ألف ليلة و ليلة هشام البستاني - الحكي تحت نصل السيف.. السلطان لا يزال مضطجعاً وسيّافه مسرور لا يزال واقفاً بالباب

شيءٌ ما لم أستسغه أبداً يكمن في اضطجاعة ذلك الرجل/ الطفل صاحب السلطة القادر على القتل المتسلسل البارد، مستمعاً إلى امرأة أذكى منه وأوسع مُخيّلةً تُلقي عليه الحكاية تلو الحكاية لتؤجِّل موتها. كنت أتخيّله في أجواء كتلك التي حفلت بها اللوحات الاستشراقيّة: أجواء الاسترخاء على مخدّات باذخة ناعمة؛ نساء لا حصر لهنّ ممتلئات يلبسن ما يشفّ عن ثمارهنّ الناضجات؛ وفي الخلفية حرّاسٌ أشداء بسيوف معقوفة.

الرجل/ الطفل المضطجع ذو العمامة على رأسه (عليها جوهرة نادرة في منتصف وجهها الأمامي لا بدّ، وترتفع فوقها ريشة طاووس) يُقهقه بيسر على شيء أَضحكه: طرفة ظريفة مرّت في الحكاية؛ أو يُفنجر عينيه مُتعجّباً غير مُصدّق من أين ظهر ذلك الكائن العجيب؛ أو يطلب من المرأة أن تُعيد من البداية علّه يستعيد نشوة الاستماع الأول. أما حين يَحرد الرجل/الطفل ويملّ اللعبة، فسيقطع رأسها، وتُستكمل التسلية بلعبة أخرى.

رغم أن الرجل/ الطفل هو هامش الحكاية لا متنها، إلا أن اضطجاعته المرتاحة تلك كانت تنقله دوماً إلى المركز، وكل ليلة تمرّ هي تأكيد على سلطانه وقوّته؛ كلّ ليلة تمرّ هي تأكيد على سطوته؛ كل ليلة تمرّ تقول بلا مواربة أن الحياة مجرّد هبة من السلطان لا غير، عرض لإطفاء نزقه وتأجيل ملله، وجبة -مختلفة كل مرة- لإشباع نهمه الممتد بلا نهاية، وعُقدهِ النفسيّة.

ألف جثة وجثةفي فيلم الصور المتحرّكة القصير العبقري المسمى «Fallen Art» لتوماس باجنسكي، نشاهد جندياً يُلقى من فوق منصة مرتفعة ليَلقى حتفه ارتطاماً بالأرض من أجل تسلية الجنرال. وتأثير التسلية مؤقت، لحظيّ، مثل نشوة المخدّر، وخطورة التسلية/ النشوة تكمن في القاع الذي سيلي القمة لا محالة: ذلك القاع بحاجة لجثة أخرى، فيُلقى جنديٌّ آخر، وآخر، وترقص الجثث في وضعيّات سقطتها الأخيرة من أجل عيني الجنرال المرهقتين الملولتين، فيضيء الطفل فيهما ويبدأ بالرقص. الفيلم هو حكاية ألف جثة وجثة: كل جنديّ تحطّم وانفرش دمه على الأرض حكاية، كل موت حكاية، كل ليلة حكاية، كل ليلة موت، موت هو جزء من سلسلة تشهد على نزق السلطان/ الجنرال/ الرجل/ الطفل، وعجز محيطه من الأذكياء إلا عن تلبية رغباته، أي انخراطهم المباشر والانتهازيّ في الفظاعات. أذكى الأذكياء هو من يحتال ليؤجّل موته إلى حين، والأذكى منه هو من يتحوّل تدريجياً إلى جرعة المخدّر التي لا بدّ منها؛ عندها فقط سيستمرّ بالحياة.

«Fallen Art» هو الهيكل الأساسي لـ«ألف ليلة وليلة»، بعد إزالة كل الحشوات والاستطرادات التخيّلية العظيمة التي لا وظيفة لها سوى تعزيز سياق الهامش/ السلطان، وإثبات مركزيّته الموارِبة؛ وحتى لا تتحوّل الراوية إلى جثة أخرى، عليها أن تصنع بديلاً عن الجثث الراقصة بتسليةٍ تأخذ شكل حكايات، وعلى الحكايات أن تكون مثيرة، اكزوتيكية، ايروتيكية، غرائبية، تُرضي فيتيشيّات السلطان واستيهاماته. هكذا تبقى الراوية عذراء إلى الأبد: امكانية مستمرة للافتضاض، ومن ثم الموت.

حين شاهدت فيلم بيير باولو بازوليني «Arabian Nights» للمرّة الأولى، تعجّبت أنْ كيف لمخرجٍ كبيرٍ أن يسقط في فخّ الاستشراق والمنظورات الاستشراقية بهذه السهولة، لكني الآن صرت أكثر تفهّماً لخياراته من باب نجاحه في جرّ «ألف ليلة وليلة» إلى منبعها الأصلي، فكل الاستيهامات الجنسية والايروتيكية التي يشتغل عليها وتشتغل عليها الحكاية الأصل، هي في صميم عقل مُنشئها/مُتلقيها الأساسيّ والأول: السلطان ذاته. أما تطرّفها وانحلالها وساديّتها فهي تعبير عن انحلال وساديّة السلطة التي تتحوّل إلى تطبيق كل استيهامتها على «عبيدها» متى استتبّت لها الهيمنة الكاملة عليهم، وهو ما اشتغل عليه بازوليني نفسه في فيلم آخر هو « Salò, or the 120 Days of Sodom».

في « Salò» نرى السلطان بلحمه وشحمه (على شكل النظام الفاشي الإيطالي)، أما استيهاماته الجنسية فليست حكايات تسردها الراوية لتشكيل نوع من التعويض التخيّلي الفانتازيّ يدفع عنها ويلات تحوّلها إلى واقع، بل هي الواقع نفسه مُجسّداً في ممارساتٍ يُجبر المعتقلون/ العبيد على تنفيذها أمامه أو بمشاركته في قصرٍ/ سجن.

المتن والهامشرغم كلّ ما في حكايات «الليالي» من جمال وفنيّات واشتغالات على الشكل هي اليوم في أساس حرفة السرد، مثل الغرائبية، والتخييل، وتقنية «الحكاية داخل الحكاية»، والجرأة الجنسية؛ ورغم كلّ ما تركته «الليالي» من بصمات كبيرة على الآداب والفنون العالمية؛ إلا أن شيئاً ما يظلّ يجرُّني من متن الحكايات إلى هامشها، من الحكايات نفسها إلى السياق الذي رُويت فيه، ولعلّ في هذا ما يجيب على سؤال احتفاء الغرب بـ «ألف ليلة وليلة»: فمن جانب تُرضي حكايات الراوية لمولاها السلطان شغف المتلصّص على عالم «الشرق» المبهم إلا من الأفكار المسبقة التي يجد تمثّلات متعدّدة لها في ليالٍ كثيرة. أما الصورة الذهنية المنطبعة عن مجلس السلطان فهي استحضار للوحة «الحمام التركيّ» لـجان أوغست دومنيك إنغريس، ذلك العالم الحريميّ الغريب الذي استبدل عوالم الديونيسيوسية في مخيّلة «الغرب» وطغى عليها: فكاليجيولا (شهريار العربدة والانحلال الرومانيّ) خرج من ملذّاته الذاتية واستيقظ، وصار لزاماً عليه أن يغزو ويستعمِر، وفي سياق ذلك يقوم كاليجيولا بـ»رَمْنَسِة» عوالم المستعمَرين و»أكزكتها»، والحفاظ عليها في تلك الصيغة العذراء البدائية الحيوانية الملذّاتية: على المستعمَر (بالمعنيين الماديّ والمتخيّل) أن يظل بدائياً، تصرّفاته أقرب للحيوانيّة، ودوافعه محض ملذّاتية. هكذا يظل المستعمِر مُطمئناً إلى صوابيّة قراره «الأخلاقي» بالاستعمار والاستغلال، مُتأكداً من تقدّمه، وحافظاً لبدائية المجتمع المستعمَر وأسراره التي لا ينبغي أن «تُنتهك» إلا بصفتها مادة للتلصص وبناء الاستيهامات. المستعمَر هو الأرض اليباب، المساحة العذراء؛ والمستعمِر هو امكانية الافتضاض المستمرّة المتجدّدة.

خطاب الهيمنةفي «ألف ليلة وليلة» نفسها ما يدل على نزوع السلطة المهيمنة لاختلاق «آخر» وجعله دوماً بدائياً وهمجياً وغريباً، فرحلات السندباد البحريّة السبعة خارج العالم الذي يعرفه ويملّه، خارج المركز، ومشاهداته الغريبة العجيبة هناك، ليست إلا تطبيقاً داخلياً لخطاب القوة والسلطة والهيمنة، فـ»هناك» يعيش العمالقة الأشرار، وتتكاثر الوحوش الخطيرة، وتتراكم الأخطار المحدقة بممثّل «المدنيّة» الذي يستطيع بذكائه وسعة حيلته أن يتغلّب على «الصّعاب» ويُخضعها، ويخرج سالماً غانماً كل مرة.

كل ذلك قد يُفسّر إنكاري أنا شخصياً لـ«الليالي» وتبرُّئي من نسبها الأدبيّ؛ قد يُفسّر طبيعة علاقتي الملتبسة بها من ثلاث زوايا تشكلت مع مرور الزمن وتطوّر التجربة: حكايات الطفولة ومغامراتها ورسومها المتحركة؛ ثم البحث المراهق عن المشاهد الجنسية وبناء الخيالات حولها؛ ثم النقد الناضج لبُنى السلطة وهياكلها وخطابها واستيهاماتها حول ذاتها وحول «الآخر». وقد أفهم الآن لِمَ يهرب كُتّاب العالم العربي من «الليالي» بالمعنيين السلبيّ والإيجابي: إنهم يهربون من السلطان وسيّافه خوفاً على حياتهم، وخوفاً من مواجهته، ولانعدام ثقتهم حتى بقدرتهم على الاحتيال عليه. «اقْطَعْ رأسي، ولكن قبل أن تفعل ذلك، دعني أرو لك حكاية..»، حتى هذا النوع من الشجاعة لم يعد، وعلينا ألا ننسى أن الراوية شهرزاد ابنة الوزير قدّمت نفسها، رغماً عن اعتراضات والدها، لوقف مجزرة العذراوات.

ربما هنا بالضبط تكمن القيمة الأساسية لـ«ألف ليلة وليلة»: أنها تذكّرنا يوماً بعد يوم بأن السلطان ما يزال مضطجعاً على فراشه الناعم، وأن سيافه مسروراً ما يزال واقفاً بالباب، وأننا ما زلنا نروي الروايات لتسليته علّه يُلقي بصرّة الدراهم ويصرفنا فنأمن شرّه، وأن الليالي ما زالت تتراكم وتزيد ولا تنتهي...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى