محمد خير عبدالله - سيرة قذرة.. الفصل الأول من رواية

الفصل الأول


لكي أقتل ثرثرة أمي من خيبتي، ويبتلع أبي تهكمهُ علي، ذهبتُ إلى مقابلة مدير تحرير الصحيفة، أحمل بجيبي وصية له (يهمني أمره) كنت ألوك فيها حتى سال لُعابي، أمري لا يهم أحد، أعرف ذلك، أبي كان يتذمر على نطفته التي استقرت برحم أمي، لو كانت صادقة، أمي ماتت حنيتها بعد تخرجي من الجامعة بشهر واحد،أنا نفسي لا يُهمني أمري، أمّا البنات فقد سمعتهنّ يتمنيّن موتي، إحداهنَّ لها صدرٌ كبصقه فقير أدمن سف (الصعوط) قالت وهي تدق ذاك الصدر بيد معروقة: موتك يسرني...

غمغمتُ: لذا لن أموت لتموتي بغيظك، وبالتأكيد لعنتُها ولعنتُ سُلالتها، بنت الجيران الشبقة التي كانت محطة لحيوانات منوية لشعوب يحتار أعتى جهاز حاسوب في إحصائهم، قالت وهي تعلن شبقها حين قابلتها في طريقي، كنت سكراناً تفوح من فمي رائحة بصل وخمر وطني رخيص، بتلك الحال راودتها عن نفسها، لطمتني بتأفف: اذهب لواحدة غيري، وأخرى انفعلت حين غازلتها، وأنا لا أنوي المغازلة: أنت تحتاج لغلام وليس أنثي، أربكتني جملتها، انفعلتُ فيها، وصفتها بالكلبة وكل الحيوانات التي شاهدتها في حياتي واستقرت بدماغي، أبشع الصفات وصمتني بها تلك الفاجرة، كيف لشاب مثلي أن يراود غلام؟ خذلني لساني حين وددت أن أرد عليها: غلام كشقيقك؟ هل شاهدتني هذه الفاجرة أمشي مع أسامة جارنا؟ ربما! المهم ليلة البارحة حمل أبي عصاه غليظة كقضيبه، كما يفتخر أمام الأصدقاء، يصفه كوتد، لحظتها كنت أشفق على أمي النحيفة، وأتخيل أبي بوتده المزعوم فوقها، ولكنّي أتذكر مداولات بعض الأصدقاء عن النساء، يتفقون (المرآة النحيفة أمتع للرجل) فأحسد أبي على تمتعه بجسد أمي، بعد حديث أبي عن قضيبه صرت أتجسس عليهما حتى أسمع تأوهات أمي، لكن أبي ذاك المساء خيّرني إمّا العمل أو مغادرة البيت، طنطن ودس بجيبي الوصية التي أحملها الآن، طنطنة أبي أصابتني بأرق وعصا أبي التي لم تكن كعصا موسى قهرت أحلام ليلتي وجمعت هواجس وكوابيس واتتني في نومي، غادرت هذا الصباح البيت بأرقي وجيبي يضم وصية إلى مدير التحرير، لم أحفل بمناداة أمي لأفطر قبل خروجي، في الطريق إلى مبنى الصحيفة قلّت إحباطاتي داعبت خيالي أحلام يقظة، ممنياً نفسي أن يضحك لي الحظ، ليس كضحك صديقتي حنان حين وجدتُها بحضن ابن الجيران، كنت أُدندن بأغنية هابطة منتشياً، قابلت جارنا أُسامة المنبوذ لانحرافه الجنسي، يتمايل في مشيته، توجستُ وتشاءمتُ، انحرفت عن الطريق متعوذاً، أسرعت الخُطى، إمام مسجدنا ذكر جارنا أسامة في إحدى خُطبه بأنّه من قوم لوط، وصبّ عليه لعنات ونحن نردد خلفه آمين، قال أحد الموجودين: عقوبته أن يُرمى من أعلى مئذنة حتى يدق عنقه، بغباء تساءل أحد الحضور: مسجدنا ليس به مئذنة! هل نبني واحدة لكي نرمي منها أسامة؟

مات السؤال في فم الرجل وآذان الحضور، أبي حذرني بالابتعاد عن أسامة، حمدت الله أن أسامة لم يلحظني، سيلتصق بي أذا رآني! إنّه كملاح الويكة الذي تجيد أمي صنعه، ذات مرة ألحّ أسامة أن يمشي معي إلى السوق، رضخت وسرت معه مسرعاً متحاشياً أن يراني أحد ويخبر أبي. أمّا الآن سرعتي أبعدتني عنه، عُدتُ إلى دندنتي بصوتي الأجش، ريم التي تمنيتها في ليالي الشتاء كانت تتضايق من قبح صوتي، لعنها الله، حين اقتربتُ من مبني الصحيفة أغلقتُ فمي ومازالت أحرف الدندنة بحُنجرتي، تحسست الوصية بجيبي، إنّها الترياق الوحيد لصد سخرية أبي وعودة الحنان لصدر أمي، وصية أتى أبي بها من قريب لنا كانت له علاقة عاطفية بأمي، أبي كان يعلم ذلك، تخيلت أبي وهو يمسح من ذاكرته تلك العلاقة وهو يستكين أمامه ويتشفعه أن يبحث لي عن عمل! فدخلت قلبي شفقة لأبي، كنت حين أود إغضاب أمي أذكر لها قريبنا هذا، فتموج عروق عنقها وينزُّ جبينها عرقاً، المهم قتلتُ هذياني، أصلحتُ ياقة قميصي ونفضت تراب علق بحذائي، بللت يدي بلعابي ومسحته بها، لللعابِ فوائدٌ أخرى يهمس بها الكبار في جلسات المساء، أخرجتُ الوصية من جيبي، ضممتُ عليها أصابعي، ودخلتُ مبنى الصحيفة، وجدتُ السكرتيرة أمامي كانت تدلك شفتها السفلى بقطعة ثلج، ضحكتُ، وكدتُ أقول لها: إضافة الملح إلى الثلج يمحو الجروح، ونفسي ولجتْ عوالم أخرى، بعض الرجال لا يجيدون التقبيل، أحدهم يلتهم الشفاه وينهشها، كالذي أدمى شفاه السكرتيرة قبل دخولي عليها، وبعض الرجال يميلون إلى الرجال كجارنا أسامة، اضطربتْ السكرتيرة حين رأتني أمامها فعاجلتها بثقة ناقصة: أريد مدير التحرير. أنزلتْ يدها عن شفتها وحدقتْ بوجهي كقطٍ ابتل بماء، حدقتُ فيها أنا أيضاً، كان شعرها مبعثراً واحمرارٌ بخديها وبريق بعينيها كدت أقول لها بتهورٍ عُرفت به، لا يهمك، الجنس بالمكاتب له مذاقٌ آخر، كمذاق كوب قهوةٍ من يد مومس، لكنّي بلعتُ جُملتي، السكرتيرة، ويدها على شفتها سألتني بانزعاج: لماذا تريد مدير التحرير؟

أجبتها بجلافة مكتملة ويدي تتحسس الوصية: هو من يريدني، جُملتي هذه حيّدت موقفها العدائي وحولته إلى عاطفة، قبل أن تموت عاطفتها، عاطفة السكرتيرات كتيّار هواءٍ يمر عبر نافذة سيارةٍ مسرعة، ردتْ وقد رسمتْ بسمة مصنوعة: عنده اجتماع! سراً قلت وأنا أُحدقُ في ورمِ شفتها: إنّ الإجتماع قد انتهى قبل حضوري، زاد تحديقها وعادتْ يدها اليسرى تتحسس شفتها: اجلس حتى ينتهي الإجتماع. جلستُ على كرسي قربها متوتراً، نهضتْ السكرتيرة ودخلْت مكتب مدير التحرير، أغلقت الباب خلفها، قلت في نفسي: ألآن ستخرج بورم في مكانٍ آخر غير شفتها!

عادتْ مسرعة، وقبل جلوسها قالت لي: ادخل عليه. نمتْ بداخلي رغبة لمداعبتها فقلت مدعياً البراءة: سأدخل بعد خروج الذين يجتمع بهم سيادته!

بمكرٍ ودهاء كأنّها تعودتْ على ألاعيب أمثالي ردتْ: خرجوا عبر الباب الآخر،

قالت جملتها بامتعاض، حاولتْ مداراة امتعاضها فنهضت وعادت إلى مدير التحرير، نظرت إلى ردفها قلت لابد أنّ مدير التحرير لديه فحولة زائدة! ردف السكرتيرة كمؤخرة دجاجة بلدية انتزع ريشها، مؤخرة لا تثير رجل، نقلت بصري إلى غرفة المكتب، إمتدت يدي إلى مقعد السكرتيرة وجدته دافي يبدو أنّها أخرجت هواء من أستها قبل حضوري بثواني، خلفها آيةٌ قرآنية تحض على التقوى، وأيضاً جوارها ثلاجة تستعملها للشرب وأشياء أخرى من بينها دلك شفتها بثلجها كلما دخلتْ على مدير التحرير، عادت السكرتيرة: أنّه في انتظارك!

فتحتُ الباب ودخلت عليه، لم يرفع رأسه نحوي: تفضل اجلس، جلستُ وأنا أبتلع هيئته بنظري، له وجه كمؤخرة قرد بحديقة حيوان حكومية، شعيرات بجانبي الرأس، صلعه كصلب طفل لقيط، رفع بصره نحوي، قابلته ببسمة بلهاء، مددتُ الوصية له تناولها وهمهم: لا توجد مشكلة نحن نحتاج إليك، طاف بخيالي ارتباك السكرتيرة عند دخولي، هذا الوجه الأنثوي بجسد مدير التحرير كيف رضيت به؟ قلت في نفسي: أولاً سأنتزعها منه وأرميها بعد ذلك، أنا لا أجامل المرأة التي تهب جسدها لمن لا يستحقه، تراجعتُ، لا لن أفعل لو فعلت سأكون صديق المنكسرات وهذا ما لا أرضاه لنفسي.

نهض مدير التحرير وتبعته قال للسكرتيرة : ألحقيه بالقسم الإجتماعي.

ثم التفت نحوي: ستكون محرراً بالقسم الإجتماعي بالصحيفة.

عاد مدير التحرير إلى مكتبه وتركني مع سكرتيرته، أبعدتْ يدها عن شفتها المتورمة وهمت بالحديث، التقت عيناها بعيني، كنت أُمعن النظر في ورمِ الشفة، قالت لي كأني صديقٌ قديم: صدمت الباب عند دخولي فأحدث جرحاً.

قلتُ لها باسماً وأنا أكتم خبثي: للأبوابِ غرامٌ مع الشفاه.

بعهرٍ فاضحٍ وضحكةٍ ماكرة ردت: بالذات هذه الباب!

انفتح أمامي باب آخر لمداعبة السكرتيرة: الأحياء ليسوا وحدهم الذين يحبون الجمال!

سألتني: هل تؤمن بالشيوخ والتصوف؟

أجبتها: أنا أؤمن بكل شيء ألم يقل الشاعر:

ما جاء نبي إلا وكنتُ** سليمان من آل البيت فأتبعه

إتسعتْ حدقتاها وبان جمالهما، جمال شغلني عن تورم شفتها السفلى، انبهرتُ وعزمتُ:

هذه السكرتيرة لي، أو ماتبقى منها ليبحث مدير التحرير عن سكرتيرة أخرى، مالت نحوي السكرتيرة قائلة: يبدو أن لك علاقة بمدير التحرير، استوعبك بالقسم الإجتماعي فوراً، داعبتها ضاحكاً: علاقتي به أقوى من علاقتك معه.

ارتجف جسدها قليلاً وقالت بيديها قبل لسانها: ليست لدي علاقة معه إنها علاقة عمل فقط!

قلت لها وأنا أضمر حديثاً آخر سيأتي يومه: أريد أن أبدأ عملي الآن. ماهو المطلوب مني؟

قالت: إن هذا القسم أهم أقسام الصحيفة وهو يهتم بأخبار الناس الذين هم في القاع والذين على قمة الهرم، أخبار الزواج والطلاق والوفيات، السجون، المقاهي والأسواق، وكل ما يحدث في المجتمع، مد مدير التحرير عنقه عبر الباب، كضبٍ صحراوي، تلك اللحظة نمت بداخلي كراهية نحوه، حاول مداعبتي حين ابتسم لي قائلاً: ابدأ عملك وأريد تحقيقاً عن المقاهي والأسواق الشعبية.

ساعدته السكرتيرة وتبرعت لي بما أعلمه: اختلط بهم حتى تعرفهم.

قلت وأنا أهم بالمغادرة: سأفعل.

لحقتني السكرتيرة وقالت: أرجو أن تقابل زميلك في القسم، قبل سؤالي عن زميلي وقف أمامي شاب شاحب الوجه غائر الوجنتين ضيق الجفن صافحني، قالت السكرتيرة: هذا هو زميلك، ثم أشارت نحوي: إنّه زميلٌ جديد، تصافحنا وتبادلنا كلمات معتادة عن الجو الصحفي والإرهاق والعنت، خرجتُ من الصحيفة وقد نويت أن أغوص في المجتمعات، فقيرها الذي أنتمي إليه طبقياً _مُكرهاً_ وثريها الذي أشتهي أسلوبه، ولو شئت الدقة أشتهي أجساد فتياته، نحن الفقراء نحسب الأثرياء كائنات لها أجساد من ذهب وفضة، وتدغدغ أحلامُنا طلاوة ولين أجساد النساء الثريات، ألأصدقاء بحيّنا الطرفي، وهم فقراء الفقراء، لهم أقوال كثيرة عن الأغنياء، جميعها تجعلك تنحاز لهم أو لأجسادهم، يزعم بعضنا من أصحاب الخيال الخصب أنّ فتيات الطبقة الثرية شبقات، وأنّ أجساد الفقراء تداعب أحلامهن، في هذا المجال يتداولون قصصاً عن فقير بائس أصبح ذو مال لأنّ فتاة غنية شاهدته عارياً وأعجبت بفحولته التي دل عليها ضخامة قضيبه، وفقير آخر أصبح معبود فتيات المجتمع المخملي لرائحة إبطيه، ويقولون إنهن تحاشينه حينما أصبح يتعطر ليطرد الرائحة الزنخة لإبطيه، وأكثر الفقراء ينجذبون للسماء طمعاً في بنات الحور حين يفقدون العشم في بنات الأرض، ويشذ فقراء آخرون يحملون حقداً طبقياً يذمون الأثرياء، وهذا الحقد لم أنجُ منه أنا، كنت أقسم أمام الأصدقاء بحيّنا الفقير: سأتزوج ذات يوم بفتاة غنية، يسخر مني البعض: غنية وغبية؟

أشتط: ليس بالأغنياء غباء!!

يوافقني أحد أندادي: الأغنياء بما لديهم من مال كنزوه يختارون الفتاة الفقيرة الجميلة ويتركون القبيحات لأمثالنا من التعساء، باختصار أنهم جمعوا الحسنين الغنى والجمال.

بالجامعة عرف الجميع برغبتي في إقامة علاقة مع فتاة غنية، وهذا ما حدث، بعد محاولات عديدة، لا تخلو من الإحباطات ونفور الطالبات مني، وقد وسمنني بالملحاح وصفات أخرى أحدثت جروحاً بقلبي، من بينهن ريم العرجاء، تغزلتُ فيها ومدحتُ جمالها وأنا أعني بجمالها ثروة أبيها التاجر المرابي، رغم ذلك رفضتني. السنة الثانية بالجامعة تم مرادي وتعلقتْ بي إحداهن، رغم قول صديقي الذي اسمحوا لي أن أصفه بالصديق الحاقد: هذه ليست أنثي! إنّها مركز قومي للدمامة، بعينيها عمش، أسنانها بارزة، وأذكر أنّي عاجلته متشبثاً كغريق: لها صدرُ غزالٍ نافر!

قهقه الحاقد: هذا توهمٌ منك ياصديقي!

قلت له وأنا أخفي تبرمي: دعني بوهمي الجميل.

لم يرتدع بل واصل تبجحه: إنّها تفتح رجليها قبل أن تفتح فمها!

غمغمت بكلمات فاحشة بحق الصديق، الآن حين أتذكر حبيبتي التي كنت أغني لها:

في عيونك ضجة الشوق والهواجس..

أقر أن صديقي على حق ولم يكن حاقداً، المهم تخرجتُ من الجامعة وليس بذاكرتي حبيبة أفتخر بها، حين التحاقي بالعمل الصحفي، دغدغت مشاعري رغباتي القديمة، أقسمت سراً وأنا أقف أمام المرآة أمني نفسي: سأجد فتاة ثرية!

كنت شاباً غراً يظن أن العالم ملك يديه، يدفعني نشاط لولوج عوالم مخملية، وتخيلتُ نفسي ألتقطُ فتاة من المجتمع الراقي، وبلساني: من يمارس الجنس مع إحدى فتيات ذاك المجتمع ينتصر لطبقة الفقراء على مر التاريخ، مستعيناً بما حبتني به الطبيعة من وسامة، وما اكتسبته من معرفة هي كدٌ وفكرٌ واجتهاد، ليس أمامنا نحن الفقراء أن نغادر محطة الفقر سوى للعلم، من أراد قصراً منيفاً فعليه بالعلم، ومن أراد فتاة حسناء عليه بالعلم، ومن أرادهما معاً فعليه بالعلم، رغم أنف القائلين: (الجهل مريح) أبي يقول بحكمة دهور: (النشاط غلب الذكاء).

تقول أمي بحكمة نسائية: أسوأ شيء أن تُذعن للفقر!!

ولكن مدير التحرير الأصلع ذو خبثٍ أصيل وليس مكتسب كما علمت فيما بعد، صلعة مدير التحرير نتيجة لمرض جلدي وليست عبقرية، وإن كان يظن ذلك، ويعلن: أنا أبو الأفكار، كنت أهمس بعد جملته الغبية: إن أفكارك لها رائحة نتنة كأنّك تخرجها عبر دبرك! لكن مدير التحرير الغبي وجهني للذهاب إلى المقاهي وأماكن المهن الشعبية، يريدني أن أقضي يومي متجولاً ليخلو له الجو لينهش شفة السكرتيرة المسكينة، نعم مسكينة، سآخذها منه، كدتُ في تلك الساعة أرفض العمل بالقسم الإجتماعي ولكن زميلي همس في أذني: هكذا مهنة المتاعب، ولو لديك ميول أدبية فنعم الإختيار، لأنّك ستجد بالمقاهي مادة تصلح لكتابة أدبية، وأنصحك أن تبدأ بالمقهي الكبير، أنا واثق ستجد مواد تفرح مدير التحرير وترفع أسهمك!

قبلتُ نصيحة زميلي. خرجتُ ذات مساء أحمل أدواتي الصحفية متوجهاً إلى المقهى الكبير بقلب مدينة الخرطوم، أجتر معلومات عنه تبرع لي بها الزميل المذكور، بمكان قصي جلست وطفقت أنظر وأُسجل بذاكرتي، هذا المقهى بمقاعده المتآكلة التي فقدتْ رونقها القديم، تساقط الطلاء عن حوافها وثقوب تقاسمت أرضيتها، شجيرات المقهى الشاحبة بحزن لاقتلاعها من مكانها الأصلي وسجنها بهذا المكان، إحدى هذه الشجيرات الأكثر شحوباً، أتوا بها من بلاد يموت من الحر قملها، و شجيرة أخرى رغم نحافتها تطاولت نحو السماء تبحث عن هواء نقي يشفي اصفرار أوراقها، وعمال المقهى خاصمتهم النظافة، سحنتهم المتباينة تخبرك عن أصولهم الريفية وقبائلهم، وبعضهم ينتمي لدول الجوار، يرتاد المقهى الكبير أصناف شتى من البشر ألوان لا تجمعها دولة واحدهة بأرضها، سحنات أفريقية وعربية وآسيوية وبعضهم لا عربي ولا أفريقي، تجد فيهم العاطل عن العمل والمتعطل والعامل، المتعلم والجاهل، رجال كهول وشباب، يأتي من الرجال الذي لفظته المكاتب الحكومية، أثر انقلابات عسكرية أرادتْ تطهير الخدمة الوطنية من المتلاعبين، يأتي إلى المقهى لعله يجد من ينفث فيه غيظه والظلم الذي حاق به، ومنهم الذي يعمل بشركات وآخرين يمتهنون مهن حرة، كما يطلق على المهن الطارئة، وهي عكس ذلك، أيضاً يَعبر أبناء الشمس وبناتها المقهى الكبير يلتقطون ما يتساقط من الطاولات، مقابل صفعة بالخد أو ركلة على الظهر بأرجل العاملين المتسخة. ويشيعونهم بصفات حيوانية، وتأتي إلى المقهى الكبير بعض الفتيات، فتيات تمردنّ على المجتمع، رائدات تغيير كما يُطلق عليهن، إذا تفحصتهن أدركتَ أنّ التغيير شمل حديثهن الذي تمتط حروفه، تحس بالحروف تخرج من بين شفاهن الملساء اللامعة كأنّها تعطرت للتو، وملابسهن القصيرة التي تشف لتبرز أجساداً تحمل نهوداً ضامرات، يقول أبي بحكمة كهول: إذا زاد علم المرأة نقص فستانها.

يصر بعض السفهاء أنّ النهود المشربة لأعلى تدل على سهولة التقاط صاحبتها، معظم بائعات الهوى كانت لهنّ نهود مشرئبة، قبل عبث الأيادي بها. سكرتيرة مدير التحرير مكتنزة الصدر يبدو أنّه كان يرضعهما، الشابات اللائي يترددن على المقهى الكبير يحملن نهود كوجه محامي عجوز. وبالتأكيد يوجد بهذا المقهى عدد من المثقفين والصحفيين والكتاب، وتحديداً بالأمسيات حيث يجتمعون، يحملون رهق النهار الخرطومي الحار، ينفثون أمراضهم المسماة نقاشات، يتجادلون ويطلقون الأوصاف على بعضهم. بحس صحفي أيقنت من صدق زميلي، هنا توجد مواضيع جاهزة للعمل الصحفي،جلست كقط خلوي شم رائحة عدؤه التقليدي أراقب وأتصنت وأسجل بمفكرتي. أوليت اهتماما بشلة المثقفين، وتناسيت صرخات أمي: ياولدي لو تريد رضائي أبتعد عن السخانين!!

وهي تقصد الكتاب، ذلك صبيحة أحد العطلات ذهب معي إلى البيت كاتب شاب، يحمل حقيبة جلدية شخبطها برسومات منفرة، يرتدي أسمال من قماش ردي الصنع، رائحة فمه تجلب الصقر كما نقول في أمثالنا، أسنانه مصفرة يرمي التمباك كيفما أتفق، قرب الزير، تحت العنقريب، امتعضت أمي وسألتني: ماذا يعمل صاحبك؟

قلت لها بفرح حقيقي: كاتب!!

لم تفهم، حاولت أن أشرح لها:

:أنه شاب معروف ومهم واسمه وصورته على الصحف، وأفردت صفحة الصحيفة لتشاهد أمي صورة صديقي..

دقت صدرها مندهشة،" أمي تومن أيماناً كاثوليكي أن الذين ترى صورهم بالصحف موتى فقط، فكثيراً ما زرفت دموعاً على صور جميلة لأطفال بالصحيفة..

: مسكين مات صغير!

مهما أحاول أن أقنعها أن الصحف لا تنشر صور الموتى فقط، لا تصدقني، الآن أجد الصدق في موقف أمي من المثقفين، كلما تعرفت على أحدهم، نط حديث أبي: الفقر يعدي كالأمراض، وتذكرت زفرات أمي التي تطلقها كلما جاءت سيرة الثقافة بفمي، وسخانين ومعفنين، لكن رغم عفانتهم تنجذب نحوهم الفتيات، حبيبتي ريم العرجاء العمشاء رأيتها ذات مرة مع أحدهم أنا أوسم منه، رواسب كثيرة نمت مقتي نحو الكتاب والمثقفين، زميلي بالصحيفة يلح

- بالمقهي الكبير أهتم بشلة المثقفين، أنهم عبارة عن تجمع لعادات متنافرة، وسلوكيات فيها المنحط ومنها الرفيع، ستجد أنيق المظهر ونتن الجوهر، وستجد من يتخذ الثقافة وسيلة للتكسب، أنهم يتفوهون بكلمات مطلسمة..

ختم زميلي حديثة بجملة

- أمّا المثقفات أحذرك بالابتعاد عنهن!

قلت له وقد اتسعت حدقتا عيني

- كيف أعرف المثقفات؟

وضع يده على كتفي

- نحيفات كأمنية فقير، بائسات كزرع خاصمته الأمطار، أمّا رائحتهن كرائحة فيل مات قبل أسبوع!!

قاطعته

- تتحدث عن المثقفات؟

رد

- ليس لهن من الثقافة سوي الجسد المبذول لكل طارق، وبرؤؤسهن عناوين كتب وأسماء كتاب.

ضحكت من موقف زميلي من المثقفين، أنه يشبهني، وينتمي إلى حزب أمي، كدت أسأله

- هل كانت لك علاقة مع أحدى المثقفات؟

كتمت سؤالي وخرجت، في اليوم التالي جئت إلى المقهى الكبير، ذهني يضج بتصورات هلامية زرعها حديث زميلي ومشاهداتي ليلة أمس، وصلت المقهى مساء يوم ماطر، الأمطار تكسو الدنيا جمالاً ولكنها تمنح الخرطوم قبحاً أو تكشف عورتها، وهي على كل حال عورة يشمئز منها الانسان، كعورة حواء العاهرة بحينا، كانت سمينة كبغل تجلس على مقعد منخفض فاتحة رجليها نذهب لها ونحن في بداية المراهقة متسللين من المدرسة، نقف أمامها طابورا متوتر تجذب احدنا وتدخله بين رجليها وتهزه مرة أو أكثر وتستلم منه ثمن المضاجعة الغريبة، كذلك تفعل بالآخرين، نخرج منها وقد فقدنا ثمن الإفطار ونفتخر إننا مارسنا الجنس مع حواء ونتطاول في الكذب عن ضيق فتحتها وتأوهاتها ونحن نمتطيها، وبعض الأشقياء منا يدخلون خلف جارنا أسامة ويخرجون متوترين، هولاء كنا نلعنهم ونبتعد منهم. كانت أرضية المقهى مغطاة بمياه الأمطار وقد خلطت بمخلفات الطعام وعرق العمال. وقفت خارج سور سجلت بذاكرتي ملامح المقهى سحنات رواده، عدت إلى الصحيفة، وجدت مكتب السكرتيرة خالي منها، قلت في نفسي: شفتها الآن تحت رحمة مدير التحرير، اجتاحتني رغبة انتظارها بمكتبها حتى تخرج، وأضايقها كما ضايقت حبيبتي ريم ذات مكر، قابلتها ذات مساء وكنت أقود عربة أبي في طريق اشتهر بفتيات الليل وبائعات الهوى، أوقفت العربة ونادينها ببراءة. ريم..ريم.. أجلستها بجانبي في العربة، قالت لي كاذبة ذاهبة لقريبتي بحي (...) ذكرت حياً قصياً، قلت لها أنا على استعداد أن اوصلك لقريبتك وأعيدك! قد العربة بتمهل حتى وصلنا منزل قريبتها المزعوم وانتظرتها ساعات، ثم أعدتها إلى بيتهم، بهذه الطريقة أضعت عليها موعداً مع حبيب غيري! أذن ساضايق السكرتيرة وأبعدها عن انتهازية مدير التحرير، جلست أحمل أوراقي أتصفح فيها، جاء زميلي، صافحني وطلب مني الدخول إلى مكاتب القسم الاجتماعي، قلت له:

- أود مقابلة السكرتيرة!

تبسم قائلا:

- إنها في إجازة

نهضت وغادرت مبني الصحيفة وبرأسي أتساءل:

- ارتاحت شفاه السكرتيرة، كيف يقضي مدير التحرير يومه بغيابها؟ أنه لا يعمل أي شي سوي رضع الشفاه.

بعد يومين جئت إلى المقهى الكبير واتخذت لي مكاناً قصياً، أتجول بناظري في وجوه الرواد، كنت كل ساعة اطلب كوب قهوة أو شائي، هذه الطلبات الكثيرة ربطتني بنادل المقهى، ولي أن أقول نشأت بيننا علاقة، وهو شاب اريتري يتكلم العربية بطريقة مخنثة، يخلطها بلغات أوربية وافريقية، وحيناً يتكلم العربية كأنه حفيد سيبوبه. أمدني ذاك الشاب بما أوده من معلومات عن تاريخ المقهى وتاريخ اريتريا، اخبرني أنهم يقتلون السارق حصباً بالحجارة في الميادين العامة، سألته:

- كيف تعاقبون المثليين؟

برهة رأيت اندهاشا يعلن عن نفسه بجبينه،

- ليس عندنا مثليون!!

صرنا أنا والنادل الاريتري صديقين، كذلك استطعت خلال أيام إقامة علاقة مودة مع شلة المثقفين، كل يوم أتأكد من صدق زميلي وموقف أمي منهم، برؤؤسهم تصورات هلامية عن الكون، القملة عندهم جبل والجبل قملة، يتجادلون في اللاشي، يهربون من احباطاتهم نحو زجاجة خمر وكلمة نابية بحق الحكام،يفترسون أعراض الناس وينسجون علاقات متوهمة مع النساء، يتحدث احدهم عن ليلة قضاها مع فتاة كأنه قاتل مع خالد بن الوليد. أول الحضور من شلة المثقفين، الشاب سليمان السمجان،، أقول شاب تلطفاً مني، فهو في العقد الرابع من عمره، بين القصر والطول، أسمر اللون، ضيق الجفن، "كل ضيق الجفن نجيب يقولون" ولكن سليمان باتفاق الجميع غبي، بعينيه احمرار، تقول أمي بحماس يشاركها فيه كل السودانيين

- العين الحمراء دليل شجاعة،

أسالها بمكر:

- كيف انتصر الانجليز باخضرار عيونهم على جدودنا؟

ترد بيقين يغيظني

- الله أراد ذلك!

فلنعد إلى سليمان وندع أمي تجتر تاريخاً متوهماً، برأس سليمان شيب تمرد على محاولات الإخفاء، كلما صب سليمان على شعره صبغة أطلت شعيرات بيضاء، سليمان يبغض اثنين بياض الشعر والنادل الاريتري، يأتي إلى المقهى مبكراً، قبل مغيب الشمس، يحمل حقيبة على ظهره، حقيبة مليئة بكتب سياسية، وبصدره موامرات صغيرة يرتكبها، نتيجتها قهقهات يطلقها الأصدقاء، يسير بخطوات موزونة، يطأ الأرض برفق. ينتمي لدولة مجاورة يفاخر بها، فخر يخفي به هواجس تنتابه، حين وصوله إلى المقهى يمسح الحاضرين متفحصاً، ويعيد بصره إلى أرضية المقهى، أرضية أسمنتية حفرت عليها الأقدام حفراً فصارت كرأس صحفي أصلع، كما وصفها احد الرواد "الان حين أنظر لوجهي بالمرآة تدهشني بلاغة الوصف"، لو تمعنت في وجه سليمان لحظة حضوره لشاهدت هواجس تكاد تطل منه، وقابلتك تعابير لاتفسر على جبينه، يرمي تحيته بصوت هامس على من سبقه، ويجلس على كرسي ملتصقاً بالحائط، يقول ضاحكاً

- علمتني الحياة أن أعطي ظهري لحائط سميك..

يدخل يده في جيبه ويخرج ثمن كوب القهوة، ليس بخلاً بل حرصاً، ويذهب للنادل" نادل آخر غير الاريتري" ويعود يحمل قهوته، قبل أن يرشف منها يتلفت يمسح المقهى بعيني صقر، عينين عليهما خبث أشتهر به، يدنو بشفته نحو الكوب، تسبقه ضحكته القصيرة الخفيضة، يقطعها سماعه كلمة

"السلام عليكم"

يرميه بها الطويل الأهبل، هذه صفته،اسمه ادم، على جسده بنطال جنز رمادي صار لونه أسوداً به ثقوب بالخلف، يقول سليمان أنها نتيجة ما يطلقه دبر آدم من غازات، بجيب قميص آدم صندوق سجائر وطني، وهي الوحيدة التي تدل على وطنيته، كما يقول عن نفسه في لحظة ضيق، وهو شخص في العقد الخامس من العمر قضي نصفها في نضال، مع حزب عقائدي، أراد الحزب أن يجعل منه شاعراً، أمر احد منسوبيه من النقاد أن يكتب دراسات نقدية عن قصائد ادم، وهي قصائد قد حشاها بمفردات النضال وزخرفها بمفردات عاطفية يجزب بها قلوب الشابات، تقول معلومات تحصلت عليها، ليس بحياة آدم امرأة، كان حين يشاهد فتاة يتلوي جسده من الفرح كحرباء،

يقول سليمان

- حين يحلم آدم يحلم بولد إبليس وليس ابنته

.يرد سليمان السجمان على ادم تحيته بضيق وتبرم

- أهلاً

قبل تبادل الكلمات بينهما، يأتي حسين، شخص قصير كوتد، بوجهه وسامة، داخل جمجمة حسين ربع عقل، كما يقول الحضور، ولكنه يستعمله بطاقته القصوى، يعمل بصحيفة لا يقرأها احد، تسخر الشلة وتتهكم بقولهم:

- تطبع ألف نسخة ومرتجعها ألف وخمسمائة..

بالجامعة أراد حسين أن ينضم لحزب يوصم بالإلحاد، طمعاً في بنات الحزب، لكنه ألتحق بحزب شمالي ألهوي، دائماً يأتي حسين مصطحباً فتاه، وعلي ظهره حقيبة، ينشرح ادم لحضور حسين، تأكد لنا في ما بعد أن ضحكة آدم للفتاة وليست لحضور حسين، يكسو وجه آدم بسمة يمقتها سليمان الذي يقول عن ادم:

- انه يشبه الحمار حين يبتسم..

يصافح حسين سليمان وآدم، يضع حقيبته بجواره ثم يجلس، أما الفتاة فتصافحهما وتمد يدها تقطف ورقة من شجرة قربها وتغادر المقهى، في هذه اللحظة يري حسين القاص الباهت يأتي نحوهم، فيتعوذ مهمهماً، همهمة حسين تجعل سليمان وادم ينقلان نظرهما، فيشاهدان القاص الباهت، يصيح ادم –الباهت جاء!

القاص الباهت لا نعرف له أسماً، ينادونه بالباهت، نحيف كقشة صحراوية وجهه خالي عن تعبير، لا تعرفه فرح أم حزين، يضحك كديك خصي، يحب النميمة، يقولون..

- لو كان وحده لنم عن نفسه!!

علاقة الباهت مع البنات اختصرها أحد رواد المقهى..

- صديق المنكسرات!

ويشرح جملته بقوله:

- الباهت لا يتودد إلى فتاة إلا أذا علم بنهاية علاقتها العاطفية مع آخر

يأتي الباهت إلى المقهى خلسة قبل جلسته يرميهم بخبر، دائماً يأتي بالأخبار السيئة؟ يصرخ فيه آدم ويهم بطرده، قبل اكتمال صرخة ادم يظهر ياسين السمين، سمنة ياسين دخلت نقاشات الشلة.

يقول حسين

- الجثة الضخمة تدل على صغر العقل!

يوافقه ادم بسرعة، "ظهر ياسين مرة واحدة بالمقهي" الإخبار تقول انه التحق بأحدي الحركات المسلحة بدارفور، بعد ياسين يأتي عمر الطيب، أو عمر المدمن كما يحلو للبعض مناداته، شاب بدأ عملة بصحيفة رياضية، أوهمه البعض، أنت مثقف!، صدق وهجر الصحف الرياضية وصار يكتب مقالات عن الثقافة ببعض الصحف، مقالات كلها سب وشتم في الأخرين، وهذا ما عرضه لمشاكل عديدة، رغم طيبة قلبه، حين يضحك عمر يفتح فمه بأتساع يعتقل عيون الشلة، يقول آدم:

- الضحك بصوت عال من علامات الغباء والتخلف العقلي..

يوافقه حسين لكنه يضيف مستدركاً:

- يقول علماء النفس من كانت به علامة تخلف واحدة ربما يكون عبقرياً

بسخرية يرد سليمان ضاحكاً:

- اكتشفنا عبقرية بأحدنا!

تكتمل جلستهم حين تأتيهم بالمقهي محاسن "فاتنة المقهى"، كما يطلق عليها بعض الرواد، وهو لقب يفرحها، تبنته وصارت وسط صديقاتها، تضع يدها على صدرها وتفتخر أنا فاتنة المقهى الكبير، تأتي تعرج، يهمس سليمان السجمان..

- كل ذو عاهة جبار وشرهم الأعرج!

يداعبه آدم:

- شرهم الأعرج وليس العرجاء لا تحرف الحديث -!

وينقلون بصرهم من عرجها إلى وجهها بألوانه المتنافرة، يتمعنون فيها أو يسترقون النظر إليها، عليها ملابس تشف وتكشف عن جسد هجره الأغراء، صدر ضامر وأرداف لا تبين للناظر، رجلها اليمني أقصر من اليسري، رغم ذلك لها شفاه جذابة للعيون، بفم ضيق لكنها حين تفتحه تتقافز الكلمات الفاحشة، أطلقت عليها الشلة "الوعاء الفاحش"، حين حضور فاتنة المقهى تنتشر البسمات بينهم، لو أمعنت النظر فيهم، كل واحد يتمني جلوسها قربه، وهي تعرف ذلك، آدم يفرك يديه ويبتسم، سليمان السجمان يتحرك عدة مرات، عمر يمسح فمه من رائحة الخمر، حسين يرتفع صدره بشهقة مسموعة، تجول فاتنة المقهى بنظرها فيهم ويدها تنفض مؤخرتها، بعناية تختار من تجالسه، الذي تجلس قربه يشعر بزهو يبين بريقاً بعينيه، للفتاة هذه عادة غريبة، فهي تولي اهتماماً زائداً لكل جديد من شلة المثقفين، توهمه بهيامها وتعلقها به، بعضهم يصدق توهمها الذي لا يدوم أكثر من أسبوع، فتهجره لتختار غيره. وهذا ما جعلهم يتفقون على ذمها، فاتنة المقهى لا تطيل جلستها بينهم، حين تحس بارتياحهم لها وأن الشهوات بدأت تسري فيهم، تنهض واقفة، تتمطى فيبرز نهدها الضامر، ثم ترميهم بكلمة من قاموسها الذي يحتشد بكلمات بذيئة، وتغادرهم، بعد مغادرتها تنطلق أفواههم في حديث عنها.

يقول حسين وهو يضمر خبثه:

- أنها فتاة بريئة

يختلف معه سليمان بفجور ثوري

- أنها فتاة لعوب

يتدخل ادم بخبثه:

- هذه الفتاة مر بجسدها كل المثقفين الذين اعرفهم..

يقاطعه سليمان وقد تحرك من الكرسي ومال نحوه وضحكته الخبيثة مخبأة بين شفتيه:

- هل أنت من بينهم؟

يضحك ادم ضحكة يعجز سليمان عن تفسيرها،

- دائماً ضحكته غريبة..

يقول سليمان، ويواصل..

- هذه من تكتيكات التنظيم.

ينفعل حسين:

- كل التنظيمات لها تكتيكاتها..

انفعال حسين أراح آدم من حوار سيطول مع سليمان السجمان عن فاتنة المقهى، بصوته الخافض يهمس سليمان، همساً ينقل به نقاشهم لمجري آخر

- كل تنيظم يتشابه أتباعه جسداً وروحاً ولغة..

يرد آدم ويده مرفوعة كمن ينفض ذبابة ماكرة احتلت جبينه

- هذا معروف بالضرورة..

ويواصل حديثه:

- أنا في جلستي معكم بهذا المقهى أستطيع معرفة الانسان لأي تنظيم ينتمي من طريقة سيره في الشارع العام،

وينهض يمثل طريقة البعض في السير، يمشي خطوات ينظر في الأفق ويقول:

- هكذا نمشي نحن في التنظيم..

ثم يحني ظهره ويسير خطوات..

- هكذا يمشي أتباع التنظيم الديني.

ينطلقون في قهقهات، تشجع سليمان..

- أنا أعرف كاتب القصة من الشاعر وأنا بجلستي من نظرة واحدة، ويمضي يثرثر:

- كاتب القصة يمشي متعرج الخطو، والشاعر يسير بخطوات مستقيمة!!

يقاطعه حسين:

- كيف يسير النقاد؟

يرد بسرعة

- الناقد يسير خطوة إلى الأمام وثلاثة خطوات إلى الخلف...

تدخل القاص الباهت وسال سليمان:

- كيف يمشي السياسي؟

نظر له وصمت.بواصل الباهت سماجته

- كيف يسير المثلي؟

ينقل سليمان بصره نحو حسين ويصمت. ثم يغلبهم طبعهم فيعودون يثرثرون ببعض أسماء الكتب والكتاب، يختلفون حين يتداولون أنواع الكتب، ويتفقون في صب لعناتهم على كبار الكتاب، ذاك ديناصور حاقد على الجيل الجديد، والأخر يسرق أفكارهم، وبالتأكيد لا تنجو الحكومة من لعناتهم. باختصار كما تقول أمي

- لا يعجبهم العجب ولا الصيام في رجب.

آه ليت أمي تعلم.. أنهم لا يصومون رمضان!

هكذا تقضي الشلة ليلتها بالمقهي الكبير، لا تحسبوا أن العلاقة بينهم جميلة ومنسابة كبقية العلاقات، كل منهم يصلح أن يكون محور لرواية، أحياناً يعكر صفوهم حضور البعض، يتململون في جلستهم، لو كان ثقيل الظل، في نظرهم، يغادرون المكان واحداً تلو الأخر، بهذه الطريقة لفظوا كثيرين. منهم البروف الذي وسموه بأنه لا يجيد سوي المصافحة، يأتي مرات قليلة بصحبة القاص الباهت، يصفق سليمان متعجباً

- كيف أصبح مثل هذا "بروفسير"؟

يسانده الجميع في تعجبه واستنكاره، تنطلق ألسنتهم في ذم التعليم! ومن الذين يحضرون إلى المقهى كاتب قصص الأطفال، قصص رديئة كسلوكه المريب، يدعي النضال ويذم الحكومة والمتعاملين معها، وقد اختفي حين أكتشف عمر الطيب إن جميع كتب القاص المناضل -هكذا يعرف كاتب قصص الأطفال نفسه- قد طبعها امن النظام، أحياناً يأتي معه شخص سمين الأوراك، منفوش شعر الرأس، يرتدي بنطال جنز متسخ وقميص أحمر، يجهر بكلمات النضال والثورة وينفي الغيبيات معلناً ألحاده،. أطلقت عليه الشلة لقب "المناضل الملحد" وقد فرح بهذا اللقب، كلما حضر للمقهى تقيأ معلومات عن فساد الحكام، دمغة سليمان بالجاهل، وقال بتقعر:

- الإلحاد كسل ذهني!

المهم داوموا على الحضور إلى المقهى، تكبر الشلة وتنقص، وحكاياتها تكبر، ومنها حكاية الذي تتبعنا سيرته من أفواه هذه الشلة وآخرين، شخصية مريبة، شكله الخارجي لا يشبه جارنا أسامة وتختلف هيئته عن هيئة المثقفين، أجسامهم خشنة يشتركون في النحافة، إما صاحبنا فله جسد أنثي وبشرة ناعمة، أول ظهور له بالمقهي في احد الأمسيات، يغطي شعر رأسه شيب، بذراعه الأيمن يتدلي أكثر من تميمة، وعلي ذراعه الأيسر نتؤء بارز، وعلي عنقه عقد نسائي، له كرش ممتدة إلى الإمام وأرداف أنثوية، صوته خفيض تخرج الكلمات من فمه مشوشة، أردافه قادتني لمقارنتها بأرداف حواء العاهرة. تلك الأمسية محفورة بذاكرتي كأنها حدثت اليوم رغم مرور سنوات عليها، كنت أجلس مع الشلة، سليمان السجمان وعمر المدمن وحسين وآدم وفاتنة المقهى يجري بيننا حديث عن الأوضاع العامة، فجأة شعرت بالشلة تنسحب، سليمان خرج مطاطي الرأس وآدم وضع صحيفة فوق رأسه وأنسل، وحسين هرب بالباب الخلفي للمقهى وفاتنة المقهى رغم سكرها حملت حقيبتها وخرجت وقد سقط من الحقيبة مانع حمل ذكوري - قد استفدت منه - وعمر أختفي كيف ؟ لا أدري، اندهشت ونقلت بصري لبقية الرواد هناك مجموعة تلعب الورق، هولاء مجموعة يتجادلون في الكورة! ولكني شاهدت شابين بينهما فتاة يدخلان المقهى، جلسوا قربي، أرخيت أذني انتباها، علمت من السمين صاحب الأرداف والكرش البارزة إن له نظرية زعم أنها أتته بعد تفكير عميق، فحواها "لا يمكن معرفة الثقافة السودانية ألا بمعرفة مكونات التربة السودانية،، وسمعت الفتاة تقول له:

- هذه نظرية يهودية!!!

تدخل الشاب الآخر ضاحكاً

- هل أنت يهودي ياجلال؟

لم يرد عليه بل صار يعدد كيف الاستفادة من نظريته التي ستنقذ الثقافة السودانية، بضيق قالت له الفتاة

- وضحها لنا ياجلال؟

ابتسم وقال:

- هي نظرية مرتبطة بالجغرافيا واختصارها أذا أردت معرفة مكونات الثقافة لأي بلد عليك معرفة تربته!

نهضت وغادرتهم أبحث عن الشلة وجدتهم يقفون بمكان قريب يراقبون جلال! بوجوههم رعب حقيقي، حين وصولي سمعت ادم يقول لحسين

- يريد أن ينفي عن نفسه الشذوذ!

دنا حسين برأسه من ادم وقال:

- بعض الشاذين جنسياً لهم علاقات سوية مع الجنس الآخر.. وواصل حديثه:

- ربما تكون الفتاة التي معه شاذة أيضاً!

رد ادم بيقين:

- ليس ربما بل أكيد أنها شاذة!!!

قال سليمان:

- إن الشاب الذي حضر معه مرتبط به جنسياً!

وقد نالت الفتاة التي حضرت مع جلال تعليقات بذيئة، أكثرها بذائة نفثتها فاتنة المقهى

- الذي تتبعه ليس رجلاً! بل هي أرجل منه!!

ثم التفتت نحوي قائلة:

- لا يخدع بنت الناس أنه ليس رجل!!

وختمت جملتها...

- الترزي ذهب برجولته، لماذا لا يذهب إلى الترزي؟!

قاطعها حسين:

- أراك تتحدثين عن الفتاة كأنها رمزاً للشرف أنها وقف للنكاح..

أتم حسين جملته ونفض يده في الهواء غاضباً..

ردت فاتنة المقهى:

- لم أقل أنها شريفة ولكنها أحسن من جلال!!

ومضت تقول...

- نحن النساء خلقنا لذلك أمّا أنتم كيف تحولون مخارجكم لمداخل؟

وارتفعت نبرة صوتها وهي تحدق في حسين..

- أنت لو تريدها اذهب إليها!

رد حسين عليها:

- أنا لا أدافع عن جلال أنما قصدي القول " وافق شنٌّ طبقه".

ثم انتقل حديثهم عن علاقة بين جلال وجهاز أمن النظام..

قال عمر ضاحكاً:

- اقسم بأباريق الخمر أذا لم اعرف لكم السر بين جلال والفتاة...

قال سليمان السجمان:

- لما يقسم عمر بأباريق الخمر صدقوه..

تدخل آدم معارضاً:

- لا تظن علاقته بالخمر جيده يا سليمان، كأس وحيد يجعله يتقياَ كل أسراره!!

قاطعه سليمان بخبث...

: ألا ينفع معكم في الحزب؟

رد آدم على خبث سليمان:

- نحن لا نقبل أمثاله وأمثالك!

أحس سليمان بغربته فتحوصل بصمت اشتهر به، تدخل حسين موجهاً كلامه لأدم:

- لكن عمر نحن نعرفه يحب الخمر بل ويعشقها..

نقل حسين الحديث حين سألني:

- هل تعرف لماذا شاب شعر جلال؟

لم ينتظر إجابتي، فقال:

- شاب شعره نتيجة لتسرب حيوانات الترزي المنوية!

بتبرم قاطعته فاتنة المقهى:

- كلنا يعرف ذلك!

تدخل سليمان قائلاً:

- إنه رجل مشبوه! اسمه ليس جلال، بل الفيلاني..

ومضى يقول:

- الورم الذي بيده أثر عضة كلب أراد التهامه حين قذفته عند ولادته أمه على قارعة الطريق خوف الفضيحة، والآن يحتل منصب أمنياً كبيراً! وكان من الذين يعذبون المعتقلين، أيضاً انه شاذاً جنسياً! على الرغم من زواجه ثلاث مرات!!

تدخلت فاتنة المقهى وقد صرت وجهها:

- تلقاهن الثلاثة كلهن كجلال عاهرات بنات عاهرات!

قال عمر جملة أنهت وقفتهم تلك:

- أصبح وضعنا مكشوف يجب علينا الاختباء عن هذا اللعين...

أكد سليمان:

- أنا غريب لن أحضر للمقهى بعد اليوم..

آدم كان صامتاً كسى وجهه هم سألته

- هل تختفي أنت أيضاً؟

قال:

- أنا أول من يختفي لأن لجلال ثأر معي..

قال جملته وبحلقي سوال لم أستطع البوح به لابتعاد لآدم، هكذا ذهب كل واحد بطريق مختلف، وقفت بعد مغادرتهم والأسئلة تضج بداخلي، هل اختفي؟ وصورة جلال احتلت مقدمة رأسي، أنه لا يشبه جارنا، الذي تقول أمي:

- إنه امراة..

قلت لها:

- ليس له نهود يا أمي!

ضربتني وأخبرت أبي، تطاير شرر من عينيه، وضغط أصبعه السبابة بأسنانه المصفرة، كيف كانت أمي ترضي أن يقبلها أبي باصفرار أسنانه؟ ريم العرجاء قالت لي:

- لولا اصفرار أسنانك لصرعت الحسناوات..

عدت إلى البيت ودعكتهما بعطور وملح وليمون، فارتفعت ابتسامتي، حين عدت لريم وجدتها بحضن صديقي بأسنانه الداكنة. طالت سرحتي في ماضي عميق، وجدت نفسي وحديداً، الشلة اختفت بهلعها من جلال. قلت لنفسي أحثها أنا ليس عندي ما اخسره.. هل أذهب إلى المقهى؟ لا مفر، التردد لا يجدي، حب استطلاع كالذي قتل القطة قادني إلى المقهى لأستبين الحقيقة من أطراف أخري، أوصاني مدير التحرير المخنث قائلاً:

- في التقرير عليك أخذ رأي جميع الأطراف.

السكرتيرة تردد خلفه كببغاء بشفتيها اللائي استباحهن..

- الآراء المختلفة تعطي التحقيق صدقتيه..

عدت للمقهى وجدت جلال وشلته غادروا، جلست على مقعد مهتريء قرب الباب، أجتر المعلومات وأسجل فرحاً بمعلوماتي الخطيرة، سأثبت لمدير التحرير قدرتي على اختراق أماكن مجهولة هل يعلم مدير التحرير أن المقهى الكبير يسمي السوق المركزي للمثليين والمثليات، هل يعلم أن عملاء الأمن والمخبرين مزروعين فيه؟ وهل يعلم حال المناضل حينما يلتقي رجل أمن عذبه ذات يوم؟ سأقرأ تحقيقي للسكرتيرة أولا، جلست بمكان قصي بالمقهى، مكان يسمح لي برؤية الجميع، أخرجت ورقة أسجل بها إفادات شلة المقهى، سمعت حركة أرجل قربي، رأيت النادل الاريتري ينظر نحوي ويبتسم، حين تقابلت نظراتنا أشار لي بأن أغادر المقهى، قبل نهوضي رفعت بصري رأيت شاباً يبدو من النوع الذي يثق فيه القلب، لكن قلبي كيف يطمأن؟ طلب الشاب مني مبتسماً بتهذيب..

- هل يمكن أن أجلس معك؟

وصية أبي "لا ترفض من يود الجلوس معك" جعلتني أرد.

- هذا يفرحني

قبل أن يجلس نادي النادل

- لو سمحت أثنين قهوة، واحده لي والأخرى للأستاذ... وبصوت خفيض سألني عن أسمي قلت له كاذباً

- اسمي محمد..

أفرج عن بسمة قائلاً:

- أنا أيضاً اسمي محمد!

جاء النادل بكوبي القهوة، وهمس بأذني:

- اخرج!

رشف محمد رشفة ثم وضع الكوب وقال لي:

- لو سمحت أود أن اعلق على تصرفات أصدقائك حينما انصرفوا لحظة حضور جلال!

كانت يدي ممدودة نحو الكوب حين قال جملته..

قلت له:

- هل تعرفهم؟

قال:

- بالتأكيد لا اعرفهم ولكنهم من الرواد المداومين على الحضور وكنت أسترق السمع لنقاشاتهم التي تعجبني أنهم كتاب كبار على مايبدو من حديثهم!

قلت:

- صدقت ولكن هل تعرف جلال أيضاً؟

تناول كوب القهوة ورشف رشفتين..

وقال:

- تأكد لي أنك لا تعرفه لو كنت تعرفه لانسحبت مع أصدقائك، وحتى يطمئن قلبك أنا ليس منهم...

قلت له:

- من هم؟

قال:

- الذين يضرون الناس بل اعتبرني فاعل خير جاء ليحذرك من جلال! أولا أسمح لي أن احكي لك قصته:

- انه طفل لقيط، نهشت الكلاب يده وكادت تبترها، وربما ألتهمته لولا حضور أحد الرجال وطردها، وأيضا تعرض لحالة اغتصاب في طفولته، ويعمل في الأمن، متزوج من ثلاثة نساء اعرفهن: الأولي كانت معنا بمدينتنا وأبعدناها لسلوكها المنحرف، كانت عبارة عن جسد مبذول للرجال، كل من دب ولم يهب صب ماءً في بئرها، والثانية أيضاً كانت لها علاقة ما بصديق لي وأنه أول من قبلها، أمّا زوجة الثالثة، هذه لم أقابلها ولكن أعرف أنه تزوج بامرأة ثالثة! ولكن هذا لا يهم فالمهم أنه يظن أن لديه نظرية كبرى..

قاطعت محمد

- أي نظرية؟

- نظرية أدعي أنها فكرية ألهمه بها الله، يزعم أن هناك ارتباط بين الأدب والجغرافيا، دخل في مشاجرات عديدة بسببها، أحد المثقفين زجره: كيف تدعي انك صاحب نظرية ولم تصدر كتاباً واحداً، وسخر منه آخرون كثر لكنه أصر على التبشير بنظريته، ولكني أظنها من بنات دبره...

تعلقت ضحكة بحنجرتي، وددت كتمها لكنها خذلتني، نهض محمد وقال لي:

- أرجوك أبتعد عنه وإذا وجدته يتحدث عن نظريته الترابية فلا تقاطعه فهو يعتقد أنه المفكر الوحيد!!!

قلت لمحمد:

- أنا ممتن لك لأنك أفدتني بهذه المعلومات..

فافترقنا، أنا سعيد بتلك المعلومات، فرحاً كنت وقد نويت على تتبع سيرة جلال ـ أطلقت على بحثي "السيرة القذرة".
  • Like
التفاعلات: آدم بشير تاور

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى