رسائل الأدباء ثلاث رسائل من الشاعر نزار قباني إلى سهيل إدريس

الرسالة الأولى

أنقرة في 18/6/1949‏

أخي الحبيب سهيل‏

ألْثُم شاربك المنفتل كأنه دورة الهلال.. وأُودعُك ما تودعه النحلة على شفة السوسنة من خير وعصير. وبعد, فلا أزال أرتقب جواب رسالتي الأخيرتين إليك. والأولى منهما أرسلتها بالبريد المسجل حاملة إليك سامبا التي لم أعرف حتى الآن مصيرها. أرجو أن لا يكون حر بيروت هو الذي أقعدك.. عني.. وعنها.. وأن يطلع عليك الشاطئ المخضل.. بنسمة مرطوبة.. وبوداد خانم أخرى.. تنسيك ما تعانيه من لهب الجو.. واحتراق الأعصاب.‏

ما هي أنباء نسائك كلهن ..? وكيف توزيعه, ودرجة ذيوعه? أرجو أن تكتب لي في هذا الموضوع, لأنني أتمنى أن أراك تتكئ على أضلاع القمر..‏

أبعثُ إليك - كما أَمَرْتَ - بأربع قصائد.. أرجو أن تجد لديك مقاماً وحظوة, وأن تُعنى لي بإخراجها وانتقاء رسومها بما أعرفه ويعرفه العالم عنك من ذوق ونعومة.‏

أرجو أن توزع هذه القصائد بين الصياد وبيروت المساء, وأن تدفع إلى الأديب بقصيدة الظفر الصبيغ .. راجياً الأستاذ ألبير أن يُفرد لي صفحة خاصة لها.‏

ما أزال أنتظر عدد بيروت المساء الذي نشرت فيه قصيدة الزعيم .. وأرجو أن توافيني بعددين أو ثلاثة منه. تحياتي إلى الأستاذ سعيد, وقد رأيت صورته مع الزعيم فاطمأننت وحمدت الله على هذه النهاية.. والصلحة التي ننتظر حلوانها.‏

ألف تحية مخضلة للحبيب الشهم الأستاذ عبد الله المشنوق.‏

وانعم لأخيك‏

نزار قباني‏

***

الرسالة الثانية - أنقرة في 23/6/1949‏

أخي الحبيب سهيل‏

تزعم أني قسوت, وأنني شتمت, ولكن سها عنك أن تضيف إليهما.. أني أحبك, والحب وحده هو الذي كان دافعي إلى القسوة.. أما الشتيمة فهي من تلحينك وإخراجك.. لأنني لم أشتم.. ولكنني ثرت.. وانفعلت..‏

تألمت لشيء واحد وهو أن يشوه أحد المجانين.. الهالة المضيئة التي كانت تغلف كتابك في مستهل صدوره.. وأن تعمد - أنت بالذات - إلى نشر أقوال المجنون المومأ إليه.. في مجلة الصياد التي تمتلك - أنت بالذات - زمامها..‏

الخطيئة لا شك خطيئتك يا سهيل.. لأن المجانين لا يحاكمون على أفعالهم لأنهم مسلوبو الإرادة.. والعتب على الذي يطلب إلى حليم أمه أن ينقد كتابه.. ثم ينشر ثرثرته.. ولما كنت أؤمن بأن الأثر الفني يجب أن يزف إلى الناس كما تزف العروس.. فقد أخطأت أنت بدعوة هذا الرجل إلى حفلة زفاف كتابك لأنه دخل دار الفرح بثياب سكير..‏

نهايته.. لا تؤاخذ أخاك نزاراً إذا ثارت نخوته من أجل عينيك.‏

أشكرك لكل المجهود الذي بذلته من أجل سامبا. وأنا أؤمن بما تؤمن به دار العلم للملايين, من أن للقراءة مواسم وفصولاً.. لأن الصيف لذة الجسد والشتاء لذة العقل.. والتريث في الإصدار معقول..‏

فيما يتعلق بنصيبي من سامبا فإن المئة وخمسين ليرة.. لا تكفي لنفقات سكرة محترمة مع سعادتك في حانة من حانات بيروت.. وأنا أفضل أن أتقاضى بهذا المبلغ نسخاً. وأعتقد أن حصتي ستكون 300 نسخة, وأما بصدد العدد فإنني اقترح 1800 تصبح بعد أن أستوفي حصتي 1500 وهو العدد الذي اقترحته أنت.‏

أنا الآن واقع في حيرة.. فإنّ عندي مجموعة شعر بحجم.. طفولة نهد.. فهل أطبعها هي أولاً.. أم أطبع سامبا وأجعل بينهما فاصلاً زمنياً? وهل تفضل دار العلم طبع المجموعة الشعرية.. أم طبع سامبا?‏

أريد رأيك النصوح في هذه القضية.. لأن لدينا متسعاً من الوقت للتفكير..‏

بعثتُ إليك ببعض القصائد للنشر أرجو أن تكون قد وصلتك.‏

سررت مع زهراء كثيراً لنجاح العزيزة وجيهة في فحص الليسانس, فقدِّم لها باسمي وباسم زهراء التهنئة العميقة, راجين لها في لندن المجد والخير العميم.‏

أما سفرك إلى باريس فإياك والتهاون فيه.. أو أشتم!.‏

تحياتي للأستاذين سعيد وعبد الله والأخ الحبيب أنطون الذي لم يجبني على رسالتي, فهل سافر إلى مهجره وملعب مغامراته أم بعد?‏

ختاماً, لك من أخيك كل الحب واللهفة.‏

****

الرسالة الثالثة

أنقرة في 22/8/1949

عزيزي وأخي سهيل‏

لا تؤاخذني على احتجابي عنك كل هذه المدة الظالمة, فلقد مرت بالمفوضية وبالبلاد أحداث أنت عالم بها, وأنا الآن قائم بأعمال المفوضية في أنقرة, مدينة السلك السياسي وملتقي أطماع أكبر قوى العالم.‏

وإذا قلت لك إنني أقوم بالأعمال فمعنى ذلك أنني أكتب المذكرات, وأتمم المقابلات, وأستقصي الأخبار, وأتحدث إلى الصحافة, وأضرب على الآلة.. التي لا تطربني.. وأنا أعمل الآن سبع عشرة ساعة في اليوم ولا أنتهي.. ومع ذلك الجهد الجهيد فأنا أجد لذة في خدمة بلادي.‏

قرأت في الصياد أنك سترحل إلى فرنسا قريباً.. فانتفض قلبي من مكانه.. وسعيت في موكبك المرسوم بالبريق.. وتمنيت لو كنت خيطاً في بردتك لأشرب من عبير تلك التربة المسقسقة بالوهج والملذات.‏

لا أعلم متى ستغادر بيروت, ولا أعلم متي ستطأ نعلاك الأرض الطيبة. ولكن كل ما أرجوه هو أن تتذكرني.. في كل مشرب.. وعلى كل مائدة.. وأمام الزنانير التي استحالت خصراً.. من ضراوة الوجد.. وولولة الضمة..‏

لم أقرأ قصيدتي الظفر الصبيغ في الأديب.. فهل هناك ما حال دون نشرها? أرجو أن تخبرني بالأمر..‏

أخي سهيل‏

كلفني الوزير المفوض الذي ترك أنقرة, وهو الدكتور حسان بك الشريف, أن أرجو صديقه الأستاذ عبدالله المشنوق أن ينشر الكلمة المرفقة بهذه الرسالة عن وداعه في أنقرة في بيروت المساء. ولا بأس أن تنشر أنت هذه الكلمة في الصياد. مع ملاحظة أنني لا أريد أن يؤتى فيها على ذكري بل يكتفى بنشر الكلمة باعتبارها من مراسلكم في أنقرة, لأنني لا أريد أن أُمس مسلكياً.. كيف الشقيقة الغالية وجيهة, وهل ما زالت مصممة على الذهاب الي لندن? بلغها تحيتي وتحية زهراء التي تبعث إليك بتحيتها الخالصة.‏

سلامي إلى الأساتذة الأصدقاء عبدالله بك وسعيد بك, والى الأخ أنطون الحبيب إذا كنت تراه.‏

واسلم لأخيك المحب‏

عزيزي وأخي‏

وصلتني قبل أن أضع رسالتي في البريد رسالتك.. وأنا لا أريد أن تشمت بي لمصرع الزعيم. لقد مدحته لأنني قدرت أنه سيخدم بلادي ويزرع أرضها نعيماً وعبيراً.. ولكنه أخلف ظني وظن جميع الناس قطعاً.. وزرع الشوك مكان الريحان.. فإذا انجرفت أنا في تياره.. فلقد انجرف في هذا التيار كثيرون.. وأنا أحمد الظروف التي كشفت جوهر هذا الرجل بسرعة..‏

أخي: أريد منك أن تشير في الصياد بكلمة تكتبها أنت بقلمك الجميل الى قيامي بأعمال مفوضية أنقرة, ونجاحي في عملي في هذا الظرف الذي مرت به سورية, والمساعي الطيبة التي بذلتها لحفظ العلاقات الودية بين سورية وتركية. وإذا أمكن وضع صورة لي من التي أهديتك إياها فأنا أكون من عارفي فضلك السابق واللاحق.‏

أشكرك على حسن ظنك بشعري وبي.. وأعدك بأن لا أتحدث إلا عن النهد المكوَّر كإبريق الفضة.‏

قبلاتي من خد الأستاذ عبد الله المشنوق ومن عيونه.‏

واسلم للمحب المشتاق‏

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى