محمد الامري المصمودي - التربية عند ابن خلدون

بالرغم من أن مشكلة التربية أصبحت في العصور المتأخرة تستغرق الجزء الأوفر من اهتمام المسؤولين عن تربية الناس أفراد وجماعات، فإن العصور المتقدمة لم تعدم هي الأخرى مؤولين أعادوا فيها وأبدوا، وذهبوا في ذلك مذاهب شتى، وكان لكثير من مفكري الإسلام نصيبهم في الاهتمام بهذه المشكلة الحيوية، كان من أبرزهم في ذلك الإمام الغزالي، والقابسي، والقاضي ابن العربي، والعلامة أبن خلدون.
ولعل من الممتع أن نصاحب ابن خلدون مرة أخرى، لنطلع على مثير من آرائه في التربية وطرق التعليم، بعد أن صاحبناه في مقال سابق وتعرفنا على الفكر الإنساني كما يراه، ورائدنا في كل ذلك مقدمته القيمة.
ونعترف مقدما بأننا سوف نطلع على آراء لن ننجح إلى المبالغة إذا ذهبنا إلى أن كثيرا منها لا تزال التربية الحديثة تقره وتدعو إليه بكل إلحاح، يعضدها في ذلك علم النفس التعليمي الذي ذل كثيرا من الصعوبات أمام القائمين على التربية في كل مكان، على أننا لا ننكر أن هناك آراء أخرى لا تستطيع التربية الحديثة موافقته عليها، وسوف نستطيع أن نقف على كل ذلك في مكانه، ذاكرين مصدره عند ابن خلدون، وموقف التربية الحديثة منه ومرده عندها.

المناهج على عهده:
ولعل من المفيد أن نتعرف إلى مناهج الدراسة على عهد ابن خلدون قبل التعرض لأرائه التربوية معتمدين في ذلك عليه نفسه.
في الفصل الثاني والثلاثين(1)) من المقدمة يعني ابن خلدون بذكر المناهج الدراسية في بعض الأقطار الإسلامية، فيذكر أن تعليم القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعده من الملكات، وأن جميع الأقطار الإسلامية أخذت بذلك، لما فيه من تطرق الإيمان إلى القلوب من آيات القرآن، ومخافة أن ينقطع المتعلم عن الدراسة فيذهب خلوا منه، وتعليل ذلك عنده (أن تعليم الصغر أشد رسوخا، وهو أصل لما بعده، لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات، وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال ما ينبي عليه).
ويعلل اختلاف المناهج باختلافهم فيما ينشأ عن تعليم القرآن من الملكات، وبعد ذلك يشرع في ذكر المنهاج المتبع في كل قطر من بعض الأقطار الإسلامية، وهي كما يلي: المغرب، الأندلس، إفريقيا، المشرق.
فأهل المغرب كانوا يقتصرون في تعليم أطفالهم على القرآن وحده، لا يقرنون به حديثا ولا فقها ولاشعرا ولا لغة، إلى أن يحذقوه حفظا ورسما. هذا إلى مجاوزتهم حد البلوغ إلى طور الشباب، ونتيجة لهذا كان طلبة المغرب أقوم من غيرهم على حفظ القرآن ورسمه.

أما أهل الأندلس فبالرغم من أنهم جعلوا القرآن أصلا في التعليم فإنهم لم يقتصروا عليه وحده، بل أضافوا إليه رواية الشعر والترسل والنحو وتحسين الخط، ولهذه المادة الأخيرة حصة أكثر من باقي المواد، لذلك كان التلميذ الأندلسي لا يكاد يشرف على طور الشباب حتى يكون قد تضلع نسبيا في اللغة والشعر، وبرز في الخط، وحصلت له رغبة في العلم على الجملة. ويعترف ابن خلدون بأن ذلك (فيه كفاية لمن أرشده الله تعالى واستعداد إذا وجد المعلم).

وفي إفريقيا يجعلون القرآن أساس التعليم، لكنهم- كاهل الأندلس- يضيفون إليه مبادئ العلوم، بالرغم من أن حصص القرآن ورواياته كانت عندهم أكثر من غيرها، عكس أهل الأندلس الذين جعلوا الحصة الكبرى للخط، ولا يعدم تعليلا للشبه بين منهاجي أهل الأندلس وأهل إفريقيا، فهو كمؤرخ يعنى بتحليل حركة التاريخ وتعليلها، ويذكر لنا أن سبب ذلك الشبه، هو استقرار مشيخة الأندلس بتونس بعد تغلب الإسبان على الناحية الشرقية من الأندلس.

وعندما يريد أن يطلعنا على المنهاج بالمشرق، نفهم من كلامه أنه ليس مطلعا كل الإطلاع لكنه- على ما ينقل إليه- يذكر أنهم يخلطون في التعليم. ( وعنايتهم بدراسة القرآن وصحف العلم وقوانينه في زمن الشبيبة) ومعلم الخط عندهم له اختصاص بذلك، أما الألواح فتكتب للأطفال بخط قاصر عن الإجادة.
* *

نقده لهذه المناهج:
لم يكتف ابن خلدون بذكر المناهج، بل يأبى إلا أن يذكر في دقة ما ينتج عن كل منهاج من القصور، ودليله في ذلك التجربة والمشاهدة.
طلبة المغرب وإفريقيا، نظرا لاقتصار أولئك على دراسة القرآن وحده إلى طور الشباب، واعتناء هؤلاء به أكثر من غيره، ينشأون قاصرين عن ملكة اللسان، وعلة ذلك عنده ( أن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة، لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله، فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والإحتداء بها، وليس لهم ملكة في غير أساليبه، فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي وحظه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام).

لكنه يذكر أن أهل إفريقيا ربما كانوا أحق في ذلك من أهل المغرب، لأنهم بالرغم من إعطائهم الحصة الكبرى لدراسة القرآن وعلوم الدين، يضيفون إليها مبادئ العلوم وقوانينها، ولذلك يقوون على شيء من التصرف، وإن كانوا يقتصرون فيه عن حد البلاغة.

هل نملك إلا أن نوافقه على هذا؟
إذا داخلنا شيء من الريب فيه، فلنطلب إلا أحد حفاظ القرآن ممن لم سبق له أن درس غيره، أن يحرر لنا رسالة أو موضوعا بسيطا، وستكون النتيجة حتما مصداقا لما ذهب إليه صاحبنا ابن خلدون.

أما الأندلسيون فلتفننهم في التعليم، واعتنائهم بدراسة الشعر والترسل منذ صباهم، فقد حصلت لهم ملكة مكنتهم من التفوق على غيرهم في اللغة العربية، لكنهم بجانب ذلك قصروا في علوم الدين.
وهذا هو الواقع، فلو أننا عقدنا مقارنه بين ما أنجبته الأندلس من أدباء وشعراء، وما أنجبه المغرب من هؤلاء لوجدنا أن الأندلس تفوق المغرب في هذا المضمار، ويصح لنا أن ندعي العكس فيما يخص العناية بالقرآن وعلوم الدين.
* *
*
منهاج ابن العربي:
ثم يأبى إبن خلدون إلا أن يطلعنا على منهاج لأحد مفكري الأندلس، القاضي أبي بكر إبن العربي المعافري الإشبيلي ( 486-543ه) دفين فاس قرب ( باب المحروق)، وهو غير إبن عربي الحاتمي صاحب التآليف العديدة في التصوف والمتوفى حوالي القرن السابع الهجري، ومجمل هذا المنهاج:
1) تقديم تعليم العربية على سائر العلوم كما هو الشأن عند أهل الأندلس.
2) تعليم الحساب.
3) تعليم القرآن الكريم.
4) أصول الدين.
5) أصول الفقه.
6) الجدل.
7) الحديث وعلومه.

فبعد دراسة العربية، يكون بوسع المتعلم أن يدرك معاني القرآن، وينقل إلينا ابن خلدون صرخة استنكار أرسلها ابن العربي لتعليم الطفل القرآن وهو لا يقوى بعد على فهمه:
( ويا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أول أمره، يقرأ مالا يفهم وينصب في أمر غيره أهم عليه).

ثم يذكر لنا أن ابن العربي نهى أن يخلط في التعليم علمان، إلا إذا كانت للمتعلم قابلية لذلك، وسنرى فيما بعد أنه يتحمس لهذه الفكرة ويدافع عنها، ولا يخفي إعجابه بمنهاج ابن العربي ( وهو لعمري مذهب حسن) لكنه لا ينسى أن العوائد تحول دون تطبيقه، حيث تقتضي بتقديم دراسة القرآن للتبرك والثواب، ومخافة انقطاع المتعلم عن الدراسة فيفوته القرآن، ولو أن المؤكد كان عدم انقطاع المتعلم عن الدراسة، لكان مذهب القاضي ( أولى ما أخذ به أهل المغرب والمشرق) على حد تعبير ابن خلدون.

ونحن وإن كنا نهتز إعجابا لرأي القاضي فيما يخص عدم الابتداء بدراسة القرآن، لأن الطفل يقرأ ويحفظ مالا يفهم – والتربية الحديثة نفسها تحارب ذلك وتعده خطرا على الطفل- إلا أننا لا نوافقه على الاقتصار على علم واحد، لأن فيه مجلبة للسأم والكلال إلى النفوس الغضة التي يجلبها التنويع والتشويق، والتجارب التربوية تفيدنا أن التلاميذ الذين خصصت لهم حصة في مادة ما، لم تفق نتائجهم نتائج آخرين خصصت لهم حصة أقل من الحصة السابقة ، فلا عبرة في نظر التربية الحديثة بالكمية وامتداد الحصة، بل بالكيفية والأفاعيل المتنوعة.

ونتساءل بعد هذا، ماذا نستخلص من هذه المناهج التي عرضها علينا ابن خلدون غير غافل عن ذكر محاسن ومساوئ كل منها؟.
من المؤكد أننا نكون قد استنتجنا حقيقتين هامتين:
أولاهما: أن هدف التربية كان دينيا بالدرجة الأولى، وقد رأينا أن جميع المناهج السابقة كانت لا تخلو من عناية فائقة بدراسة القرآن وعلوم الدين، ولدينا دليل آخر، وهو التقسيم الذي عرف آنذاك للعلوم، فهناك علوم مقصودة بالذات كالشرعيات، ويندرج تحتها التفسير والفقه وعلم الكلام والطبيعيات و الإلهيات من الفلسفة. وعلوم آلية، وهي ما كانت وسيلة للعلوم المقصودة بالذات، كالعربية والحساب وغيرهما للشرعيات، وكالمنطق للفلسفة، فليست هذه إلا وسيلة استطاعوا بواسطتها التضلع في تلك.

وثانيهما: اهتمام علماء الإسلام بمشكلة التربية، واجتهادهم في البحث عن الطرق النافعة، وقد لا نعدم في كثير من آرائهم لمحات سيكولوجية.
ولا يفوتنا قبل أن ننهي الحديث عن المناهج، أن نشير إلا أن المنهاج ظل بالمغرب على ما كان عليه إلى وقت قريب، فالأطفال يبقون في الكتاتيب القرآنية إلى أن يحفظوا القرآن حفظا متقنا، ثم بعد ذلك يطلبون العلم في الكليات الدينية، ومن ثم كنا نجد حفاظ القرآن الكريم بالمغرب أكثر من غيرهم في أي قطر إسلامي آخر، وفي المنهاج الذي تتبعه مدارسنا الحديثة، لا نزال نجد حصة القرآن الكريم، تأخذ قسطا مهما حتى بالأقسام التحضيرية، الأمر الذي لا نخال وجوده في الأقطار الإسلامية الأخرى.

ومما يدعو إلى الغبطة، أن الرجال التعليم عندنا، لا يألون جهدا في شرح الآيات المقررة شرحا يتناسب ومستوى الأطفال وإدراكا تهم العقلية، ولن يداخلنا العجب في ذلك، مادمنا نعلم جيدا أن التعليم عندنا يسير على إحداث الأسس البيداغوجية...والسيكولوجية.

ويتهيأ لنا بعد أن أخذنا صورة عن مختلف المناهج على عهد الرجل، أن نطلع على مختلف آرائه التربوية، والطريقة التي يجب إتباعها في التعليم حسبما يرى، وسوف نهتز لكثير من الآراء، ونشعر بغير قليل من الإعجاب لبعضها، مما يخيل إلى كثير أنها لم يكتب لها الظهور قيبل مفكري الغرب من المربين، أمثال ( روسو) و (بستالوتزي) و ( لوك) وغيرهم، ممن لا نحط من قيمتهم أو ننكر فضلهم على التربية، وسف لا نعدم آراء أخرى لا نملك أن نوافقه عليها، ولا أن نلومه أيضا، لأن لقانون التطور اليد الطولى في تصحيح كثير من الآراء والأوضاع التي اعتقد زمننا أنها ليست مما يتطرق إليه الفساد.

نقول هذا لأننا نعلم أن كثيرا من الآراء والأوضاع، أضحت مما لا يلتفت إليه، نتيجة نظريات مستجدة في البيولوجيا والسيكولوجيا وغيرهما، ولعل هذا القانون هو ما دعا أبن خلدون إلى أن يقول عند خاتمة مقدمته عن العلم الذي استنبطه (طبيعة العمران ) أو (علم الاجتماع) بالتعبير الحديث:
(وقد استوفينا من مسائله ما حسبناه كفاية، ولعل من يأتي بعدنا ممن يؤيده الله بفكر صحيح وعلم مبين يغوص من مسائله على أكثر مما كتبنا).
إن كثير من آراء ابن خلدون في طريقهم التعليم نقف عليها في الفصل الثلاثين من المقدمة ( في وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته) وحجر الزاوية عنده هو التدريج ( شيئا فشيئا، وقليلا قليلا) حيث تلقى على المتعلم مسائل من كل باب من المادة المدروسة، هي مبادئ ذلك الباب بطريقة مجملة، مع التبسيط في الشرح ومراعاة ( قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه) .

ولهذه العبارة دلالتها، فابن خلدون يقول هذا في القرن الرابع عشر، حيث كان الأطفال في أروبا يلبسون ثياب الرجال لأنهم يعتبرون رجالا صغارا، وابن خلدون يقول هذا والقسيس ( أوجستين) في القرن الخامس عشر، يذهب إلى أن الطفل شرير بطبعه، لأنه ورث الخطيئة عن آدم، ولا يمكن ردعه إلا بالقوة والعنف، ومن ثم اعتمدت معاملة الأطفال على مبدأ هذا القسيس الذي كان يطبق بمنتهى الصرامة، إلى أن ظهر كتاب ( أميل) لروسو، وما ظهر إلا في أواخر القرن الثامن عشر ( 1763).

ومرحلة الإجمال التي ذكرها ابن خلدون، والتي يجب أن تراعى فيها قوة عقل الطفل واستعداده، تكون نتيجتها حصول ملكة في ذلك العلم وأن كانت ( جزئية وضعيفة) ولا يحلو لنا هنا أن نناقش لفظة ( ملكة)- وابن خلدون يذكرها في كثير من المواطن- ذلك لأن مذهب الملكات، ورأي علم النفس الحديث فيه، يحتاج إلى بحث مستقل، أرجو أن يظهر على صفحات هذه المجلة القيمة، وبعد المرحلة الأولى، تأتي مرحلة ثانية، ( فيرفعه في التلقين عن تلك المرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال..) ثم تأتي مرحلة الثالثة ( ثم يرجع به وقد شد، فلا يترك عويصا ولا مبهما ولا مغلقا إلا وضحه وفتح له مقفلة) وهو يسمي هذه المراحل ( تكرارات) ( وهذا وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات).
فما هي هذه التكرارات في عرفنا الحديث؟ لا أخالها إلا مرحلة الابتدائي، ثم الثانوي، ثم النهائي أو العالي، بغض النظر عن التصرف والزمان الملائمين لكل مرحلة، وبحسب المادة نفسها، نرى نظريته الآن تطبق بكل وضوح.

فالطفل بالقسم التحضيري يتعلم الجمع والطرح والضرب والقسمة بشيء من الاختصار، فإذا انتقل إلى الابتدائي الأول، عدنا إلى العمليات الأربع وتوسعنا فيها قليلا بزيادة الأعداد والأرقام، وفي الابتدائي الثاني نتوسع أكثر، ويمكننا أن نقدم القاعدة للتلاميذ، مثل ذلك نقول في غير الحساب من المواد.

ولا ينسى ابن خلدون، أن هناك من يتقدم في اقل من المراحل التي ذكرها، ولعله يشير بذلك إلى الفروق في الذكاء، وهي مما لا جدال فيه.

ثم نراه يندد بالمعلمين الذين يجهلون طرق التعليم حيث يقدمون للمتعلم مسائل مقفلة لا يقوى على إدراكها ( ويخلطون عليه بما يلقون إليه من غايات الفنون في مبادئها وقبل أن يستعد لفهمها).

وأذكر جيدا أنني كنت أحتار- وأنا صغير- في معنى ( فاعل) ( مفعول به) إلى غيرهما من الألغاز التي كنت أجهد فكري في إستكناهها، أما ( الماضي) فكان يعني عندي ( حاد) ما في ذلك من شك.

وابن خلدون لا يرسل الكلام على عواهنه، بل هو يدرك ما يقول، ويبهرنا بالأساس السيكولوجي لنظريته، وهو أساس لن يسع أحدا مهما علا كعبه في علم النفس أن ينقذه أو يجنح إلى نكرانه ( فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجيا، ويكون المتعلم عاجزا عن الفهم بالجملة، إلا في الأقل، وعلى سبيل التقريب والإجمال، وبالأمثال الحسية، ثم لايزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه، والانتقال من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه حتى تنم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل).

ومن الممتع أن نقف قليلا عند عبارة ( الأمثال الحسية) أنها تعني أن تعليم الأحداث يرتكز على المسائل المحسوسة، ولا مجال فيه للمعقولات ، وأن أول الإدراكات عندهم هو الإدراك الناشئ عن الحس، وحينما ترتقي أفكارهم وتقوي مدركاتهم الحسية يصلون إلى مرحلة الإدراك المعنوي أو التعقل.
وابن خلدون لا يكتفي بذكر الأساس السيكولوجي الذي تنبني عليه نظريته، بل يردفه بالأضرار النفسية، أو الصدمات السيكولوجية- أن صح التعبير- التي تنشأ عن عدم مراعاة استعدادات الطفل:
( وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي، وبعيد عن الاستعداد له، كل ذهنه عنها، وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه، فتكاسل عنه، وانحرف عن قبوله، وتمادى في هجرانه، وإنما آتى ذلك، من سوء التعليم).

هل نملك إلا أن نوافقه على هذا؟ إن التجربة تدلنا على أن الضعاف من التلاميذ- إذا لم توجه إليهم عناية خاصة- سوف يبقون متأخرين خاملين، وما ذلك إلا ليأسهم من اللحاق برفاقهم، وشعورهم باعتياص ما هم بصدده.

الاكتفاء بدراسة الكتاب الواحد:
وينبه ابن خلدون المعلمين إلى أنه لا ينبغي زيادة شيء على ما في الكتاب الذي يدرسونه للمتعلمين، بل يكتفون بما في ذلك الكتاب حتى يحذقوه ويعوه ( من أوله إلى آخره) وبذلك تحصل لهم ملكة يستعدون بها لقبول ما بقي من العلوم، وبالتالي يكون ذلك فيهم رغبة في المزيد من العلم، ورد الفعل الذي ينشأ عن عدم إتباع هذه الطريقة عنده أن المتعلم ( إذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم وإدراكه الكلال وانطمس فكره ويئس من التحصيل وهجر العلم والتعليم) وفكرة الاكتفاء بكتاب واحد لا غبار عليها، وهو يعني حتما كون هذا الكتاب في مستوى المتعلم بدليل ما يحظره من زيادة مسائل أعلى قبل أن يعي ما هو بصدده من أوله إلى آخره، ثم إنه يجعل هذا المبدأ عاما سواء كان المتعلم ابتدائيا أو في التعليم العالي، وإذا كان لنا ما نناقشه فيه فهو ما يتعلق بالملكة، ولن يتأتى ذلك الآن.

عدم تفريق المجالس في المادة الواحدة:
( وكذلك ينبغي ألا نطول على المتعلم في الفن الواحد بتفريق المجالس وتقطيع ما بينها، لأنه ذريعة إلى النسيان وانقطاع مسائل الفن بعضها عن بعض).

والواقع أن التربية الحديثة لا تستطيع موافقته على هذا الرأي، ذلك لأن عدم التفريق يوقع في ضرر أشد من النسيان، فمن طبع الطفل سرعة الملل، وميله إلى التجديد والتنويع، ومن ثم كان بحاجة إلى راحة، وبحاجة إلى التنويع، ولنلاحظ الطفل وهو يلعب، أنه قل أن يستمر في لعبة لمدة طويلة، فلا يكاد يلعب قليلا بلعبة، حتى يقذف بها وينهمك في الحفر، ثم ينفض يديه من التراب ليحمل عصا أو قصبة يركبها كما لو كان يركب حصانا وهكذا دواليك....

إذا فالطفل بحاجة إلى راحة وتنويع، والراحة والتنويع يتعارضان مع ما يدعو إليه ابن خلدون من عدم التطويل على المتعلم في تفريق المجالس، وفقدان الراحة والتنويع، يفقد الطفل حيويته وبهجته، وبالتالي يعاكس تركيبه الجسماني والنفساني، ومن ثم ستكون الاستفادة حتما معدومة، وسوف يبقى عقل الطفل هائما متحركا في عالمه الصغير.

نحن نعلم أن طول المدة يدعو إلى النسيان، ونعلم علاوة على ذلك أن من قوانين التذكر قرب العهد، لكن التربية الحديثة عرفت كيف تحتاط لهذا النسيان، بالمراجعة والربط، حتى تكون الدروس عبارة عن حلقات يتصل بعضها ببعض، فيسهل استحضارها بحكم قانون الترابط والتداعي (وما الترابط إلا إدخال شيء في العقل) كما يقول ( جيميز).

ولا نستطيع أن نجادله في فائدة التكرار لأنه من قوانين التذكر و ( الشيء إذا تكرر تقرر) كما يقال، لكن على شرط ألا ينتهي إلى الحد الذي يصير معه مملا.

عدم دراسة علمين معا:
لقد سبق أن رأينا القاضي ابن العربي يرى إلا يخلط على المتعلم علمان معا، وابن خلدون يتبنى هذا الرأي، ويتصدى للدفاع عنه، ويعده من المذاهب الجميلة والطرق الواجبة في التعليم، وحجته ( أن المتعلم قل أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر، فيستغلقان، ويعود منهما بالخيبة، وإذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصرا عليه، فربما كان ذلك أجدر بتحصيله).

والحقيقة أن المناهج الحديثة تشهد بفساد هذا الرأي، فنحن نرى أن الأطفال يدرسون عددا من المواد يفوق العشرة، وعندنا في المغرب لم يقتصر الأمر على ذلك، بل أن الطفل يدرس- حتى في الأقسام التحضيرية- مواد بالفرنسية وأخرى بالعربية، أضف إلى ذلك أن اللغتين تكاد أن تكونان غريبتين عنه، فهو في المنزل وفي الشارع لا يتكلم العربية الفصحى ولا الفرنسية صحيح أن الطفل لا يميل إلى جميع المواد التي يدرسها ولا يبرز فيها جميعها، ولكنه على أي حال يتقدم في أكثرها بكيفية مطردة.
إن هذا الرأي الذي يتبناه ابن خلدون، يكلفنا خسران جزء مهم من الوقت، كما يكلفنا فقدان حيوية الأطفال واستمتاعهم بلذة التنويع.

فتق اللسان بالمحاورة:
وسوف لا نستطيع إخفاء إعجابنا لنظرية سوف نتفق معه فيها على طول الخط، وهي ( فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية، فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرامها) أليس هذا قريبا مما تحرص عليه التربية الحديثة من جعل التلاميذ مشاركين لا منصتين، وما ترمي إليه أسئلة المراجعة والاختبار، ولنستمع إليه يضرب لنا المثل بطلبة المغرب، وكانوا يعتقدون أن الحفظ هو كل شيء ( فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في المجالس العلمية، سكوتا لا ينطقون ولا يفاوضون، وعنايتهم بالحفظ أمثر من الحاجة، فلا يحصلون على طائل من ملكة التصرف في العلم والتعليم، ثم بعد تحصيل من يرى منهم أنه قد حصل، تجد ملكته قاصرة في علمه أن فاوض أو ناظر أو علم، وما أتاهم القصور إلا من قبل التعليم وانقطاع سنده) فانظر كيف ينسب القصور لفقدان المعلمين المقتدرين، وهو ما عبر عنه ب (انقطاع سنده) ( وإلا فحفظهم أبلغ من سواهم لشدة عنايتهم به وظنهم أنه المقصود من الملكة العلمية، وليس كذلك).

الشدة على المتعلمين مضرة بهم:
من الطريف حقا أن نلاحظ أن ابن خلدون عقد فصلا خاصا يتعلق بالشدة في التعليم، والنتائج الضارة التي تنشأ عن ذلك، مما يدل على عنايته الخاصة بقضية العنف في التربية، ومما يدل أيضا على أن الطفل لم يعدم في التربية الإسلامية نصيرا وداعيا إلى الرأفة والرفق والملاينة، ليس هو ابن خلدون فحسب، بل هو كل من ضرب بسهم في مضمار التربية الإسلامية العالية، ويتمثل في عمر بن الخطاب، وفي الرشيد العباسي، وفي غير هذا وذاك.

لقد سجل ابن خلدون فساد الطريقة المبنية على العسف والقهر وإزهاق الحد في التعليم، وإنها ليست فاسدة فحسب، بل هي مضرة بالمتعلم، و لاسيما صغار الأطفال، ولا يكتفي بذكر ضرر واحد بل بمجموعة من الأضرار التي لا مجال لمناقشته فيها، لأنها ليست مما نختلف معه فيها، فما هي الأضرار التي يرى أنها تنشأ عن العسف والقهر؟.

إنها: التضييق على النفس في انبساطها، ولعله ما يعبر عنه بالعقدة النفسية في التعبير الحديث، فقدان النشاط، الركون إلى الكسل، التظاهر بغير ما في ضمير خوفا من العقاب، الاتصاف بالمكر والخديعة، صيرورة هذه الصفات كلها عادة له وخلقا.
فانظر كيف قرن العادة بالخلق، ويقول أحد علماء النفس:( من زرع فكرا حصد عملا، ومن زرع عملا حصد عادة، ومن زرع عادة حصد خلقا، ومن زرع خلقا حصد نصيبه من الدنيا) وبالرغم من هذا ننبه إلى ما في هذا الرأي الأخير من آلية، لأن الخلق الواسع نطاقا من العادة، وإن كان اتصاله بها وثيقا.
ويستمر ابن خلدون في ذكر الأضرار، فساد معاني الإنسانية فيه، الكسل عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، القصور عن الوصول إلى الغايات الإنسانية، الإرتكاس والبقاء في الحضيض.

فهل لنا أن نجادله في أن الطفل الذي يرمي بالقوة والضغط يفقد انبساط نفسه التي تصير كأضيق وأحرج ما تكون النفس، الأمر الذي يؤدي إلى تنطع جارف أو عقدة نفسية يستعصى حلها، إلا إذا بوشرت بواسطة التحليل؟.

ألا نلاحظ أن هذا الطفل يفقد سجيته والتعبير عن نفسه وعما في ضميره، فيضمر خلاف ما يبدي، ويبدي عكس ما يبطن، ورغباته وطابعه وميوله تفني دائما في رغبة وطابع وميول مربيه الجلاد؟ فهو الذي يريد اللعب والحركة والحرية إلى غير ذلك مما تستدعيه طبيعة طفولته، هو وكل ذلك، يريد السكون والقيود وما يرى أنه سيتحامى به عن السوط وقضبان السفرجل!! ألا تدعوه حالته تلك إلى الكسل عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل مادام يعلم أن الجلاد من ورائه لا يرحمه ولو فعل ما يعتقد أنه حسن؟ إلا تقصر نفسه عن المثل العليا التي هي غاية كل نفس والتي هي مدى الإنسانية وذروتها؟ومادام الأمر كذلك ألا يكون قد انتكس من حيث كان يجب أن يعلو ويطمح؟ ألا يدلنا هذا على مدى تعمق الرجل في دراسة الأشخاص والجماعات؟ وأقول الجماعات لأنه لا يقصر هذا على الطفل، بل حتى على الخدم والعبيد والأمم وكل من ملك عليه أمره، ولا نستغرب منه هذه النظرة الشمولية، فهو رجل تصدى لدراسة العمران البشري، وما يكتنف هذا العمران من ظروف وملابسات.

وبعد ذكر الأضرار الناشئة عن القسوة في التربية يخلص إلى النتيجة ( فينبغي للمعلم في متعلمه، والوالد في ولده ألا يستبد عليهم في التأديب).

هذه أهم آراء العلامة ابن خلدون التربوية، وما نعتقد أننا استوفيناها جميعها، وإذا كان المقام يقتضي منا عدم الاستمرار في تحليل ومناقشة ما بقي منها، فإننا لا نتأخر عن سرد ما بقي منها ذلك، عدم التوسع في العلوم الآلية بخلاف العلوم المقصودة بالذات، عدم مطالبة التلاميذ بمعرفة ما وقع في العلوم من مختلف الاصطلاحات وتعدد المذاهب، وعدم تكليفهم استقصاء المؤِلفات واستيعاب ما كتب في كل علم، أن يحذر المعلمون تصنيف المتون المختصرة وتكليف تلاميذهم تتبع ألفاظ الاختصار واستخراج المسائل من بينها، فإن ألفاظ المختصرات دائما عويصة ينقطع في فهمها قسط صالح من الوقت، الرحلة إلى الأقاليم النائية في طلب العلم، فإن ذلك يزيد في تجارب المتعلم ويكسبه معارف وعلوما قد لا تتيسر له لو أقام طيلة حياته في بلده، أن يعتمد في تهذيب الأطفال على القدوة الحسنة فإن الأطفال يأخذون بالتقليد والمحاكاة أكثر مما يأخذون بالنصح والإرشاد.

بعد هذا نكون قد أخذنا نظرة تكاد تكون كاملة عن التربية كما يراها ابن خلدون، وإذا كان لابد لنا من أن نخرج بعد هذه الجولة مع ابن خلدون بنتيجة، فهي بدون شك أن الفكر الإسلامي لم يعدم روادا ضربوا بسهامهم في هذه المشكلة الحيوية للبشر، وكان التوفيق حليف كثير من آرائهم فيها، وإن أبحاثهم في هذا الباب لم تكن خالية من أسس سيكولوجية يقرها العلم الحديث، كما رأينا نماذج من ذلك عند ابن خلدون، وأن هؤلاء الرواد لم يقل أحدهم بأن الطفل ورث المعصية عن آدم، ولذلك فطينته معجونة من الشر، فالغزالي رغم تردده في الفطرة البشرية لم يقل قط بأنها أميل إلى الشر منها إلى الخير، وإن رائدا كابن خلدون استطاع في القرن الرابع عشر، أن يبرز أهمية الاعتماد على الحس في تعليم الأحداث، وفساد الطريقة المرتكزة على الحفظ قبل أن يقول بذلك (لوك ) الفيلسوف والمربي الإنجليزي، وأخيرا فلنقدر رجال الفكر من أسلافنا.

1 - يعزى ذلك إلى أنه ألف مقدمته قبل أن يرحل إلى مصر، وكان ذلك سنة 779 هـ ، بينما كان وصوله إلى القاهرة سنة 784 هـ .
2 - علم النفس ج 1 ص 45. تأليف حامد عبد القادر ومحمد عطية الأيراشي.
3- راجع مقال الأستاذ محيي الدين المشرفي رئيس مصلحة التعليم الابتدائي ( أهمية الطريقة الحسية) في جريدة الشباب عدد 1.
4 - في فاتح السنة الدراسية 1956 قررت وزارة التربية الوطنية حذف اللغة الفرنسية من الأقسام التحضيرية.



* دعوة الحق ع/8

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى