تقديم طه حسين للطبعة الأولى من كتاب «تاريخ الآداب العربية من الجاهلية حتى عصر بني أمية» لأستاذه المستشرق الإيطالي كارلو ناللينو..

هذا كتابٌ في تاريخ الأدب العربي، قرأته كما تعودت أن أقرأ أمثاله من الكتب التي تعرض للأدب العربي وغيره من الآداب الأخرى. ولكني لم أقرأه بعقلي وحده، كما تعودت أن أقرأ كتب التاريخ الأدبي، وإنما قرأته بعقلي وقلبي وشعوري، وبهذه العواطف الكثيرة المختلفة التي تثور في نفس الشيوخ حين يستحضرون أطرافاً من حياتهم في عصر من عصور شبابهم الأول.
عواطف هذا الحنين إلى شيء لا سبيل إليه، أو إلى أشياء لا سبيل إليها. وعواطف هذا الحب لما لا سبيل إلى بلوغه، ولا مطمع في تحقيقه. وعواطف هذا الحزن على هذا الحرمان الذي لا سبيل إلى استدراكه، ولا إلى اتقاء ما يثيره في النفس من المضض واللوعة والأسى.
ثم عواطف الأنس بتلك الآمال العذاب التي طالما تعلقت بها النفس واثقة مطمئنة، والتي صدقت ولم تكذب، وتحققت ولم تخب، فملأت القلب غبطة وبهجة وسروراً، وأعانت على العمل والجد والكد والنشاط، وأتاحت لكثير من المنى أن تتحقق ثم انقضت وانقضت أيامها، فأصبحت وكأنها حلم رائع رائق مضى مع تلك الليلة الجميلة التي أثارته وأثارت الرضى به، ثم مضت إلى غير رجعة ومضى معها حلمها ذلك السعيد.
نعم هذا كتابٌ يتجه إلى العقل؛ لأنه يؤرخ عصراً من عصور الشعر العربي القديم. ولكنه بالقياس إليّ وإلى نفر من رفاقي في ذلك الجيل الذي مضى، يتجه إلى القلب أيضاً لأنه قطعة من شبابنا، ولأنه يصور لنا لوناً من ألوان تلك الحياة التي كنا نحياها في أول هذا القرن، والتي لا يحياها الشباب الآن بعد أن تغيرت الحياة المصرية، وذهبت معالم تلك الحياة القريبة البعيدة، وأصبحنا لا نستحضرها إلا بالذكرى حينما تتيح لنا الحياة الحاضرة وأعمالها وأثقالها أن نخلو إلى نفوسنا ونفرغ لذكرياتنا. وما أقل ما تتاح لنا الخلوة إلى النفوس وما أندر ما يتاح لنا هذا الفراغ إلى الذكريات.
هذا كتاب في تاريخ الأدب العربي، سمعناه في أول شبابنا في تلك الجامعة المصرية القديمة من أستاذنا الإيطالي العظيم «كارلو ناللينو» منذ أربعة وأربعين عاماً (1911-1955). في ذلك الوقت، كنتُ طالباً في الأزهر أقيم في ذلك الحي الذي وصفتُه في كتاب (الأيام)، والذي زرته منذُ حين لأحدث به عهداً، ولأظهر عليه صديقاً لي من أساتذة مدريد ترجم كتاب (الأيام)، وشاقه هذا الحي فأراد أن يراه.
كنت أعيش في ذلك الحي، أخرج منه مصبحاً إلى الأزهر فأسمع فيه دروس الأدب من الأستاذ العظيم السيد علي المرصفي، وأخرج منه مع المساء إلى الجامعة المصرية فأسمع فيها دروس الأدب من الأستاذ العظيم «كارلو ناللينو». وكانت دروس الأدب تلك التي كنت أسمعها في الأزهر حين يرتفع الضحى تردني إلى حياة الطلاب القدماء الذين كانوا يختلفون إلى العلماء في مساجد البصرة والكوفة وبغداد. وكانت دروس الأدب التي أسمعها في الجامعة حين يقبل المساء تدفعني إلى حياة الطلاب الذين يختلفون إلى الجامعات في روما وباريس وغيرهما من المدن الجامعية الأوروبية الكبرى. فكنت أعيش مع الماضي البعيد وجه النهار، وأعيش مع الحاضر الأوروبي الحديث آخر النهار، وتشغلني خطوب الحياة المصرية الراكدة الممضة بين ذينك الوقتين. وكان الرفاق يجدون من هذه الحياة مثل ما كنت أجد، يسعدون حين يعودون إلى الماضي، ويسعدون حين يدفعون إلى الحياة الغربية التي كانوا يتطلعون إليها، ويشقون بين ذلك بالركود والجمود.
ويجب أن يتصور القراء من الشباب المعاصرين حياة أولئك الشيوخ الشباب من طلاب الأزهر في أول القرن، حياتهم المادية وحياتهم العقلية أيضاً. وأن يقدروا ما كان يملأ قلوب بعضهم من الرضى والغبطة، وهذا الغرور الحلو البريء الذي كان يمازج نفوسهم تلك الغضة المتواضعة حين كانوا يدفعون من حي الأزهر إلى حي قصر النيل، وحين كانوا يتحلقون مصبحين حول أعمدة الأزهر متربعين على الحصر البالية، ثم يجلسون إذا جاء المساء إلى أساتذتهم في غرفات الجامعة لا يتربعون على الحصر، وإنما يجلسون على الكراسي إلى تلك الموائد الصغار. وحين كانوا يسمعون من شيوخهم وجه النهار أحاديث الفقه والنحو كما كانت تلقى في تلك الأوقات، وبأيديهم ملازمهم تلك العتيقة، يتبعون فيها ما يقرأ الشيوخ عليهم من الكتب، ويسمعون لما يلقي عليهم الشيوخ من التأويل والتعليل والتحليل، فيفهمون قليلاً ويعجزون عن فهم كثير مما كانوا يسمعون.
فإذا كان المساء جلسوا إلى أساتذتهم أولئك من الأوربيين، فسمعوا منهم أحاديث لا عهد لهم بمثلها تلقى عليهم باللغة العربية الفصحى مع شيء من التواء الألسنة بهذه اللغة، فتقع تلك الأحاديث من آذانهم موقع الغرابة، ومن قلوبهم مواقع الماء من ذي الغلة الصادي، فإذا خلوا إلى أنفسهم بعد ذلك وازنوا بين ما يسمعون وما يرون أول النهار، وما يسمعون وما يرون آخر النهار.
فأثارت هذه الموازنة في نفوسهم عواطف وأهواء وميولاً أقل ما توصف به أنها كانت تصور لهم هذه الآماد البعيدة إلى أقصى غايات البعد، بين قديم سقيم سئموه وضاقوا به، وبين جديد أحبوه وتهالكوا عليه.
ووازنوا كذلك بين شيوخهم أولئك الذين كانوا لا يعربون إلا حين يقرؤون في الكتب، فإذا تكلموا غرقوا وأغرقوا طلابهم في اللغة العامية إلى أذقانهم أو إلى آذانهم، وبين أساتذتهم أولئك الأوروبيين الذين كانوا يعربون حين يقرؤون وحين يفسرون وحين يخوضون معهم فيما شاء الله من ألوان الحديث. وكانوا يسألون أنفسهم كيف أتيح لهؤلاء الأوروبيين ما أتيح لهم من العلم بأسرار اللغة العربية ودقائق آدابها، وكيف لم يتح هذا النوع من العلم لشيوخهم أولئك الأجلاء.
وكانت هذه الموازنات تثير في قلوبهم فنوناً من التمرد وتدفع نفوسهم إلى ضروب من الثورة والجموح، وكان هذا كله يعرضهم لكثير من الشر. وحسبك أنهم كانوا مقسمين بين الأزهر القديم والجامعة الجديدة.
وكان هذا يجعل حياتهم قلقاً كلها. وأي شيء أجدى على النفوس الشابة من هذا القلق الخصب الذي هو الأساس المتين لكل تطور منتج في الحياة العقلية والمادية جميعاً. وما أظن حياة الشباب «المطربشين» الذين كانوا يختلفون إلى الجامعة إلا مشبهة من كثير من الوجوه لحياة زملائهم المعممين. من أجل هذا كله يستطيع القارئ المعاصر أن يقدر ما كان للجامعة المصرية القديمة من أثر بعيد فيما طرأ من تغير خصب على حياة ذلك الجيل من أجيال الشباب.
أما أنا فقد سجلت غير مرة، وأسجل الآن، أني مدين بحياتي العقلية لهذين الأستاذين العظيمين: سيد علي المرصفي، الذي كنت أسمع دروسه وجه النهار، و«كارلو ناللينو» الذي كنت أسمع دروسه آخر النهار. أحدهما علمني كيف أقرأ النص العربي القديم، كيف أفهمه، وكيف أتمثله في نفسي، وكيف أحاول محاكاته.
وعلمني الآخر كيف أستنبط الحقائق من هذا النص، وكيف ألائم بينها، وكيف أصوغها آخر الأمر علماً يقرؤه الناس فيفهمونه ويجدون فيه شيئاً ذا بال. وكل ما أتيح لي بعد هذين الأستاذين العظيمين من الدرس والتحصيل في مصر وفي خارج مصر فهو قد أقيم على هذا الأساس الذي تلقيته منهما في ذلك الطور الأول من أطوار الشباب. بفضلهما لم أحس الغربة حين أمعنت في قراءة كتب الأدب العربي القديم، وحين اختلفت إلى الأساتذة الأوروبيين في جامعة باريس، وحين أمعنت في قراءة كتب الأدب الحديث.
فلا غرابة إذن في أن تكون حياتي كلها براً بهذين الأستاذين وإكباراً لهما واعترافاً بفضلهما وشكراً لما أهديا إليّ من معروف وما أسديا إليّ من جميل.
وشهد الله، ما قرأتُ في كتاب قديم ولا حديث ولا حاولتُ كتابة في الأدب إلا ذكرتُ أحدهما أو كليهما وأرسلتُ إليهما من أعماق نفسي تحية الحب والإعجاب والشكر والوفاء.
أما أنا فلم أُملِ هذه الصفحات إلا لأسجل برّي بأستاذي العظيم، وشكري لابنته الكريمة ولدار المعارف على ما أتاحتا لي من أن أرى لوناً من ألوان حياتي في طور من أطوار الشباب.


طه حسين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى