقلة الريق.
تحايلت الزوجة على العجوز لاسترداد الريشة دون نتيجة ولم يجسر أحد على إخبار للا لكبيرة بان الأمر كان ارتجالا ومجرد مزاح.
في اليوم التالي غادرت للا لكبيره عائدة إلى قريتها البعيدة محملة، إضافة إلى حقها الشرعي في الزكاة، بما خف وزنه وثقل نفعه بينما حُمِّل الزوج عاقبة المزاح ومسؤولية ما قد يقع:
- قد يحصل للطفلة تسمم،
- قد تكون لديها حساسية مفرطة...
- قد تكون الأصباغ التي في الريشة مواد كيماوية قاتلة!
- ستصيب الطفلة وأبويها خيبة أمل أخرى،
- قد وقد ويمكن ولا يمكن
مر الأسبوع ولم يصلهما خبر سيئ فنسيا الحكاية تماما.
قبل أيام، في الساعة الأولى من النهار، طرق الباب وصاحب الطرق صوت إنذار سيارة.
أطلت سامية من فوق وعادت مضطربة لتوقظ زوجها
- المختار... المختار... للا لكبيرة اسفل العمارة، أمام الباب ومعها رجلان وقد جاءت في سيارة !
ضرب خده بهدوء بأصابعه الأربعة في حركة نسائية، وبدأت الكثير من الصور تشوّش على الجميل أمامه.

دخلت للا لكبيرة، وأمرت الرجلين بالدخول.
وبعد ساعة ونصف كان المختار وزوجته وأب الطفلة وصديقه سائق السيارة وللا لكبيرة يحتفلون جميعا، حول مائدة إفطار بألوان بدوية، بشفاء الطفلة تماما.


محمد حساين

ريشة على الرف.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى