أمل الكردفاني- بمناسبة اليوم العالمي للعزاب-مؤشرات إنهيار المؤسسة التاريخية المختلقة

بمناسبة اليوم العالمي للعزاب- مؤشرات انهيار المؤسسة التاريخية المختلقة

من أين انبثقت فكرة الزواج كتعهد بالاحتكار العاطفي (بمعناه الواسع) بين طرفين؟ هذا السؤال قديم. بعض العلماء ذهب الى أبعد من ذلك وأكد أن العلاقات كانت تتسم بالشيوعية وظل ذلك هو الاعتقاد السائد حتى بداية القرن العشرين ؛ عالم الاجتماع الفنلندي ادوار ويستر مارك اعترض على هذا التصور في موسوعته (تاريخ الزواج -تعريب: د.مصباح الصمد عن دار المؤسسة الجامعية) أستطرد إدوار في محاولة نفي الشيوعية الجنسية في العصور البدائية مستدلا على ذلك بدارسات مكثفة جدا عن القبائل البدائية حول العالم. مع ذلك ومن خلال قراءتي لاستدلالته فلم يخفى بعض ما فيها من خلل ؛ سواء من حيث الربط التاريخي التعسفي بين قبائل العصر الحديث البدائية وتلك السحيقة أو غيرها من تبريرات . فهل يمكن القول أن قبائل اليوم مهما شهدت من بدائية لم تتأثر بالتطورات الثقافية من حولها؟
مؤسسة الزواج ظلت سرا تاريخيا مدفونا في الماضي الانساني ، حتى الأطروحة الدينية سواء السومرية او اليهودية لم تستطع حسم المسألة ، لا عبر الآلهة التي تناسلت فانجبت آلهة أخرى في عماء الأسطورة السومرية (بحسب فراس السواح في مغامرة العقل الأولى) ولا قصة الخلق والهبوط التوراتي. بدا أن هناك تصورا عاما خلقته الأسطورة الدينية وهو قدم المؤسسة الزوجية بل وحتى فطريتها. هذا ما قد بدا للعالم الفنلدي من خلال تتبع علاقات الاحتكار العاطفي بين الكثير من الحيوانات. مع ذلك فهذه خدعة سحرية تحاول الالتفاف عن التساؤل عن معنى الزواج ، ماذا يعني الزواج؟ فنحن لا نأبه لكون الزواج فطري أم لا بل يجب أولا أن نؤسس لمفهوم الزواج نفسه. فمن الغريب أن يتجاهل ويستر مارك هذه النقطة الجوهرية بل ويقوم على نحو متحايل جدا ومخاتل بالدمج بين فكرة الاحتكار غير الشكلاني والاحتكار الشكلاني الذي ارتضاه الطرفان. وهنا سنجد حديثه مضطربا جدا عندما يسرد آراء مختلفة (ليس عن أهمية المراسم الاحتفاء بالزواج كمميز لعلاقة قانونية) وانما من جوانب أخرى لم استطع فك طلاسمها. في الواقع كان يتهرب من هذه المسألة رغم أنها حاسمة جدا.
حدثت تطورات (ما) أفضت إلى ضرورة نقل الاحتكار العاطفي من صورته الرضائية إلى الشكلانية المغرقة في اللا منطق. فالاحتكار كان يتم -وفق تصوري- بدون حاجة لبيروقراطية تؤكده ، حيث يقبل رجل وانثى الاقامة معا ليس لغرض جنسي فقط وانما لغرض تحقيق الأمن والأمن الاقتصادي. الأمن عبر التناسل والدفاع عن الحق في الحياة والأمن الاقتصادي الذي يتمثل في انجاب أيدي عاملة للزراعة والرعي ومن ثم تحقيق وفرة للجميع. لكن ما حدث بعد ذلك هو الذي لم أجد له تبريرا واضحا سوى التحول الى مجتمعات أكثر مدنية أي مجتمعات سياسية في المقام الأول.
لتوضيح هذا الغموض التاريخي في مسألة الشكلانية العاطفية. سأستعرض هنا -باختصار شديد- ثلاثة أنواع من هذه الشكلانية ، بحسب الأسطورة التوراتية . وبحسب التطورات الدينية ، وبحسب التطورات القانونية:
فبحسب القصة التوراتية لم تكن هناك أي طقوس رمزية عندما وجد آدم حواء معه في الجنة وهبط كلاهما إلى الأرض. ربما كان الرمز الوحيد الذي يشير إلى بدء التحول من العلاقة الطهرية إلى العلاقة الجنسية هو الأكل من الشجرة وانكشاف عورتيهما. واستمر الغموض التوراتي فيما يتعلق برمزية الزواج بعد ذلك في قصة ارتباط أبناء آدم بأخواتهم ؛ فالرمزية الوحيدة تبدو في اشتراط أن يتزوج كل واحد من الأنثى التي شاركت الآخر بطن حواء. لكن لا يوجد أكثر من ذلك.وذات هذا الغموض انتقل إلى مؤلفات تجاهلت هذه النقطة وتعاملت مع الزواج كمسلمة متمتعة بشرعية قانونية. ككتاب الزواج في الشرائع السماوية والوضعية لدكتورة هند المعدلي.
- لقد ظهرت طقوس الزواج أيضا في الحضارات القديمة كالفرعونية حيث الايجاب والقبول من الطرفين ثم تقديم الدوطة (المهر) وبعدها تبدأ الاحتفالات الدينية.
أما في بابل فالشكلانية في الزواج كانت مقررة بحكم القانون فقد جاء في مدونة حامورابي في المادة (128) إذا تزوج رجل امرأة بدون عقد ، فالمرأة لا تعتبر زوجة له. ثم استطردت المدونة احكاما أخرى كالملاعنة حين الرمي بالزنا مثل الحكم في الاسلام ، ولكنها اشارت الى المهر كشرط جوهري لانعقاد الزواج. ثم بينت المحرمات في الزواج حيث كانت ممارسة الجنس بين المحارم مفضية الى عقوبة القتل حرقا.
- ولم يختلف الحال في الحضارة الفارسية من تطلب شكليات معينة كالخطوبة والمهر .
أما إثر ظهور الشرائع الابراهيمية فقد ازدادت شكليات الانضواء تحت توحد عاطفي ، ففي الشريعة التوراتية كان لابد من صيغ معينة يتم ترتيلها وتقديم خاتم بل وكتابة عقد الزواج ثم صلاة البركة بحضور عشرة رجال على الأقل ، وبعد هذا تصبح الزوجة مقدسة لزوجها وحده محرمة على غيره. ورغم أن السيد المسيح لم يأت لتغيير الناموس الموسوي لكن الزواج المسيحي كان له أيضا طقوس مختلفة حيث يتم بصلاة الإكليل على يد كاهن وفقا للتقاليد الارثوذوكسية وموافقة ولي القاصر .وأما في الاسلام فأيضا سنجد تلك البيروقراطية وإن كانت أخف وطأة من اليهودية حيث يشترط المهر والولي وشاهدي العدل فإن وجد مال يولم الزوج وأن يدق بالدفوف. (أنظر تفصيل ذلك في موسوعة الزواج والطلاق في جميع الأديان لفضيلة الشيخ عبد الله المراغي- المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية -1966) .
واشترطت قوانين الدول حاليا شروطا أخرى من أهمها كتابة عقد الزواج عند موظف رسمي كالمأزون والقاضي وتوثيقه ...الخ.
مع ذلك فقد قال Raja Halwani في مؤلفه Philosophy of Love Sex And Marriage an introduction; Routledge, New York and Londone, 2010, p262 نقلا عن كونتز (coontz 2005 ; 66) ؛ أن الزواج غالبا ما لم يكن منظما من قبل الدولة ، كما في كل من مصر القديمة وروما ، ومع ذلك لم تكن هناك مخاطر كبيرة ، فقد كان الزواج عقدا خاصا يبرم بين الأسر المعنية ، بل أنه في الأسر الفقيرة لم يكن هناك أي عقد خاص على الإطلاق ، بل يعتبر كلا من الرجل والمرأة زوجين بمجرد أن يجتمعا معا ويؤسسا أسرة واحدة . وحتى في أوروبا العصور الوسطى بالنسبة لعامة الناس (خلافا للنبلاء) فكان يكفي رضاء كل من الرجل والمرأة بالزواج وفي بعض الأحيان مباركة الآباء. فالكنائس والحكومات لم تفرض أي قوالب شكلية للتحقق من صحة الزواج.
ويستطرد راجا أنه قد كان من الواضح أن الارتباط بين الرجل والمرأة لم يبنى على حب وإنما رغبة في تجميع الموارد الاقتصادية المشتركة ، وتربية الأطفال لزيادة القوة العاملة للأسرة ، أو لانتاج ورثة للعرش في الطبقات الحاكمة.
ويخلص راجا إلى أنه لا يمكننا أن نصل بتعريف واضح للزواج .
وكان راجا قبلها قد عدد عدة تباينات ثقافية في مسألة الاحتكار الجنسي بين الرجل والمرأة تعزز من إشكالية وضع تعريف محكم للزواج. فالزواج مثلا لا يشترط فيه - في بعض الثقافات كالأشانتي في غانا - أن يبقى كل من الزوجين في منزل واحد ، كما أنه لا يشترط أن يتضمن تعاونا اقتصاديا بين الطرفين كما يوربا والعديد من المجتمعات الأفريقية. كما لا يشترط أن يكون الزواج بين رجل وامرأة فيجوز للمرأة أن تتزوج امرأة أخرى كما كان الحال في شرق أفريقيا. ليس هذا فقط بل الزواج قد لا يقع بين انسانين بل انسان وكائن آخر كالجن في السودان والأرواح في بعض الثقافات الصينية. كما لا يشترط أن يقع الزواج بين شخصين فقط بل قد يتعدد الازواج أو الزوجات كالمورمون والمسلمين. وكان يمكن تزويج الفتاة في الهند من عدة رجال ، (وازيد على ذلك ما وثقته بعض أمهات الكتب من أن هذا كان شائعا أيضا عند العرب وهو مواقعة عدة رجال لامرأة في طهر واحد كما حدث بين العاص بن وائل وأبي لهب وأمية بن خلف وهشام بن المغيرة لما وقعوا على النابغة بنت خزيمة بن الحارث في طهر واحد) .
كما لا يشترط ان ينطوي الزواج على رغبة في الانجاب وتكوين أسرة كما هو الحال في زواج المتعة عند الشيعة.
نصل من كل ذلك إلى أن فكرة الزواج لم تنل حظا من تحليل وضعها الغريب كمصطلح لا ينبثق إلا بعد توفير متطلبات شكلية كشهادة الشهود والولي والمهر والاحتفالات والعرس. رغم أن كل هذه الشكليات لا تعطي أي ضمانات واضحة لاستمرار العلاقة أو حتى الاحتكار الجنسي. فوجود عقد مكتوب أو غير مكتوب لا يمنع أيا من الطرفين من الخروج من العلاقة في أي وقت يشاء ، كما أنه لا يمنع أيا من الطرفين من انتهاك الاحتكار والبحث عن مصدر خارجي لاشباع الرغبة ، وفوق هذا فلربما كان العقد نفسه (كشكل مجرد) ، لا يحمل أي دلالات عاطفية بين الطرفين. في الوقت الذي قد يكون الاحتكار العاطفي بين أطراف علاقة مستندة على ميل عاطفي أكثر قدرة على منح هذا الاحتكار قوة دافعة لاستمرارية العلاقة. إن كل الإحصائيات حول العالم أثبتت أن عقد الزواج بأوليائه وشهوده وكتابته وتوثيقه لم يمنع من الارتفاع المضطرد لحالات الطلاق حتى في الدول التي كانت شعوبها تتسم بالمحافظة الشديدة. لقد استدعى هذا كثيرا من حكومات هذه الدول لطرح مشكلة ارتفاع معدلات الطلاق في مجتمعاتها على بساط البحث العلمي. ولم تكن هناك نتائج واضحة وحاسمة. ما أعتقده أن الزواج كمؤسسة مبنية على فكرة تعاقدية صارت مثيرة للسخرية حين تتجاهل التطور الانساني المستمر نحو التأكيد على قيمة الذات والأنا أو كما يسميها البعض الإيجو ، لقد انهارت أكثر المؤسسات قدما في عصرنا الراهن إما بنحو صريح كما هو الحال في حالات الطلاق أو ضمنيا في حالات الانفصال الجسماني والميل إلى التحرر من قيد الاحتكار. في حين أن الاحتكار المؤسس على عاطفة حتى من غير أي خضوع لتنظيم قانوني قد يمتد إلى نهاية الاختبار الانساني. وإذا كان البعض قد يجادل بأن هذه المؤسسة التعاقدية الشكلية قد تحمي ما ينتج عن العلاقة الجنسية من أطفال فهذا مردود عليه بأن الطفل يحميه القانون سواء من علاقة تعاقدية أو محض عاطفية. خاصة مع دخولنا إلى العصر الجيني واختبارات الحمض النووي. لا زالت علاقات الزواج التعاقدية تزداد فشلا يوما بعد يوم. ولا شك أن المرأة على وجه الخصوص قد حصلت في وقتنا الراهن على حقوق تحميها من أي تغول أو تجبرها على احتمال أي انتهاك لكرامتها أو تهديد لسلامها النفسي. فلا الاحتكار التعاقدي أو العاطفي المحض بقادر على سلبها ما اكتسبته بعد نضال طويل وهذا سيفضي بلا شك إلى زيادة قدرة المرأة على قول (لا) وقدرتها على رفض تحمل أي ضغط نفسي ، أو الصبر على عدوان جسدي أو حتى على إكراه جنسي لا في علاقة تعاقدية ولا في علاقة محض عاطفية. وهذا يعطينا مؤشرا هاما باقتراب نهاية تلك المؤسسة التاريخية ، حيث القانون وحده هو من يحمي حقوق الجميع ويحافظ على خصوصياتهم وقبل كل شيء على الحرية الفردية في مجتمع ليبرالي وديموقراطي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى