ألف ليلة و ليلة محمود الريماوي - ملعب المخيّلة ومسرح النقائض

استمعت أول ما استمعت إلى حكايات «ألف ليلة وليلة» من إذاعة القاهرة بصوت الممثلة زوزو نبيل التي تقوم بدور شهرزاد. كنت أتلمس، حينذاك مطلع ستينيات القرن العشرين الماضي وأنا في سن الثانية عشرة، طريقي إلى قراءة الأدب. ووجدت أن هذه الحكايات لا تختلف كثيرا عن حكايات جدتي عن الغيلان والمردة وبنات الملوك والشاطر حسن. ولما كنت قد فارقت حكايات الجدة إلى غير رجعة مع مفارقة الطفولة الأولى، فإني لم أصادف في ذات نفسي كبير اهتمام للعودة إلى تلك الحكايات ولو في قالب جديد.

منذ قبل أكثر من نصف قرن وأنا أعود بين آونة وأخرى لقراءة عشرات الحكايات من «ألف ليلة وليلة» بدواعٍ شتى، منها إزجاء الوقت بالتسلية والتسرية عن الذهن المكدود، ومنها التعرف على أجواء العصور الماضية من ألوان المعيش والملبس والمأكل والأثاث وألوان الترف، ومنها البصبصة في زمن المراهقة على الجواري الحسان وهن بلا حصر وبلا عدد في تلك الليالي، ومنها الوقوف على نسيج الحكايات ومبناها ومنطق توالدها وتكاثرها، وهو منطق قائم على الاستطراد وعلى توسيع اللجوء لمبدأ الشيء بالشيء يذكر في الانتقال من حكاية إلى أخرى بما يجعل الملك شهريار المستمع الأول لهذه الحكايات عاجزاً عن متابعتها بعدما أدركه الصباح، مرجئا الاستماع إلى الليلة التالية، وبما ينجي الحكاءة شهرزاد من القتل ويقرّبها إلى الملك إعمالاً للشرط الموضوع بأن تواصل الحكي، وإلا تلحق بعشرات النساء اللواتي صرعهن. وما زلتُ أتقلب على قراءة هذه الحكايات كلما واتتني الرغبة بمفارقة زماننا والانتقال إلى زمن آخر شرقي يكاد يبذ زماننا في ترف كبار القوم، وفي كلفهم بالشعر والأدب والمنادمة ومأثور الكلام، وفي تقريب النساء والجواري والغلمان بما يضاهي صورة الانحلال التي ننعت بها الغرب هذه الأيام.

قراءتان

ثمة متعة أكيدة وعظيمة تورثها هذه الليالي لقارئها أو مستمعها، بيد أنها لا تمُتّ بصورة مباشرة إلى متعة القراءة الفنية للشعر الجاهلي والأموي والعباسي، أو مقاربة أيام العرب وتواريخهم، إذ إن الليالي بما تشتمل عليه من خوارق ومغامرات واستحضار الجن والعفاريت واستنطاق الحيوانات وأنسنتها، هي أقرب إلى الفن الخام وثمرات المخيال الشعبي الجمعية والشفاهية، الذي تمتزج فيه أمثولات البراءة بالولع بالأساطير الغيبية بالشغف بالاستيهامات حيال عالم الترف والبهارج، ولهذا ولع الغربيون بالليالي أكثر من الشرقيين، فقد رأوا فيها صورة لحياة لم يخبروها، في الحقب ذاتها «القرنان الثالث عشر والرابع عشر الميلاديان على ما يجمع متتبعو وضع الليالي». أما الشرقيون وبالذات العرب الذين وقفوا على مجونيات أبي نواس وسواه، وعلى أحوال خلافة العباسيين وبالذات هارون الرشيد، فإنهم إذ يقرؤون الليالي فهم يستعيدون شيئا من ذواتهم المكتومة، وطفولة تاريخهم، من دون أن يقعوا على مفاجأة كبيرة فيما يقرؤون، وإن كانت القراءة تشحنهم بالانفعال وهم يقارنون حالهم بأحوال أسلافهم ممن كانوا يرفعون الحواجز بين الرجال والنساء.

إلى ذلك فالليالي في قوامها الرؤيوي تنطوي على قيم وعظية على الطريقة الشرقية، تجمع بين أخذ الدنيا بما فيها من متع وملذات وفرص، وبين أخذ العبر من خاتم الأشياء: هادم أو هازم اللذات ومُفرّق الجماعات (الموت)، أو ترديد عبارة تأتي بصورة متواترة في العديد من الحكايات مثل: اعلموا أن حديثي غريب وأمري عجيب لو كتب بالإبر على آماق البصر لكان عبرة لمن اعتبر. وفي واقع الحال فإن الوقوف على تعاليم الدين والاحتكام اللفظي إلى هذه التعاليم يمشي لدى خلفاء الليالي ووزرائها وأعيانها وكبار تجارها جنباً إلى جنب، مع الاستغراق بملذات الطعام والشراب والوصال والطرب وأبهة الإقامة في القصور الفارهة واقتناء الجواهر والنفائس.

ومع الوعظ ثمة التعليم والتثقيف القائم على اكتساب الشعر وترديده، فالجواري شأنهن شأن الشعراء والندماء في المجالس يلهجن بالشعر بلا توقف، حتى ليحسب القارئ أو السامع أنهن لا ينطقن بنثر إلا بما ندر، ويحتكمن إليه باعتباره أداة الثقافة ومخزنها، وعلى نحو تمحي فيه الفوارق بينهن وبين الندماء في الاطلاع على الشعر وحسن توظيفه واستخدامه، وفي إحدى الحكايات التي تحمل اسم «أنس الوجود» فإن هذا البطل لم يجد ما ينجيه من سبع في الفلاة (أسد في البرية) سوى أن يلقي على مسامع الحيوان المفترس بعضاً من أبيات الشعر. «فلما فرغ من شعره قام الأسد ومشى نحوه بلطف وعيناه مغرغرتان بالدموع، ولما وصل إليه لحسه بلسانه ومشى أمامه وأشار إليه أن اتبعني ولم يزل سائراً وهو معه ساعة من الزمان حتى طلع به فوق جبل، ثم نزل به من فوق ذلك الجبل فرأى أثر المشي في البراري فعرف أن ذلك الأثر أثر مشي قوم بالورد في الأكمام فتبع الأثر ومشى فيه، فلما رآه الأسد يتبع الأثر وعرف أنه أثر مشي محبوبته رجع الأسد إلى حال سبيله». الأسد تأثر بالشعر العربي أيما تأثر، وعرف ما يستغوره أنس الوجود من حاجة فقاده إلى قصر من امتلكت فؤاده!.

والوعظ يتخذ أشكالاً منها التقابل بين الأضداد فثم ابن لهارون الرشيد يبالغ في الزهد والتقوى بمثل ما يبالغ أبوه من الغرف بالملذات. ويعيش فاعلا (عامل بناء) مشترطا أجرة ليومه لا تزيد على درهم وبعض درهم، وإذ تمنحه أمه زبيدة قبل هجرته القصر ياقوتة نفيسة يكفيه ثمنها رد غائلة الزمان وجائحاته، فإنه يموت شاباً من فرط التعبد وإنهاك العمل وقلة الزاد، من دون أن يلجأ لبيع الياقوتة التي يخبئها لأمّه كما أوصى قبل أن يموت. وبطبيعة الحال فإن أباه يتأسى عليه، ويأخذ على نفسه انجرافه باللذات.. لكن الحكايات التالية تنبئ بمزيد من الانجراف.

وهكذا فإن أغراض التعليم بتكرار قراءة الشعر وملازمة هذه القراءة للحكايات، والوعظ (أخذ العبر) تؤطر الحكايات بإطار سميك، وإن بدا خفيا في غالب الأحيان، وذلك بالتوازي مع إطلاق الخيال في مغامرات لا تنتهي تجتمع فيها الخوارق والمعجزات، وصنيع الشر والجن وهول الطبيعة وحضور الكائنات الأخرى، فيما تجتمع الوقائع الصحيحة حكم الخلافة ووزرائها مثلا مع الأحداث المتخيلة مع رجحان الأخيرة وغلبتها. وفي واقع الأمر فإن صيرورة الليالي مسرح للخرافات والوقائع، وميدان للوعظ والهزل والتهتك، ومنبر للتعليم والتثقيف والسلوى والتسرية، هو ما يمنحها بعض سحرها الباقي على مر العصور.

عابر للزمان والمكان

لكن هذا السحر لا يتوقف عند ما تقدّم ذكره.

فكتاب «ألف ليلة وليلة» عابر للزمان والمكان، تتعدد هوية واضعيه بعد أن اتفق متقصّوه على أن ليس للكتاب من مؤلف واحد بعينه، وإذا كان هذا هو حال الأغاني والأمثال والحكايات، فقلما وجد في التاريخ كتاب ينسب إلى جمع من المؤلفين لا عدد لهم ولا إحصاء، وعلاوة على ذلك فهم مجهولون كحال كتاب «ألف ليلة وليلة»، وزاد على ذلك أن المترجمين الأوائل هم بدورهم كثر وقد أضاف إلى هذا الكتاب منهم من أضاف، وأنقص من أنقص وهذا أيضا حال ناشرين يسعون إلى رواج الكتاب، أو التحايل على منعه في بلد من البلدان. وفي إحدى النسخ مجهولة المصدر محملة على الشبكة العنكبوتية فإن البطلة وردة الأكمام تصادف البطل أنس الوجود في مباراة للكرة وكانت قريبة من الشباك.! وفي حكاية أخرى يتحدث متحدثون مجهولون يتم ذكرهم على أنهم معروفون مثل: «ويحكي الشريف حسين ريان..» (الليلة الرابعة عشرة بعد المئة).

ومع تعدد المؤلفين الواضعين تتعدد بيئات الكتاب وفضاءاته وتشمل بلاد العرب من بغداد والبصرة إلى مصر ودمشق، إلى بيئات فارس والهند ناهيك ببلاد مجهولة وخرافية. وتلتقي بعض الحكايات في «ألف ليلة وليلة» مع حكايات باتت من تراث الشعوب الأخرى وهو ما أسهم في رواج الكتاب وذيوعه ومنها «الليالي العشر» للإيطالي جيوفاني بوكاتشيو و «حكايات كانتربري» لجيفري تشوسر. كما يذهب إلى ذلك الباحث السوري صهيب عنجريني. (الدستور الأردنية 27 يوليو 2012).

أما السحر الأكبر في الكتاب فيكمن في أمثولة قوة السرد والحكي على مقاومة الموت، وفي انتصار المخيلة الجامحة على قيود الواقع ورتابته، وهو ما اجتذب كتابا كباراً أمثال الأرجنتيني بورخيس والكولومبي ماركيز والأميركي إدغار آلن بو والألماني جوتة وغيرهم.

وبموازاة ذلك وجريا على اشتمال الكتاب على الشيء ونقيضه فإن موجة التحرر النسائي رأت في الحكاءة شهرزاد نموذجا للخضوع وتبخيس قيمة المرأة باحتسابها أداة لتسلية الرجل (شهريار) وجزءا من ممتلكاته، فيما الجواري يشهدن على اقتصار وظيفة النساء على نيل رضا الخلفاء والوزراء والأعيان والتجار وإمتاعهم، وحتى على قبولهن بأن يكن سلعة تُباع وتشترى كحال العبيد. وهؤلاء العبيد لهم حضور ملحوظ في الكتاب، ويحق لمن يستعبدونهم أن يفتكوا بهم اذا ما رأوا فيهم نذير شؤم مثلاً مما يجعل الكتاب شاهدا على عصر سادت فيه العبودية كجزء من ثقافة سائدة. واقتفاء بما يحفل به الكتاب من ظرف ونوادر، فلقارئ زماننا في القرن الحادي والعشرين أن يحاول إن وسعه ذلك جمع أرقام المبالغ المالية التي يأمر الخلفاء والأمراء بإنفاقها على مدى حكايات الليالي، وسيكتشف أنها إذا أضيفت الى القصور الباذخة والكميات المهولة من الجواهر والمعادن النفيسة الممتلكة والمهداة، سوف تعادل في الحصيلة ميزانيات دول كبيرة في زماننا!..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى