خالد بابكر ابوعاقلة - العقيد في متاهته

في اثناء نومه سمع هتافات لم يسمع مثلها من قبل واحس ان هديرا يحاول اقتلاع ابواب القصر وسمع النداء الذي كان يطارده في حله وترحاله وفي نومه ويقظته وفي سعادته وكآبته منذ ان عين مستشارا للرئيس ودخل القصر على وجل وعلى استحياء " يا عبد الرحمن .. يا عبد الرحمن .. " وفي مرة صاح وهو يرتجف " من انت ؟ قل لي من انت .. انا اسمعك .. " ولكن الصوت ضاع كالعادة في الهدير .. بعد الفجر بقليل قادته اقدامه المتعبة الى حافة النهر , مشى عبر طريق الاذاعة الذي مازالت سحب دخان مدافع الانقلابات القديمة تتأرجح فوقه , عبر الى الذكريات المنسية التي لا يستطيع احد غير النهر المتعرق الشاحب ان يرويها , ها هنا مخرت سفن حملة الانقاذ طريقها غير عابئة بطلقات البنادق المهترئة التي غنمت في حملة شيكان ثم تراجعت الى مكان ما في الشمال حيث القت مراسيها .
غردون قتل قبل قليل .. وحملت اصداء القرن التاسع عشر الانباء وارتجت الدنيا .
ما أشبه الليلة بالبارحة . مازالت النجوم في مكانها تتأرجح امامها الستارة .. والتدخل الدولي في السودان هو هو – لم ينته – رغم مرور ما لا يقل عن مئة سنة . رغم الوعود والاحلام الكبيرة , رغم الحكم المدني والحكم العسكري . رغم عبود , ونميري والبشير ورغم حكم والده الصادق المهدي في ايام مضطربة ومحن كبيرة وأزمات طاحنة . خطا العقيد الدرجات متمهلا ورائحة التبغ تحوم حوله كأنها طائرات انتنوف ووقف حيث قتل غردون وحاول ان يستبطن ما دار في خياله في اللحظات الاخيرة .. هل هو رجل شجاع ؟ ان الرجل الذي ينتظر الموت بكامل بزته العسكرية ونياشينه وأوسمته كأنه في احتفال تتويج لابد ان يكون اكثر من شجاع . لقد حكمنا طغاة ولكنهم رجال شجعان كانوا يعلمون ان الموت ومغادرة الحياة فقراء حتى من اجسادهم لهو جزء من مهمتهم الكبيرة .. تنحنح العقيد ومسح جبهته العريضة بكف يده واحس بحركةخفيفة في معدته .. وخطا الدرجات درجة درجة بتمهل غريب كأنه صاعد الى مشنقة .. وفي مكان ما من القصر الجمهوري جلس حيث قيل له ان اللورد كتشنر جلس يوما ما وأرسل قواته لمطاردة الخليفة عبدالله الذي اخلى امدرمان على عجل بعد انكسار عساكره في جبال كرري وبعدها دخلت قوات كتشنر ومعها الفرق السودانية المدججة بالاسلحة الحديثة واستباحوا المدينة وانتقموا من السكان .. كان العقيد على غير المتوقع يبتسم تلك الابتسامة العريضة الراضية ويشعر ان العرق لا يتدفق على وجهه وان معدته على ما يرام وفجأة وعلى غير انتظار احس بالخيول تجري امامه والعرق ينضح منها ولهاثها يلتصق بأذنية ورأى المهدي الكبير يمتطي حصانا ابيض ويرفع عصاه امام النهر والهدير حوله يملأ العالم المعمور بل سمع شاعره الأمير محمود ود التويم يقول مترنما بين غبار المغيرات صبحا
وقت الحرب اب زحام
ننصر عهد الامام
ندخل عوق اللئام
نقطع ورا وقدام
والله يا أخلة
اليقتل في الله
من غير ريا وعله
مبسوطا عند الله
اغمض العقيد عينيه كأنه يريد ان ينام .. من داخل هذا القصر المأساوي صدرت كل القرارات التي اودت بطائفته واسرته , في معارك ودنباوي , وفي معارك الجزيرة ابا , وقتل اتباعهم في مجازر حركة 76 , وقتل بعض افراد اسرته على حدود الحبشة , وسجن بعضهم , وعذب البعض الآخر , ومن هذا القصر صدر قرار اقالته فذهب يقاتل مع والده في حروب عبثية تجاوزها التطور العالمي وتخلت عنها دول الجوار .. كان يدخل يديه في جيبه , ويحاول ان يتلافى الهدير الذي كان يطوقه ويمنع عنه التنفس بحرية حينما سمع ان هيجليج سقطت قبل قليل في ايدي قوات آتية من ا لجنوب وان الهجوم كان خاطفا وقويا وان الجثث منتشرة في العراء وسحب الدخان تتكثف حول الاشجار وآلاف الصقور الجارحة تحوم فوق المكان لاقتناص الجرحى والفارين .. واحس العقيد على غير استعداد ان الاحداث القديمة والجديدة تتداعى امام ناظريه كأنها شاشة سينما .. سقوط حلايب .. سقوط مثلث لامي .. سقوط الفشقة .. سقوط بورتسودان .. سقوط النيل الازرق .. سقوط جبال النوبة ثم انزاحت الستارة الكثيفة قليلا من امام صفحات التاريخ فرأى العقيد مندهشا سقوط الابيض بعد معارك دامية .. وتسليم سلاطين باشا دارفور .. وحصار الخرطوم .. وسمع خطوات غردون وهو يمشي نحو الدرجات ثم انزاحت الستارة الى النهاية فرأى على دينار يفر من معركة كرري بعد ان رأى مدافع المكسيم تحصد المقاتلين هناك حصدا لا مثيل له في التاريخ من جيش يحارب مكشوفا , اعتدل العقيد في وقفته كأنه في عرض عسكري ثم شعر بالم حاد في معدته وظن ان سببه هو شراب الكثير من القهوة في مكتبه وشعر بان صدره يختنق وان تنفسه يتحول الى حشرجة ولاول مرة منذ الصباح يعرف ان ما يقلقه هو تفكيره في الطريقة المثلى التي يجب ان يموت بها ودون ان يعرف كيف وصل الى فراشه بدأ يحدق في النافذة .. الغروب يرخي سدوله .. والعصافير تعود الى وكناتها .. واصوات السيارات في شوارع الملازمين هادئة .. وبعد قليل رأى النجوم تبرق في السماء .. وسمع كثيرا من الامواج الصغيرة تتقلب في ذاكرته كأنها لعب .. الانقلابات تحدث في السودان فجرا .. اما انقلاب 71 فقد حدث في رابعة النهار .. انقلاب المقدم حسن حسين حدث ليلا .. وتذكر انه قرأ في مكان ما ان المقدم حسن حسين كان يقف في شارع الجامعة محتارا قبل ان تقوده اقدامه الى القيادة العامة حيث سيرى الجحيم .. آلام معدته تزداد .. اراد ان يقوم من فراشه لينادي أي شخص قريب من الغرفة ولكنه سمع هاتفا يناديه .. كان هذه المرة واضحا ونقيا .. كان يأتيه من اعماق التاريخ .. هذا صوت شاعر المهدي الامير محمود ود التويم يقول له : يا عبد الرحمن . يا عبد الرحمن . فرد عليه حينما ايقن من انه هو وليس وهما او خيالا او طارئا مزاجيا سولته له الاوجاع في معدته وقال له .
" نعم يالحبيب . "
" الى متى ستظل في القصر ؟ وماذا تفعل هناك ؟ هل تؤدي عملا ينفع الناس ام انك تتعيش ام انك تضحك على نفسك ام انك تضحك الناس عليك .. يا عبد الرحمن اذا اردت ان تلحق باجدادك وان تصير عظيما مثلهم .. وملء السمع والبصر فلا تذرف دمعة واحدة على عواطف الأبوة وعلى خطط الاحزاب ولا امنياتها .. ان المستقبل بيد الله وحده .. يا عبد الرحمن ولد النميري فقيرا ولذلك صار مستبدا .. وولد البشير في قرية منسية ولذلك صار ثريا .. اما انت فقد ولدت امام فوهة مدفع .. مدفع .. وهنا انتفض العقيد كأن احد الناس قد انتزع جلده بعنف وشعر بالعرق يتدفق في جسده كأنه مطر واحس بحركة مريبة خارج الغرفة .. أ هذه نبوءة ام اضغاث احلام .. بعد قليل سمع طرقا في الباب فقال : ادخل .. احد الضباط يحمل اوراقا كثيرة .. اقترب منه وقال له : نريد توقيعك .. فقال له : لماذا ؟ رد عليه قائلا : الحزب يريد ضمانات وانك موافق على المهمة .. وقع على الاوراق بسرعة .. وابتلع شيئا من الدواء ونام .
في الصباح الباكر وهو لا يعلم ما يدور في الخارج حاول الاتصال بوالده ولكنه تراجع في ا للحظة الاخيرة .. وضع ملابسه العسكرية في حقيبة جلدية ولبس ملابس مدنية وانزلق بهدوء من غرفته وفتح باب السيارة وانطلق في طريقه .. اتجه اولا الى القيادة العامة لاكمال بعض الاوراق .. في الطريق من القيادة العامة كان يسمع الهدير ولكن ليس كهدير المجنزرات ويسمع زخات الرشاشات ولكنها ليست تلك الزخات التي كان يسمعها في معاركه القديمة وفي التدريب , ان الهدير كان كهدير النمل ولهذا صار القلق يتسلل اليه شيئا فشيئا وجعلت آلام المعدة تعاودة بضراوة اشد ولا حظ ان شارع الموردة وشارع النيل يخلوان تماما من السيارات والمارة فاحس بان هناك خدعة ما .. دخل القصر وذهب توا الى مكتبه وهو يعتصر بطنه بشدة ولا يعلم كم من الزمن مر وهو يعاني في محاولاته اليائسة لايقاف آلام معدته ولم يستيقظ الا حينما سمع هتافا غائرا في التاريخ يصيح – يسقط . يسقط – ثم شعر بالهدير يتحرك كأمواج البحر وشعر بالستائر المعلقة تلفح وجهه واحس بان النهاية تقترب وفجأة فتح احدهم باب مكتبه دون سابق انذار وقال له : الولايات تلتهب ثم قال له قبل ان يغلق الباب خلفه بشدة : المظاهرات في كل مكان .. وابتسم العقيد لاول مرة منذ الصباح ابتسامته العريضة الراضية واحس بألام جسده تتلاشى في ساعة الحقيقة فقام بسرعة وفتح نوافذ القصر الغربية فرأى جموعا هادرة من الناس لم ير مثلها من قبل ولا في ا لخيال وراى السحب متراكمة فوق الجموع ترسل رذاذا خفيفا فوقهم ورأى الاشجار تتحرك معهم وايقن انهم يتجهون الى القصر وبدلا من ان يحاول ايجاد مخرج له كما فعل كل من كان في القصر فتح الحقيبة الجلدية وحينما كان يلبس ملابسه ويضع نياشينه فوق كتفيه ويضع القبعة فوق رأسه شعر بالعواصف تتجمع خلف الابواب وسمع الهدير واضحا – الشعب يريد اسقاط النظام _ نظر في المرآة للمرة الاخيرة فراى وجه الجنرال غردون يطل من وراء جبال الاحقاب عابسا بسيطا واضحا لم تغيره السنوات ولم يغيره غبار الموت .. وخطا العقيد بثبات خطواته الاخيرة نحو المدرحات حيث قتل تشارلس غردون .. وحينما توسط المدرجات ووقف بالضبط تلك الوقفة الشجاعة كما جسدت في الصور الزيتية لغردون اقتلعت الجموع الهادرة الغاضبة التي كبتت ذلها لاكثر من عشرين عاما الابواب واندلعت العواصف بالداخل وساد الهرج والمرج والحرائق ولكن العقيد كان واقفا وقفته التاريخية تلك لا ترمش له عين ولا تهتز له شعرة ..




* الراكوبة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى