دعوة الحق - رأي طه حسين في الشعر الجاهلي

كتاب في "الشعر الجاهلي" للدكتور طه:
في عام 1344 هـ/ 1926م كان الدكتور طه حسين رحمه الله عضوا في هيئة التدريس في كلية الآداب بالجامعة المصرية ـ جامعة فؤاد الأول ـ ثم جامعة القاهرة فيما بعد ـ وكان يقوم بتدريس مادة "تاريخ الأدب العربي".
وفي العام نفسه أصدر كتابه المشهور "في الشعر الجاهلي" الذي طبع في مطبعة دار الكتب المصرية القاهرة في 183 صفحة.
وأثار الكتاب ضجة أدبية وسياسية كبيرة كان لها أثرها الضخم في الحياة الأدبية والفكرية، ومن غير شك كان الكتاب أساسا للدراسات الأدبية الحديثة. بل إننا نعده بدأ مرحلة جديدة في دراسة الأدب العربي. ولقد عزز الكتاب المنهج الحديث الاستشراقي في دراسة الأدب ونقده، وفتح الباب على مصراعيه لتأثر كبير في مجال الدراسات الأدبية بذالمناهج الجديدة، وفد صدر في نقد الكتاب كتب كثيرة كان في مقدمتها:
1- النقد التحليلي لكتاب الشعر الجاهلي للأستاذ محمد احمد الفمراوي.
2- الشهاب الراصد للأستاذ محمد لطفي جمعة صدر عام 1926.
3- نقض كتاب "في الشعر الجاهلي" للشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر فيما بعد.
- وقد صدر عام 1345 هـ عن المطبعة السلفية في القاهرة.
4- محاضرات في بيان الأخطاء التي اشتمل عليها كتابه "في الشعر الجاهلي" للشيخ محمد الخضري ـ نشرت في مجلة القضاء الشرعي.
5- نقد كتاب "الشعر الجاهلي" لمحمد فريد وجدي بمطبعة دائرة معارف القرن العشرين مصر ـ في أكتوبر 1926.
6- نقض مطاعن في القرآن الكريم للشيخ محمد عرفه.
7- الشعر الجاهلي والرد عيه لمحمد حسين.
8- مع زعيم الأدب العربي في القرن العشرين، للشيخ عبد المتعال الصعيدي.
9- نظرية الانتحال في الشعر الجاهلي ـ للدكتور عبد الحميد السلوت.
وعرض لنظرية الدكتور طه حسين في انتحال الشعر الجاهلي كثيرون من دراسي الأدب الجاهلي ـ وفي مقدمتهم الدكاترة: محمد عد المنعم خفاجي في كتابه "الحياة الأدبية في العصر الجاهلي"(1)، ناصر الدين الأسد في كتابه "مصادر الشعر الجاهلي"، وشوقي ضيف في كتابه "تاريخ الأدب العربي ـ العصر الجاهلي" ـ كما عرض لها كتاب كثيرون نشروا بحوثهم في مختلف الصحف والمجلات المصرية والعربية.
ولا شك أن هذه الموجة الضخمة من الكتب التي صدرت في دراسة الكتاب والتعليق عليه ونقده، كانت اعترافا بأهمية الكتاب وأثره ومدى ما أثاره من قضايا أدبية تاريخية.
وقد صودرت كتاب "في الشعر الجاهلي" وطبع من جديد بعنوان "الأدب الجاهلي" بعد حذف فقرات منه كانت هي السبب الجوهري في مصادرته وهذه الفقرات كانت من قصة إبراهيم وإسماعيل، حيث ذهب الدكتور طه إلى أنها "قصة متكلفة ومصنوعة في عصور متأخرة دعت إليها حاجة دينية أو اقتصادية أو سياسية " ورأى أن ورودها في الكتب الدينية لا يكفي إثبات صحتها التاريخية"(2). وكانت هذه الفقرات بمثابة التحدي، بل كانت مجازفة جريئة في ميدان البحث العلمي أيضا....وقد سبق أن جهر بعض المستشرقين بهذا الرأي من قبل، وذلك من مثل "الفرزويمر" الذي ترجم إلى العربية كتاب (مقالة في الإسلام) لمؤلفه جرجيس صال ـ الإنكليزي، والحق به ذيلا ردد فيه (في ص 10-25) القول أن قصة إسماعيل وسكناه مكة دسيسة لفقها قدماء اليهود للعرب، تزلفا إليهم، وتذرعا بهم إلى دفع الروم عن بيت المقدس أو إلى تأسيس مملكة لهم في بلاد العرب. ولما ظهر الرسول محمد رأى المصلحة في إقرراها فأقرها(3)... هكذا قال زويمر وهو مبشر معروف في الأوساط التبشيرية.
إن كتاب الأدب الجاهلي يمثل كل آراء ونظرية الدكتور طه في الشعر الجاهلي، ويحتوي على نظرية الانتحال التي ذهب إليها، وعرضها بتفصيل، مبنيا أدلتها ونتائجها التطبيقية، حيث أفاض الدكتور في شرح ذلك كله إفاضة واسعة.

شرح الدكتور طه لنظريته في الانتحال:
يرى الدكتور طه حسين أن الكثرة المطلقة مما يسمى أدبا جاهليا ليست من الجاهلية في شي إنما هي منتحلة بعد ظهور الإسلام، فهي تمثل حياة المسلمين أكثر مما تمثل حياة الجاهلية، وما بقي من الأدب الجاهلي الصحيح قليل جدا، لا يمثل شيئا، ولا يدل على شيء والعصر الجاهلي القريب من الإسلام إنما يمثله القرآن، وتمثله الأساطير(4) وعلى هذا فلا يصح الاستشهاد بهذا الشعر المنحول في تفسير القرآن بل يجب العكس(5)... والشعر الذي يضاف إليه الجاهليين يمثل حياة غامضة جافة بعيدة عن الدين، والقرآن يمثل لنا حياة دينية وعقلية قوية مما كان عليه المستثيرون من العرب، ويمثل لنا القرآن الكريم أيضا اتصال العرب بغيرهم من الأمم المجاورة كما يصور حياة العرب الاقتصادية من حيث تخلو الشعر الجاهلي من ذلك كله.(6) والأدب الجاهلي أيضا لا يمثل اللغة الجاهلية لاختلاف اللغة الحميرية عن اللغة العدنانية جد الاختلاف، والمأثور من شعر الشعراء القحطانيين مروي باللغة ـ العدنانية مع أنهم لم يكونوا يتكلمون بها، ولم يتخذوها لغة أدبية لهم قبل الإسلام، كما حدث بعد الإسلام مما يدل على انتحال هذا الشعر وسواه من فنون الأدب على هؤلاء القحطانيين(7). كما أن اختلاف اللهجات العدنانية أمر ثابت لاشك فيه، ولا نجد أثرا لهذا الاختلاف في الشعر الجاهلي المأثور، مما يدل على انتحال هذا الشعر، وأنه قد حمل حملا على هذه القبائل بعد الإسلام(8)
ثم يجمل الدكتور طه حسين في كتابه أسباب انتحال الشعر الجاهلي، فيذكر البواعث الدينية والسياسية، وأثر القصاص والشعوبية والرواة في هذا الانتحال(8). ثم يستعرض الشعراء مؤكدا ما ذهب إليه من أن أكثر ما يضاف إلى هؤلاء الشعراء الجاهليين منحول، رافضا الشعر المنسوب إلى شعرا من اليمن، لأن لليمن لغة تخالف لغة قريش ويقول: أن هجرة اليمنيين إلى الشمال مشكوك فيها أولا، وليس كل الشعراء هاجروا من اليمن ثانيا، فالشعر الذي يضاف إلى "جرهم" ـ وسواهم من الذين عاصروا إسماعيل منحول، وليس لليمن في الجاهلية شعراء. أما ربيعة وهي من عدنان، وتسكن في الشمال، فشعرها دون شعر المضريين، وأما مضر فكان لها شعراء يتخذون الشعر فنا، فالشعر أصل في مضر دون اليمن أو ربيعة، فنظرية تنقل الشعر في القبائل غير صحيحة، فالشعر إنما كان في مضر ثم انتقل إلى أٌقرب القبائل العربية إليها، وهم ربيعة ثم إلى القبائل البعيدة، كاليمن، ثم إلى الموالي وليس كما يقول علماء العربية من أن الشعر كان في اليمن، ثم انتقل إلى ربيعة، ثم إلى قيس من مضر، ثم إلى تميم، وشعرا المدينة ليسو يمنيين، بل هم مضربون.(9)
إن جملة آراء الدكتور طه حين ترتكز على أساس واحد، هو انتحال الشعر الجاهلي، وتأكيد هذا الانتحال بأدلة كثيرة، أهمها:
1- أن هذا الشعر المنسوب إلى الجاهليين لا يمثل الحياة الجاهلية
2- وأنه لا يمثل اللغة نفسها.
3- كما أنه لا يمثل اللهجات العربية.
هذه هي نظرية الدكتور طه في انتحال الشعر الجاهلي كاملة، وهي نظرية كان لها دويها الشديد، وكان لها كذلك طابع الثورة العقلية، التي استمد أصولها الدكتور من دراسته في فرنسا، وعلى أيدي الكثير من المستشرقين، وقد اعتمدت على ما تعتمد عليه مثل هذه الثورة من أدلة خطابية كثيرة.

نظرية الانتحال قل الدكتور طه:
وبلا ريب فإن لهذه النظرية مقدمات طويلة كانت هي مصادر الدكتور طه فيما ذهب إليه حولها:
1-فالفضل الضبي (289 هـ) كما يروي أبو الفرج في كتاب الأغاني يذكر عن حماد أنه " رجل عالم" بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه مدهب رجل، ويدخله في شعره ويحمل ذلك عنه في الآفاق فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد، وأين ذلك(10)؟
ويروي أبو الفرج أن حمادا (155 هـ) اعترف في مجلس الخليفة المهدي العباسي بأنه زاد في شعر زهير، وأن خلفاء الأحمر (181 هـ) وغيرهم اخترعوا من الشعر ما لم يكن موجودا في الجاهلية وكذبوا على الشعراء(11).
2- وبعد محمد بن سلام الجمحي البصري ( 231 هـ) من قدامى الذين عرضوا للشعر الجاهلي وانتحاله في كتابه "طبقات الشعراء فقال(12) "وفي الشعر المسموع موضوع كثير، لا خير فيه، ولا حجة في عربيته، ولا أدب يستفاد، ولا معنى يستخرج، ولا مثل يضرب، ولا مديح رائع، ولا هجاء مقذع، ولا فخر معجب، ولا نسب مستطرف، وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية ولم يعرضوه على العلماء" ويذكر ابن سلام أن ما حمل على طرفة وعبيد بن الأبرس من الشعر كثير(13). ويرجع سبب الانتحال إلى: غفلة العلماء أو جهلهم بوضع الشعر وانتحاله، أو اختلاط الأمر على بعض الرواة، أو محاولة بعض القبائل إلى التزيد من الشعر إذا قيل في مآثرهم، أو كذب الرواة وتلفيقهم رغبة في الجوائز، على أن أبا عبيدة ( 208 هـ)، والمفضل (189 هـ) والأصمعي (216 هـ) كانوا من ذوي العناية والتدفيق والضبط، وكان حماد ( 155 هـ) من موالي بكر، ولم يمنعه ذلك من رواية معلقة عمرو بن كلثوم في مفاخر قبيلته تغلب، وكما نعلم فإن تغلب وبكرا كانا في الجاهلية من أشد الأعداء بعضهما لبعض.
يثبت محمد بن سلام إذا الانتحال، ويرجعه إلى أسباب معقولة، ولا يسرف في أمر هذا الانتحال فيجعله في مواضع خاصة لا يتعداها، ومناسبات معينة لا يتجاوزها.
3- وابن هشام (218 هـ) صاحب السيرة يذكر الكثير من المنحول على حسان وغيره من شعراء الرسول والسيرة.
4- وكذلك يذكر ابن الفرج الأصفهاني في كتابه "الأغاني" الكثير من المنحول على الشعراء القدماء والمحدثين.
5- وعرض مصطفى صادق الرافعي في كتابه " تاريخ آداب العرب" المطبوع عام 1911 للانتحال في الشعر الجاهلي وأسبابه عرضا تفصيليا(14).
6- وكذلك عرض الدكتور احمد ضيف في كتابه "مقدمة لدراسة بلاغة العرب" الأصول نظرية الانتحال في الشعر الجاهلي وأسبابه، مستدلا بكلام ابن سلام، وسائرا في ضوئه(15).
7- ومن آثار البحث فيها من المستشرقين: "نولدكه"، و"رينيه بسيه" عميد كلية الآداب جامعة الجزائر سابقا، في رسالة له عنوانها "الشعر العربي الجاهلي" ـ طبع بباريس عام 1880، وكذلك نيكلسرن في كتابه تاريخ آداب اللغة العربية (16)
8- وذهب مرجليوث إلى أن الشعر الجاهلي منحول كله بعد الإسلام وأضيف إلى أسماء جاهلية،(17)ويقول: أن في لغة القرآن مشابه كثيرة من لغة الشعر الجاهلي(18). كما يرى أن الشعر الجاهلي في معظمه مصنوع، وضع على مثال القرآن(19) وقد أكد ذلك في مجلة الجمعية الأسيوية الملكية عام 1916(20).
9- وقد تصدى للرد عليه السير تشارلس جيس ليال في مقدمة ترجمة "المفضليات للإمام المفضل الضبي ـ 189 هـ المطبوعة عام 1918 ثم عاد مرجليوث وكتب في مجلة الجمعية الأسيوية الملكية عام 1925 مقالا ذكر فيه أدلته على الانتحال الشعر الجاهلي(21).
هذه هي جملة الآراء التي قبلت عن انتحال الشعر الجاهلي قبل أن يصدر الدكتور طه حسين كتابه "في الشعر الجاهلي" ويتبنى هذه النظرية ويفصلها.
ويتوسع في ذكر أدلتها في كتابه "الأدب الجاهلي"
-4-

أهم أدلة الدكتور طه حسين على نظريته:
أولا: لا يمثل الشعر الجاهلي حياة الجاهلين الدينية، ولا العقلية، ولا يصور لنا ما كان بينهم وبين غيرهم من الأمم المجاورة لهم من صلات سياسية ولا يصور لنا حياة العرب الاقتصادية(22).
وقد يكون رأى نولدكه المستشرق المعروف مناقضا كل المناقضة لرأي الدكتور طه، حيث ذهب إلى أن السبع الطوال أو المعلقات خالية بالتأكيد من التنزيف أو التزوير فلا يشك في صحتها.
ويؤكد رينان(23) صحة الشعر الجاهلي وثبوت صدقة بلا قيد ولا حصر، فإن المعلقات وديوان الحماسة وكتاب الأغاني وديوان الهذليين قد قبلها العلماء، وسلموا بأنها سابقة في معناها ومبناها لبعث محمد، أي أن العلماء أقروا صحتها شكلا وموضوعا، وأقروا انحدارها إلينا من العهد المتقدم على الإسلام، أما فيما يتعلق بالمعاني فلا يجوز الشك فيها لأن هذه الأشعار تمثل لنا الحياة الجاهلية كما تمثلها مرآة كاملة، وهذه القصائد تتعلق بشخصيات وحوادث حقيقية ولا يوجد ما يبيح لنا أن نفترض ـ كما افترض شولتنزـ أن المسلمين قد أبادوا الأدب الجاهلي بسبب عداوتهم للوثنية، فإن افتراضا كهذا يتنافر مع النتيجة الثابتة التي تدل على أن الكتابة لم يشع استعمالها عند العرب إلا قبل محمد بقرن واحد تقريبا، ويجب علينا أن نمنح درجة أعلى من التصديق والصحة للمقطوعات الشعرية الصغيرة المثبتة في كتب التاريخ والشعر الجاهلي، فإن هذا هو في الحق اقدم أنواع الشعر العربي ... ثم يقول رينان أيضا: وفي الحق نعتقد أن العرب لم يغيروا في الشعر الجاهلي شيئا عن قصد، وأن الاختلافات التي وجدت هي من النوع الذي لا يمكن اتقاؤه في حالة تداول النصوص بين أفواه الحافظين لها، دون معونة التقييد بالكتابة.(24)
قال نيكلسون في كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية" ص 131 كان(25) الشعر الجاهلي محفوظا بالتواتر الشفوي، وتساءل عن سر إمكان ذلك وأجاب عن هذا التساؤل في قوة وتأكيد لصحة هذا الشعر.
يقول "تين" في مقدمة كتاب "تاريخ فنون الأدب عند الإنجليز" أن الآداب صورة كاملة صحيحة من الأشخاص والزمن الذي يعيشون فيه(26). ويقول نيكلسون أستاذ آداب اللغة العربية في جامعة أكسفورد سابقا ومؤلف كتاب "تاريخ آداب اللغة العربية" ـ ص 11ـ من مقدمة الكتاب المطبوع عام 1914: (إن الشعر الجاهلي مرآة الحياة العربية).
ويقول أيضا في ص 26 أن مزايا العصر الجاهلي مرسومة صورها بأمانة ووضوح في الأغاني والأناشيد التي نظمها الشعراء الجاهليون) ـ ويقول كذلك في صفحة 27: ( أن الأدب الجاهلي المنظوم منه والمنثور يمكننا من تصوير حياة تلك الأيام ـ الجاهلية ـ تصويرا أقٌرب ما يكون من الدقة في مظاهره الكبرى).
ويقول ثوربيكه المستشرق الألماني في كتابه "عنترة أحد شعراء الجاهلية"(27) لا نملك مصادر موثوقا فيها لتدوين تاريخ تلك الغارات البدوية سوى القصائد والمقطوعات المحفوظة عن شعراء الجاهلية".
وقال أيضا في كتابه ص 79: "يمكن تعريف الشعر الجاهلي بأنه وصف مزين بالشواهد لحياة الجاهلية وأفكارها".
ويقول نولدكه المستشرق الهولندي في كتابه الشعر العربي القديم ـ الجاهلي ـ ص 17:(28) أن عادات العرب الجاهليين وأحوالهم معلومة لنا بدقة عن أشعارهم، وفي الشعر الجاهلي ما يفتن القارئ من أوصاف الحياة والعادات في البادية.
إن الشعر الجاهلي في رأينا نحن وثيقة خطيرة تصور حياة الجاهليين وألوان معيشتهم، وتصف البيئة الجاهلية بما فيها من حيوان ونبات وأرض وجبال وأشجار ووديان وقرى وصفا دقيقا وتعبر تعبيرا واضحا عن الأمطار والرياح والجو، وهي سجل لتاريخ الجاهليين وأيامهم ـ وأخبارهم. يقول محمد لطفي جمعة في كتابه "الشهاب الراصد"(29) (يدل الشعر الجاهلي) على نفوس ناظميه وحياتهم ـ بل أنه أصدق مثال لحياة العرب أنفسهم.
الشعر الديني الذي يمثل الحياة الدينية عند الجاهليين كثير ومبثوث في مختلف المصادر القديمة.
ويرى جورجي زيدان أن منظومات العرب الجاهليين في الناحية الدينية قد ضاعت في أثناء الأجيال لعدم تدوينها لاشتغالهم عنها بالحماسة والفخر، فلما جاء الإسلام أغضى الرواة عنها لأنها وثنية والإسلام يمحو ما قبله.
وفي الشعر الجاهلي دلالات واضحة كثيرة على اتصال العرب بغيرهم من الأمم وعلى ألوان الحياة الاقتصادية التي كانت تظلهم، ولكن هذا الشعر مفرق في مختلف المصادر، وليس مجموعا في كتاب واحد.
ثانيا: ما ذكره الدكتور طه من نفي وجود شعراء يمنيين ومن عكسه ما ذهب إليه الباحثون القدماء حول نظرية تنقل الشعر في القائل... وهو إنما يعتمد في ذلك على أدلة هي تصورات لا ترتفع إلى درجة الحقيقة.
ثالثا: الشعر الجاهلي واللغة:
يستدل الدكتور طه على انتحال الشعر الجاهلي بأنه لا يمثل اللغة العربية فالدكتور يرفض الشعر المنسوب إلى الشعراء من اليمن لأن لليمن لغة تخالف لغة قريش، ويشك في هجرة اليمنيين إلى الشمال، وليس من المعقول عنده أن يكون كل الشعراء قد هاجروا من اليمن، ويقول: انه ليس لليمن في الجاهلية شعراء، وكل ما يضاف إلى "جرهم" ـ وسواهم منحول. أن المأثور من شعر الشعراء القحطانيين مروى باللغة العدنانية الفصحى، مع أنهم لم يكونوا يتكلمون بها و لم يتخذوها لغة أدبية لهم قبل الإسلام، مما يدل ـ في رأي الدكتور ـ على انتحال هذا الشعر على القحطانيين.
ولا نسلم مع وجود فوارق بين الحميرية والعدنانية إنهما لغتان متميزتان، بل لا يزيد الخلاف بينهما على أنه اختلاف لهجات، والفوارق الكبيرة التي يجسمها بعض العلماء بين الحميرية والعدنانية يمكن حملها على أنها صورة لحياة قديمة جدا قبل عمل عوامل التهذيب اللغوي الكبيرة بين اللغتين القحطانية والعدنانية فإنه لا يترتب على ذلك وجوب تمثيل القحطانية في شعر الشعراء القحطانيين المروي شعرهم، لأن القحطانيين فريقان:
سبئيون وحميريون. فالسبئيون نزحوا من الجنوب إلى الشمال قبل الإسلام بعد سيل العرم، كما تؤكد ذلك جميع الوثائق التاريخية ومصادر كتب اللغة والأدب، ومنهم اللخميون المناذرة ملوك الحيرة والغساسنة ملوك الشام، والأوس والخزرج سكان المدينة، وسواهم أما "حمير" فهي التي كانت بأٍرضها في ظفار وصنعاء وما جاورهما، وهي التي قال فيها أبو عمر بن العلاء (1124 هـ): ما لسان "حمير" وأقاصي اليمن بلساننا، ولا عربيتهم بعربيتنا.
لقد قربت عوامل التهذيب اللغوي بين لغات الجنوب والشمال وجعلت هجرة السبئيين إلى الشمال اللغة العدنانية لغة لهم، وسكان الجنوب على أية حال إنما يرجع أكثرهم إلى هجرة شمالية، فقد ثبت للباحثين من أمثال مولر، وجلازر أن المعنيين أصلهم من عمالقة العراق قل الإسلام وقبل ظهور حمورابي بجملة قرون، والدولة الحميرية حكمت ست قرون ونصف قرن "135 ق م -525 م) وعدد ملوكها ثلاثون ملكا وقد فتح الأحباش اليمن في عهد الملك الحميري ذي نواس "515-525م" وقد قام الأمير سيف بن ذي يزن بتحرير اليمن بمساعدة الفرس.
أما دولة سبأ فهي التي كانت قل الدولة الحميرية وقد عاشت من القرن الثامن قل الميلاد حتى أواخر القرن الثاني قل الميلاد أيضا وقد انتهت حضارة هذه الدولة وسيادتها بفعل عاملين كبيرين:
- الأول: انتقال التجارة إلى الطريق البحري وانقطاع مرورها بسبأ.
- والثاني: سيل العرم الذي حطم سد مأرب فأغرق البلاد، وهاجر أهلها منها، وتفرقوا في أرجاء الجزيرة العربية.
وقد كانت هناك عوامل عديدة قربت على أية حال لغة السبئيين ـ والحميريين من لغة العدنانيين، واستمرت هذه العوامل تعمل عملها إلى ما قل ظهور الإسلام، وإلا فكيف كان يفهم ولاة رسول الله على اليمن لغة أهل اليمن وكيف فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لغة وفد اليمن الذي قدم المدينة عام الوفود ليسلم بين يدي الرسول صلوات الله عليه؟
أن القحطانية والعدنانية في الأصل لغة واحدة، والخلاف بينهما لا يرتفع عن مستوى كونه خلافا في اللهجات.
وإنكار شعر شاعر مثل امرئ القيس ـ بحجة أنه يمني وأن لغته تغاير اللغة العدنانية التي روى بها شعره لا يمثل لنا مطلقا تاريخيا يرد على ما تعرف من الأصول العدنانية لقبائل اليمن، ومن هجرة قبلية كندة إلى الشمال ونشأة امرئ القيس في مواطن بني أسد العدنانيين، وليس من المعقول أن يكون ملكا على الشماليين ويتكلم بلغة غير لغتهم وهو بين أظهرهم، يقول سيديو في كتابه المشهور "خلاصة تاريخ العرب": كان بين الإسماعيلية –العدنانيةـ والقحطانية تنافس المعاصرة المِؤدى إلى اختلاف الكلمة ثم مالوا إلى الوحدة السياسية ورأوا الأشعار وسيلة لانتشار فخارهم، وسبيلا إلى وصول مآثرهم وأعمالهم إلى أحفادهم فأحيوها وعكفوا عليها، لكن كلام شعراء نجد والحجاز لم يفهمه شعراء اليمن، بل لم تتفق قبائل بلد واحد على لغة واحدة.

رابعا: الشعر الجاهلي واللهجات:
يؤكد الدكتور طه نظريته في انتحال الشعر الجاهلي بأن اختلاف ـ اللهجات العدنانية أمر ثابت لاشك فيه، ونحن لا نجد أثرا لهذا الاختلاف في الشعر الجاهلي المأثور، مما يدل على انتحال هذا الشعر، وأنه قد حمل حملا على هذه القبائل بعد الإسلام(30)، ويرى أن شعر الشعراء الذين ينتسبون إلى ربيعة منحول لأنه لا يمثل لهجاتهم التي كانوا يتكلمون بها.
ونحن نرد على ذلك أن اختلاف اللهجة لا يؤثر على وزن الشعر وقافيته، لأن اللهجة هي طريق أداء الكلام إلى السامع ويتمثل ذلك في التفخيم والترقيق والإمالة وعدمها، الجهر والهمس، مما لا يؤثر في ذات الحرف ولا يستلزم العدول عنه أو عن الكلمة إلى غيرها، فالجملة الواحدة نستطيع النطق بها مختلفة الهيئة مع بقاء حرفها وكلماتها في كل صورة من صور النطق، كما في تلاوة القرآن الكريم بالقراءات المتعددة.
على أن المتابين المتناكر من اللهجات قد أزالته عوامل التهذيب اللغوي العديدة في جزيرة العرب، وسيادة لغة قريش ولهجاتها قبل الإسلام، وكان لمكانة قريش ولتنقلها بين القبائل والأمم، ولشهودها مواسم الحج وأسواق العرب وكثيرا من حروبهم، كان لكل ذلك أثره في صفاء لهجة قريش وعذوبة لغتها، وتخيرها من لهجات ولغات غيرها، مما جعل لهجتها تسود قبل الإسلام جميع لهجات القبائل وصارت القبائل المختلفة وشعراؤها يحاكونها في بلاغتها وفصاحتها وسمو لهجتها، وكانت صلات المصاهرة والمحاورة والاختلاط بين القبائل تغطي على كل خلاف لغوي وتقضي على كل فرقة لغوية بينها.
إن اختلاف لهجات القبائل العربية أمر مسلم به، ولكن هذا الاختلاف لا أثر له إطلاقا على الشعر ولا يخرج القبائل عن وصفها بأنها ذات لسان واحد، ولغة واحدة.
-5-
وبعد: فإن نظرية الدكتور طه حسين في انتحال الشعر الجاهلي تعد من أخصب النظريات الأدبية الجديدة ومن أشدها تكاملا، ومن أقواها إثارة، وأكثرها حوارا وجدلا.
وقد أحدثت أثرها في تطور الدراسات الأدبية والنقدية، وفي التمهيد للمناهج الجديدة في دراسة الأدب ونقده، وفي قيام حركة حوار رائعة خصبة لم تشهد الحركة الأدبية الحديثة والمعاصرة مثيلا لها من قبل ولا من بعد.
ومهما قيل في نقد هذه النظرية وفي التعليق عليها، فإنها بلا ريب تعد حدثا أدبيا فريدا في عصرنا، وتعد ظاهرة أدبية جديدة جديرة بالتسجيل والتفهم، وتعد علامة على طريق البحث الأدبي والتجديد فيه...
وقد كان الدكتور طه رائعا في أسلوبه وتفكيره وجمعه بين الآراء المتباينة ليؤلف منها وحدة متكاملة. وكان في إثارته، وفي جدله وحواره، وفي نقده وتعليقه شيئا فريدا غريبا.
وكان له من ملكاته ومواهبه وثقافته ومن ذكائه وألمعيته، ومن ذوقه الأدبي الرفيع، ما جعله يصعد إلى القمة، ويسمو إلى الذروة، ويجلس على أعلى مكان في صرح الأدب، حتى لقب بعميد الأدب العربي وكان هو في النثر الأدبي والدراسة الأدبية كشوقي بين الشعراء، كل منهما احتل منزلة العمادة، هذا في النثر، فصار عميده، وذاك في الشعر فصار أميره.
وعلى جملة فإن طه حسين ونظريته في انتحال الشعر الجاهلي سيظلان موضع الإثارة والاهتمام على مرور الأيام، وتوالي العصور...

- تفاؤل...-
تفقد المأمون جنده يوما...فرأى أحدهم فسأله عن اسمه فقال: عمر، عمرك الله، فقال له المامون: ابن من؟ فقال: ابن سعد أسعدك الله، فقال ابن من؟ فقال: ابن سالم سلمك الله....
فقال له أنت تحرس الليلة، فقال: الله يحرسك يا أمير المؤمنين، وهو خير حافظا، وهو أرحم الراحمين، فأمر له بجائزة ثم مضى المأمون وهو يقول:
إن أخا الهيجاء من يسعى معك
ومن يضر نفسه لنفعك
ومن أذا ريب الزمان صدعك
شتت فيك شمله ليجمعك

1 - ص 389-404 الحياة الأدبية في العصر الجاهلي ـ طبعة 1948.
2 - 25-29 في الشعر الجاهلي.
3 - النص عن كتاب "مع زعيم الأدب العربي" ص 25-48.
4-46 و 56 و 70 الأدب الجاهلي
5 - 66 المرجع السابق
6 - 96 وما بعدها المرجع نفسه
7 -81-95 المرجع نفسه.
8 - 96 وما بعده المرجع نفسه.
9 - 122 -186 الأدب الجاهلي.
10 - راجع 193 -208 الأدب الجاهلي للدكتور طه حين.
11 - الأغاني لأبي الفرج 5/172 ـ طبعة الساسي.
12 - المرجع السابق أيضا ـ وقد سبق إلى ذكر ذلك محمد لطفي جمعه في "الشهاب الراصد" ص 25 و 26 ـ ويذكر د. المسلوت في كتابه "نظرية الانتحال في الشعر الجاهلي" أيضا ص 71 و 193 و 194 وينفي رواية أن حماد جلس في مجلس الخليفة المهدي، لأن هذا الخليفة لم يجلس على عرش الخلافة إلا عام 158 هـ، بينما توفي حماد عام 155 هـ في راوية ابن خلكان او عام 156 هـ في رواية ابن النديم في "الفهرس" وقد ذكر ذلك نقلا عن الحضر حسين في كتابه "نقض كتاب الشعر الجاهلي" ص 271.
13 - ص 6 من مقدمة كتاب "طبقات الشعراء" بتحقيق الأستاذ محمود شاكر
14 - ص 22 المرجع السابق نفسه.
15 - 265-285 تاريخ آداب العرب للرافعي
16 - 50-62 مقدمة لدراسة بلاغة العرب لضيف ط 1921 بالقاهرة.
17 - ص 113 و 128 -131-135 طبعة عام 1914.
18 - مادة محمد من دائرة معارف الأديان والعقائد.
19 - كتاب محمد وظهور الإسلام لمرجليوث المطبوع عام 1905.
20 - راجع ص 352 مصادر الشعر الجاهلي.
21 - ص 397 ـ راجع ص 17 من كتاب نقض كتاب في الشعر الجاهلي للشيخ
22 - 352 مصادر الشعر الجاهلي، 17 نقض كتاب في الشعر الجاهلي" للخضر حسين و 75 نظرية الانتحال في الشعر الجاهلي للمسلوت.
23 - 70-81 الأدب الجاهلي لطه حسين.
24 - 354- 355 تاريخ اللغات السامية لبنان نقلا عن ص 302 من كتاب الشهاب الراصد.
25 - 362 المرجع السابق.
26 - هذا النص منقول عن كتاب الشهاب. الراصد ص 304.
27 - ص 39 الشهاب الراصد ـ محمد لطفي جمعة.
28 - راجع ص 14 من الكتاب.
29 طبع عام 1864 في هانفور ، نقلا عن ص 40 من كتاب الشهاب الراصد لمحمد لطفي جمعة.
30 - 41 الشهاب الراصد
31 - ص 96 وما بعدها من كتاب الأدب الجاهلي.


* عن دعوة الحق
167 العدد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى