محمد حيدار - ضرائر الصمت.. قصة قصيرة

منذ حين انهى كبير الحي كلامه والنسيم ينبعث من مكان ما ، الوافدون على حلقة الجدار يكابدون مثقل سهوم أوهم الكبير بأنهم في حالة انجذاب كلي اليه، رغم أن الاستماع في مجلس الجدار أنهى مذاقه:
ــ الكل يمعن في الإنصات الى فوران نفسه
قيل هذا من جانب ما، وتراجع الذي حاول أن يقوم، وكدأبها مرت فتاة الحي في صمت، لون المشهد المغاير تأخذه طفلة الجدار في نظـر كبير الحكماء.
نحو العزلة، مجلس الجدار باستمرار ينداح به المكان، كركام يابسة في بحر يستقل، كالعادة ترسخ في أذهان المارة ومنذ أزمنة النزوح الثاني أخذ في التشكل، وجها أخر صار لأماسي المدينة، وحده السمر يحفر في الزمان وكؤوس الشاي المسائي تمثل موعد غبوق جاهلي معكوس التوقيت.
وعلى دأ بها المدينة لاترحب بجديد، لأنها لم تعد تطمئن اليه عكس سابق عهدها.
ـــ السعي ذاته فراغ.
لحظ رجل ما قبل ارتشاف الكاس:
ــ السائل المنعش يرفض تسكين الخواطر.
رد الذي يليه فاسكته كبير الحي لكيلا يرتج سياق الحديث:
ـــ عن أي النزوحين نتحدث؟
تساءل.
مجلس الجدار قلما يلفت المارة الى وجوده، رغم أن عيون جلاسه لا تخطيء أي حركة تمر قريبا منه، أو دبيبا ما على ضآلته:
ــ إنها فخخ جاهزة، كاميرات رصد أبدية.
قالت سيدة على عجل. قلن. وقال. وقالوا.
المارة عن كؤوس الشاي بأدب يعتذرون، في صمت يسخرون:
ــ هل أخطأ من سفّه المدينة؟
ــ المجالس عادات ريفية تقرف المدينة.
المدينة حركة، دأب، كدّ، مصالح، سعي، سرعة، مكابدة، صدام مع الوقت، ليست مجلسا للشاي، مرامي كلام الكبير تنغلق على أذهان من لبوا دعوته للجلوس منذ حين قال:
ـــ إبان الهجرتين لم يتح متسع لحمل كل شيء.
الطريق المهشم أمامه تمخره حافلات نقل حضري متأكلة الفولاذ كاكواخ يهتز تماسك صفائحها أمام حدة زوابع، مترعة بالنسوة والأطفال أبدا، لا جديد فيها إلا أسماء ملاكها، الكبير لا يستقلها البتة، يفضل السير راجلا، يرفض امتطاء علب السردين كما يسميها، سجيته الريفية لا تطاوعه على الالتصاق بالأجساد من كل زواياها، كيف يسيغ هذا ؟ ذات مرة كاد ينهش شعر فتاة أرغمه الازدحام على الوقوف مباشرة خلفها، لكن ما حيلته:
ــ والنساء مدار حركة المدينة ومركز انجذابها وجذبها؟
تحت صيحات المطارق والأزاميل تشرئب انصاف الأبنية، تتطاول، جدار يعلو جدارا، ومساحة تلتهم مساحة، واستزراع قصور،هي إذن الجبال الشاهقات هكذا اسماها الكبير، لعل الشعار اليوم ينطبق عليها بدل غيرها كما قال.
وفي مجلس الجدار، أحاديث وأحاديث عن الوصال والافتاء، والسوق والمجد، وحروب المائة سنة الأخيرة، كل ذلك يساق في خليط متماسك، كبير الحي لا تعنيه مصادره في مسائل الخلاف، ولذلك يتعالى لغط حوار بينه وبين أحد جلاسه الى درجة المشادات، يرفض التصويب ثم يختتم ثورته بقوله دائما:
ـــ في الخلاف رحمة.
لازمة يكررها لايفتأ ليلطف غلواء الشجار الذي يعقب الجدل عادة، ما ليس مسلما به هو الطارئ فقط، بصعوبة الأعين تفتك منظره
وازدحام الأنهج يأخذ أنظارالكبير أحيانا، الدهشة لاتقول بالترويض والصمت يزعجه، وبحوافي المجلس لطاولات التبغ تتسع الأرصفة، والتبغ درجات كالمدخنين، ودورات المغيب تلف تلال القمامة أمام عينيه كل مساء، ومع ذلك حفيف فتاة الحي يلطّف المكان كلما آن آوان مرورها منصرفة أو عائدة.
الدهشة يطالها يومي الترويض، والصمت يزعج كبير الحي، نحو الأفاق الممتنعة يهرب به حيث كل ألوان المكان تمتزج، تتعقد كالمصالح والغايات في المدينة.
ـــ الذي حدثني حدد علامات الساعة.
مقولاته في نهم تتشربها الحلقة، مطمئنا كان الى وقع كلماته في مجلس الجدار، وفي نظره لايوجد خارج المجلس سوى العدم، وحدهما دعاء الآذان ونداء الجنازة يشلان نبرات الكبير، يحيلانه إلى صوفية مشبعة بحنين، ويكسبانه وقارا تراثيا يجلل كؤوس الشاي:
- سر الإتزان.
ــ عكس كل سائل أخر يرفض أن ينساب في سكون لكيلا يفتقد مذاقه.
فقوام المجلس متعتان، الشاي والكلام إذا اختل أحدهما انفتح المكان على الوحشة.
ـــــ براءة.
ـــــ إفراج.
ـــ اتهام.
غالبا ما يأخذ المجلس مادته من المحاكم، محاكم المدينة، قد يكون الراوي شاهد عيان أو قارئ صحيفة .أو راويا ثالثا أو رابعا لا يهم المهم هو الخبر الذي يعقبه رأي بالضرورة.
والكبير لايتسع سمعه للصحيفة كما هو شأنه مع الراوي، فللصحيفة أساليبها في عرض الأخبار، وللراوي متعته في التنميق.
وحين اختفت فتاة الحي أثناء ذهابها، فرّ الكبير من صمته الى نفسه. صد هدير قارئ اليومية، عن الإنصات انقطع لأن الإنصات حين يتجاوز هموم الحي يحمل صفة الشرود بدوره.
الى أحد جلاسه أومأ ليعاود حديثا كان قد اجهضه صاحب الصحيفة حديث الحي كان مستجدا فعلا:
ـــ اشترى سيارة.
ـــ ابتنى سكنا ثانيا.
ـــ زار طبيبا.
ـــ خاصمت زوجها.
ـــ حادث اصطدام.
ـــ .......
كبير الحي زفر في تذمرأنهى كلام جليسه معلقا:
ـــ أمور لا طريف فيها.
أمام إصرار الكبير تراجع كلام الجليس، بخياله طاف عبر أجواء الحي أي جديد حدث؟ في قرارته تساءل، صاحب الصحيفة انصرف وأحضر جار ثان صنية شاي أخرى ودعا الكبير وجوها جديدة من المارة للمحادثة والاستماع معا.
ـــ الشاي حديث غير مسموع دعوة هو سريعة للموت إذا افتقدت لسان الحال.
من قرية نامت بتماس الأطلسين نزح الكبير داعية ريف لايحسن الحديث خارج الفروسية والشاي وصراع الظلمة والثلوج، وهروبي النبض. وكانت المدينة نهاية أمره.
المدينة؟ ما المدينة؟ أرياف تجانست، تراكمت عبر السنين، هو ذا ما يؤرق بعض مستمعي الكبير، غالبا ما سأل:
ـــ حين يلفظك الريفُ وترفضك المدينةُ ما أنت صانع ؟
وأربكه أيابُها مع نسيم المغيب، ساعتها التمس مخيالا وسطا، أقحم الفائتَ في المتحرك بين يديه.
أسيرا كان يُحسن المكابدة وتشده لحظات تفكير في آتي الأطفال؛ و آتي الأطفال شغل وعنوسة وتعلاّت تسرب وتسول، لكن إنكــــــــاره للضائقة لا يلطفها، الفارون من عدم ما يشغله أمرهم، لا لشيء سوى لأنه لايزال يستمر في تهريب سر البادية؛ فالبدوي غيريّ الاهتمام بطبيعته، ربما لزائد فضول في تركيبته النفسية، لذلك يُشرك الأخرين في أمره ويشاركهم شأنهم من غير استئذان حتى.
وحدها فتاة الحي حين تمر مع المساء تفقد الجمع تركيزه، كسهام نافذة أبصار الشيوخ تنوش مفاتنها، وكعادتها تمر في غير ابتــسام والكبيرلا يعرف بعد كيف تُنبتُ الأحياء الشعبية غوانيها، إذ بكل حي شعبي يلحظ مشروع غانية حتما قد يكتمل في يوم ما.
المدينة بهديرها وانصرافها عن نوازع الفرد، تكبروتكبر وكأنها أرسلت ببقية حنينها الى مكان ما خارجها، لم تكن تتلقى قِيّمها من الريف كما في سابق أمرها بل صار هو الذي يأخذ عنها، كما ومنها يجتلب الخبز والحليب .
والمدينة لا أحد فيها يحتاج إلى تلقين، الكل يرضع حروبها مع الصغر.
الكبيرمر بهجرتين؛ كلتاهما ارتبطت بحرب أو ما يشــــــــبه الحرب، رفض أن تعامله المدينة كإبرة في بيادر خرطال، بها ليس هناك من يدعوه باسمه، شهادة وفاته أيضا سينوب عنه من يستخرجها، المدينة تُلغي الأسماء لأنها اذا احتفلت بها صارت ريفا بدورها .
أنهك الكبير تفكيره فتلمس كأسه من جديد، كان يُضمـــــر العودة إلى مضارب الريف فور انكشاف العاصفة، فليهجرعلبة الضجيج هاته التي تُسمى بالمدينة، إنها من مرادفات الضيق والتسول وسقيم الهواء وغرابة الأطوار؛ جنون هي لا سند له، يُقال ان الرسميين بها حلوا محل أعيانها ومع ذلك فالمدينة لا تسلس قيادها لاي من الطرفين.
شعوره أحيانا يخترق مقولات النفسانيين دون علم منه أو تعلم، أنكر القول بالانسجام البعدي وأبقى على نظرته فقط، فالريفي ريفي بحضور نشأته في أغوار نفسه، وعكس المتعالمين ظل قياس الكبير ذاتيا ممتنعا عن القبول بنظر مزاحم .
ــــ لكن العودة بدورها مغامرة.
أسرالكبير الى نفسه في صمت مغامرة هي، إذ لا شئ يمكن الركون إليه، هناك ــ وقد انمحت مواقع التوهج التي غالبا ما شدت إليها وجدان الكبيرــ اختفت نقطة البدء هناك كما اختفت هنا أيضا ولاموقع بين الحافتين، لاموقع بين الحافتين لا موقع بين الحافتين،
وصاح الكبير كما لو انه اختنق:
ـــ لاموقع بين الهاويتين!
ونظر جلاسه بعضهم الى بعض في ذهول دون أن يسألوه لأنه غادر مجلسهم في تذمر ظاهر.
وفي هذه المرة رفضت نظراته الغاضبة أن تستقبل فتاة الحي أثناء عودتها.
لم يعد بالمدينة ما يشد بصره والريف ذاته يشفق من معاودة النظر اليه، لقد أمحت المدينة قابلية اندماجه في الريف من جديد وفي ذات الوقت امتنعت عن احتضانه، هل عليه أن يبحث عن حيز وسط؟ ومن أين له به والسماء أبعد من أحواز الارض؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى