محفوظ بشري - سبتمبريات..

* في ذكري سبتمبر 2013...
في ذكري الخذلان ...

" قيل : في سحيق الزمن ، تعكر الوجود ، فعرق ، فتقطرت قطراته ، فاستنجت بها فلوات البغضاء ، ثم تكاثفت ، وغلت ، ودنت ، وتدلت ، فأظلمت في التجلي ، وتكررت في أودية الكتمان الغاسقة ، ثم في الحلكة الواقبة ، فتبلرت نثلا من غربال النجاة إلي أقبية الفناء فكبت ، ثم رميت ، فأخطأتها الرحمة ، فنثرت ، فانتثرت نقاط غضب فكانت الجنود " .

1 :
في كل يوم ..
يدفن الموتي أحياءهم ويعودون
صوب البلاد التي تغسل أسماءهم عن جلدها
لتنسي بكاء الشوارع
والأمهات .

في كل يوم ..
ينظر الشهداء مغيبهم شيئا فشيئا
عن جهات الذاكرة .

في كل يوم ..
ينام العسس في خلايا المدينة
يحرسون عظام الموتي من الصدأ
ويذكرون الهاربين بالمواجع .

في كل يوم ..
ثمة من يطمئن .

2 :
الآن ..
تطأ الشوارع قلبي بنعل السكون
وتذهب
محض " شوارع " تعبر خلف الأغاني
إلي مستقر الشجن .

الآن أسمع صوت البلاد رتيبا
يطفئ طعم اللسان :
تخون الشوارع حين يخون الزمن .

الآن ..
يخلع الشهداء صفاتهم
ينزلون من علي أسنة الرماح
ينزوون
في انتظار مجئ الدقائق كي يحسبوا المتبقي
من حبيبات الصباح .

3 :
وهم لا يموتون بتاتا
إلا أن يموت اللون في مخيلة الورد
أن يموت الصوت في أذن السماء
يموت التراب علي خاصرة الأرض
أو ...
أن يموت الفجر قرب النافذة .

4 :
يرفع الشهداء قبعة الوقت
يسألون : كم الساعة الآن ؟
أقول : ما زلنا نسير .

في القلب
يدخل الشهداء تحت أظافر الدقات
يملأون ثقوب الحكايات
ويدفئون ذكري الأماكن .. ولكن
يؤلمون كلما نادي النسيان الأفئدة .

يرفع الشهداء قبعة الوقت
يسألون : كيف نحن الآن ؟
أقول : يكاد يقتلنا الموت .

في الهنيهات إذ ترحل الأرض في ليلها
يتسلي الصمت بعناقيد الأسئلة ..
ينفض الشهداء أسماءهم من غبارنا
يرفعون قبعة الوقت
يسألون : أين نحن الآن ؟
أقول : ما زلنا في جحيم المسألة .

5 :
لا تقلب صفحة الدم هذه
ودع الكتاب مضاء
نافذة للعابرين إلي الجهة الخالدة ..
الدفء يسري الآن في القلب
النور روح تزغرد خلف الرموش
والنار تسري في العيون الباردة ..
ستري كيف أن خلف ظلام النهايات
يجهل من يخونون ومن يطفئون الحياة
أن الثورة تكتب سطرا فسطرا ..
لكنها تقرأ دفعة واحدة .

6 :
بعد يوم ..
يأخذ الثوار غفوتهم ..
يدخنون الأمسيات الشحيحة صامتين ..
يقبلون حبيباتهم ليشعروا من جديد بالحياة .

بعد يوم ..
ترجع الثائرات القهقري ..
يخطن جراح الشوارع مشيا علي بقايا الميتين ..
يدخلن بيوت الأنتظار مجددا .. وينمن .

بعد يوم ..
يجف دم الفجر المسفوح في الأزقة ..
ينسي العابرون مذاق الضوء ..
يحيي القاتل قاتله تحية الصباح ..
تبتسم البلاد للخريطة ..
يكنس الوقت حوشه من حفلة الدم ..
يبقي كل شئ كما يريد الله .

بعد يوم ..
يحكي المتفرجون من الذاكرة ..
كيف ماتت قلوب الصغار سدي ..
وكيف ماتت بلاد علي حدود النجاة .

بعد يوم ..
يفقأ الأسفلت ذاكرة المدينة ..
يخفي عطر من سقطوا عليه
طي أحذية المشاة المطرقين ..

بعد يوم ..
ينسي الغاضبون طعم الخطايا ..
ينكرون ظلالهم ..
يختبئون خلف سهومهم
ويروغون من أسمائهم القديمة ..

بعد يوم ..
قد يعود الذاهبون من أحلامهم ..
يولد الشهداء في قصص الشوارع من جديد ..
يثمل الباكون بالذكري ورائحة المشتهي ..
الأيدي ..
السوانح ..
الخذلان ..
كابوس الحياة ..

بعد يوم ..
قد يندم الموتي علي موتهم ..
ويندم الأحياء .

بعد يوم ..
قد يرانا الشهداء !


----------------------
* من مجموعة " إليسيوم " ، الصادرة عن منشورات الحركة الشعرية – السودان 2016 .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى