بوزيد الغلى - أسا : مدينة الظلال والأطلال.. لمَ حيّرت الشاعر الكبير اسماعيل زويريق؟

ثمة سر خفي يجعل بعض الأمكنة مثل الصور الساحرة، ينظر إليها الناظرون بعيون غير العيون التي في رؤوسهم. إنهم يرونها كما يرى مفتون السحر العصا حية تسعى. ليس سراً أن بعض السرّ يكمن فيما عناه ريجيس دوبري إذ قال إن ثمة علاقة ما بين الصورة image والسحر magie . ذاك حال أسا التي رآها الرحّالة والكتاب والضباط الفرنسيون بعيون العاشقين، فقال عنها دولاشابيل: إنها مدينة القداسة ville sainte، ووصفت أدويت دوبيكودو سحر طبيعتها ونخلها الوارف، بينما انتبه الرحالة "يان بوتوتسكي" قبلها بقرن ونيف إلى سوقها العامر زمن المولد النبوي، فوصفها بملتقى شعوب غرب إفريقيا في القرن الثامن عشر.
بعيدا عن النثر، قريبا من الروح التي يطربها الشعر، سكب شيخ شعراء المغرب اسماعيل زويريق فيض أحاسيسه في قصيدة معبّرة، واقتنص صيد الخاطر، وهو يقف بأعلى نقطة على التلة المشرفة على وادي النخيل الذي يسبل على أسا الجاثمة بين جبلين رداء الينوعة والخضرة والماء المترقرق جداولَ تخترق البساتين، وتختزل تعب السنين وكدّ الأسلاف الأولين، فاختار لقصيدته عنواناً يشي بالحيرة بمعناها الصوفي في الموروث الشعبي، إذ إنما يتحيّر الصوفي، فيرقص طربا، عندما تأخذه الحال، وتستبد به إشراقات الروح وفيوض التجليات، فكيف تجلّت أسا في "رؤيا" الشاعر؟، والشعر ليس في نهاية المطاف سوى رؤيةً ورؤيا؟.
رؤية من أعلى:
نظر الشاعر إلى أسا من أعالي تاريخها موجهاً خطابه إلى الجد الإسمي (إعزا ويهدى) الذي ارتبطت باسمه زاويتها، كما مدّ عينيه إلى امتدادها الجغرافي من "الريش إلى الريش "، وهو يقف في علياء باب الريح الذي يؤمن رؤية صافية للسهل الذي شيدت فيه المدينة الجديدة إبان الفترة الاستعمارية، فقال:
من باب الريح أخاطب آل إيعزّا
عصيّ الكلام
أسهب الطرف يشهد حورية الرمل
يتأمل ما بين الريش والريش
يخترق الحدبات
يبعثر عشقي هناك وهناك.
لقد سرح الشاعر بنظره بين تضاريس المنطقة؛ حدباتها، هضابها، تلالها، وأرخى العنان للصور الشعرية فتراءت له كثبان الرمل بحراً تسبح فيه "الحوريات"، ولن نفهم جمالية هذه الصورة إلا إذا علمنا أن الفنان أو الرسام الجبابدي قد نقش أواسط الثمانينات حورية بحر جميلة على صخرة كبيرة وسط الوادي الخصيب، الأمر الذي يؤكد سحر المكان الذي يقذف في المخيلة صوراً بهية من صنع الخيال مثل صورة حورية تمخر البحر الرملي الممتد على مرمى البصر شمالا في اتجاه منطقة آدروم التي نسجت عنها حكايات خرافية وأساطير تلوكها الألسن .

في حضرة الأطلال العتيقة:
نظراً لعراقة المكان، فإن الشاعر لم يفوت نبش العتيق من تاريخه وتراثه، رغم التحسر على ما صار إليه من بؤس وظلام يغشى الخرائب المتآكلة في صمت، ذلك أن كل " شيء مظلم يستنير بماضيه العتيق" .
لفّ الشاعر زفرات أساهُ في غلالة شفيفة شفّت عن الكلمات الشجية التي أطلقها مثل رصاصات الرحمة، وهو يجوس خلال الأطلال الباقية والرسوم الدارسة، يبحث عن حشاشة روح باقِية تقاوم الفناء بين شواشي النخل وأرجاء النهر الذي غادرته الأطيار. ولأن الصورة الحية (مشاهدات الشاعر) ذات قرابة غريبة مع الشخصية كما يقول ريجيس دوبري، فإن مكمن الدهشة في الصورة الشعرية التي يرسمها الشاعر هو أنها تتوئم شخصيته المندهشة مع الطلل بما يبعثه في النفس من شجن، فإذا به يشعر كأنه الطلل بحدّ ذاته:
نام الظل تحت الجدار
انطلقت أجوس براري الخراب
باحثا عن شواشي النخل
طائفا في أرجاء النهر مندهشا
غادر الطير المكان
غادر الإنسان
كيف أستبقي الدمع يا نجمة الفجر
هذه الدور تمنحني الخوف
تجعلني طللا
مالي أقتفي أثر الراحلين على خملٍ
بين ألواح
كيف أحتمل المشي يا صاح
في حضرة الأطلال، ومسيرة البحث عن بقايا الحياة، يستخدم الشاعر طاقة إيحائية جبارة، تجعل الصورة الشعرية مفعمة بالدلالة، فالظل نائم تحت الجدار، كأنه يتوسد الماضي الراقد بين جنبات القصر التي منحت للشاعر خوفاً انزاح بدلالة المنح عن معناها الذي تفيده المنحة والهدية والعطية. إنها دلالة الخوف المنبعث من الجدران العتيقة بشكل مخيف يعيد إنتاج صورة الارتعاب من الصور القديمة والأطلال والخرائب التي تسكنها أشباح الماضي، لكنه ليس خوفاً مؤديا إلى الموت، بل مفضِ إلى الحياة ومنتصر لها كانتصار الخزفيين الأثينيين الذين فشت بينهم صورة محارب صغير يخرج كالسهم من قبر محارب قديم مات أحسن ميتة، مما يعني انتصاراً للحياة ، وإعادة للدفء في الصورة على النحو الذي فعله الشاعر بصورة آسا البلاغية في شعره، حينما قال:
"أنعمت صباحاً
أيتها المسكونة بالسحر
البَسي ثوبك الفضفاض بهيّاً
غوري في قلبي وردة تعشق الصبح
جسمك البضّ يوري فتيل العشق في جسدي
ضميني إليك محبّاً يخنقه البعد
إني نذرت وجودي فيك قصيداً
يا غادة ترتدي ثوبها الوردي على ضفة المستحيل".
لقد أتقن الشاعر بناء الصورة، ولنقل بتعبير ريجيس دوبري إنه أتقن المجازات (فن نقل عالم إلى آخر) ، وأدمن الاستعارات الجميلة حتى غدت مدينة أسا غادة توقظ العشق الغافي في كل شلوٍ من الجسد.
سهوب يحرسها الأولياء:
أخرج الشاعر من كنانة المخيال الشعبي الأسوي صورة مدينة يرقد فيها 366 وليّا كما ينام في تنبكتو 300 ولي حسب رواية الرحالة رونيه كايي الذي أسهب في سرد بعض مفردات المقدس الذي يحوط تنبكتو.
وقد استعاد الشاعر المتخيل الشعبي متسائلا عن حقيقة أو صفة اجتماع الأولياء في أسا كل عام وفق ما يرويه صاحب كتاب الإبريز عن شيخه عبد العزيز الدباغ، إذ يقول:
"وسألته رضي الله: هل يكون الديوان في موضع آخر غير غار حراء؟. فقال رضي الله عنه : نعم، يكون في موضع آخر مرة في العام لا غير،وهذا الموضع يقال له زاوية أسا (..)،فيحضره أولياء السودان" .
قال الشاعر:
ها هنا خيم الصمت يبكي رحيل الحمام
عنك أسأل يا أطلال "إداومليل"
عن كل جدار توسد فيك مرفقه ثم نام
عن ألف ولي ترابط فوق السهوب كيف يجتمعون كل عام؟.
حلم العودة:
ألهبت أسا أشواق الشاعر لرؤيتها تنبعث من رماد الماضي أميرة تعتمر التاج الجميل، فتخيلها ماءً يخمد نار الأسى والألم الذي يبعثه منظرها، وقد صارت خرائب غادرتها الروح؛ هجرها الحمام. ولا تنفك حلم استعادة المجد عن استشراف عودة الشاعر للاحتفاء والتملي برؤية "أسا"، وقد انبعثت من جديد:
أسا
يا أسا أنت النار وأنت الماء
يا أسا هبت ريحك عشقا بين الضلوع
صدقي
سأعود إليك
سأعود
يا أميرة هذا الوادي
وفوق رأسك
يا أسا التاج الجميل !



د. بوزيد الغلى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى