محمد السيد حمد - جدار الغريب.. قصة قصيرة

عند شروق شمس الأحد يعلو صياح الديك بوتيرة غير معهودة يستشف منها الجار الثمل أن اليوم هو الأحد، بالرغم من عدم اهتمامه بالتواريخ والأيام فان هذا الصياح الفريد يقدح في ذهنه شعلة الذكريات التى يود نسيانها. دائما ما يسأل نفسه عن العلاقة بين صياح الديك ويوم الأحد واشتعال الذكريات ولا يجد الجواب المناسب. يأتيه من خلف الجدار صوت جارته ليلى وهي توقظ طفلتها وزوجها للاستعداد للذهاب للكنيسة، هل هم متدينين؟ يسأل نفسه بلا اكتراث، ربما ذهابهم للكنيسة مجرد طقس اجتماعي للتسامر واستدعاء النوستاليجا

لن ينسى ذلك اليوم عندما جاءت هذه الاسرة مع موظف مكتب مساعدة اللاجئين ليريهم البيت الذي استأجرته لهم المنظمة التطوعية، كان يجلس علي كرسي القماش القديم الذي ورثه ضمن تركة أبيه الراحل، جلسته الأثيرة كانت تبدأ بلا مواعيد مسبقة فهو يميل أكثر الى تلقائية المزاج، قد تكون الجلسة صباحا أو عصرا أو ليلا و في بعض الأحيان تكون في رابعة النهار ولكن المكان ثابت، أمام منزله تحت شجرة النيم العجوز المتهالكة، دوما يلوم نفسه على إهماله لها، ولكن السماء تجود لها بما يقيم أودها. في ذلك اليوم جلسته كانت عند الضحى حينما أتت تلك الاسرة برفقة الموظف وهم يمتطون سيارة تحمل شعار المنظمة التطوعية، حياه الموظف بحرارة وحاول تقديم الاسرة له كجزء من ديناميكية التعارف ولكنه للغرابة لم يرد التحية بل قام من جلسته بهدوء حاملا الكرسي القماشي العتيق عائدا أدراجه لداخل المنزل .كان الموقف محرجا للموظف و مقلقا للأسرة، ولكن لحسن الحظ أو سؤه كان آدم صاحب الدكان الذي يقبع في ناصية الشارع متابعا للمشهد منذ بدايته وهرع يعدو اليهم وهو يعتذر عن سؤ تصرف الجار الثمل و طفق يحكي و يثرثر عن المشاكل التي يسببها لهم هذا الجار التعس لاعناً إياه بأقذع الشتائم .أبدت ليلى استنكارها لتصرف الجار علنا و لكن قلبها تعاطف معه بشدة .

ذلك اليوم لم تنم ليلى بسهولة، ظل الجار رابضاً بمخيلتها، أعاد اليها ذكرى الحرب والعشق، تذكرت عشيقها رامي الذي كان يلقب فى ضيعتهم برامي الأبضاي، رامي الابن البكر للحاج صالح امام مسجد الضيعة، ما زالت تتذكر تخليه عن أموال أبيه واختياره لها عندما خُيِّرَ بين الاثنين .كان حاجز الديانة سدا منيعا بينهما حال دون إتمام الزواج ولكن لم يحُلْ دون حدوث العشق .في تلك الأيام كانت الأوضاع السياسية في العاصمة دمشق ليست عَلى ما يشتهى الحكام، ثمة شرارات للثورة تومض ببطء مستفز، الربيع العربي ألقى بعصاه في الشام أيضا، توالت الأيام و اشتعلت الثورة في كل الأقاليم، حتى هناك في ضيعتهم القصية بعمق الريف وصلت شرارة الثورة و تلقفها رامي المتمرد بطبعه .أصبح رامي بين عشية و ضحاها صوت الثورة في الضيعة، حاول تجنيد الشباب للانضمام لصف الثوار، لم يوفق في ذلك بالقدر الكافي حيث أن سمعته كإبن عاق في الريف المحافظ أطاحت بأسهمه في بورصة المجتمع المحلي. لم يلق بالا لتوسلات أمه ولا غضبات ابيه وانضم لفصيل الثوار بالمدينة التي تبعد من ضيعتهم بضعة مئات من الاميال. لقاء الوداع كان مهرجانا للدموع والقبلات، طرح عليها فكرة الهروب معه الي المدينة و لكنها لم تملك الشجاعة الكافية لتفعلها، افترقا على أمل اللقاء و وعد العشق الابدي .

مر ربيعان علي الفراق حدث خلالهما الكثير، زواجها من زوجها الحالي بضغوط من العائلة و هناك في المدينة صعود نجم رامي في الفصيل الثوري و تقلده مهام جسيمة على أرض المعركة .خلال الربيع الثالث من الافتراق، ذات نهار غائم عاد رامي الي الضيعة جريحا، أُصيبَ في احدى المعارك و تم بتر ساقه اليمنى .سَمِعَتْ خبر عودته من جارتها اللئيمة و هي تغمز لها بان عشيقها عاد بلا ساق، و أنه يقيم مع أمه التي أصبحت وحيدة بعد وفاة الحاج صالح . لم تمر سوى أيام معدودات حتى باتت أخبار سُكْره الدائم و افتعاله للمشاكل مع الجميع هي موائد السمر في ليالي الضيعة. كم أنَّبها ضميرها حيال محاولتها لقاءه عندما تسللت ذات ليلة مقمرة الى منزل رامي و هي تعلم خلو المنزل من أمه التي سافرت الي القرية المجاورة لحضور عزاء أحد أقاربها، فَكرتْ ثم قَدرتْ انها فرصة لن تتكرر خصوصاً أن زوجها أيضا خارج الضيعة لإنجاز بعض المهام المتعلقة بعمله.

استعادت رونق روحها و جمال هيئتها ليحملهانسيم الشوق في جنح اللّيل اليه .دقت الباب بتؤدة و حينما سأل من بالباب جاوبته بصوت مبحوح خفيض هذه أنا .بحة الصوت و عبق الرائحة أعادا عجلة زمنه للوراء بضع دورات، هل هي ليلى ؟ لا يمكن !! سارع بفتح الباب و عيناه مغرورقتان بالدموع و رمى بنفسه في أحضانها وهو يجهش بالبكاء كطفل رضيع يود السقيا .جال بخاطر ليلى للحظة أن تقوم بالفرار اذ انها لم تتوقع ردة فعل كهذه من رامي الأبضاي !! ربتت على كتفه بحنان و كلاهما لم ينبس ببنت شفة لوهلة من الزمن، عندما هدأت الخواطر و ابتل الشوق قليلا، افتكت حبائل العناق ثم تلاقت الاعين، لم يكن بمقدور رامي ان يطيل النظر اليها فأشاح بوجهه عنها و قال لها أصبحت بساق واحدة !! كأنه ينعي أحلامها بالوصال، كان صوته مملؤا بالشجن والأسى وهو يقول لها تلك العبارة، لم يعطها فرصة للرد و إنما أدار ظهره لها و هو يسير بصعوبة واضحة بعكازيه المعدنيين. لحقت به ليلى و قطرات الندى تسقط من مقليتها بغزارة، حاولت ان تعانقه وان تشرح له ماذا حدث لها من بعده، دفعها بطرف عكازه المعدني صائحا اخرجي من بيتي الآن، لم يكن بوسعها فعل شئ عدا المغادرة خوفا من تلصص الآذان و تتبع العيون .منذ ذلك اليوم لم تره و انقطعت أخباره عنها بعد مغادرتها البلاد برفقة زوجها، هاهو يعود الآن من جديد في ثوب آخر و عباءة مغايرة.

على الجانب الآخر من الجدار، لم تهتز خلجات الجار الثمل بذلك اللقاء الموؤد في مهده، انه سابح في تيار بحره الخاص لا يقترب ابداً من المياه الإقليمية للآخرين منذ زمن لا يعلم تعداده على وجه الدقة .روتينه اليومي يبدأ وقت استفاقته اللامحدد، صباحا أو ظهرا أو حتى مساءً، يعتمد ذلك بالأغلب على جودة الخمر و مزاجه المتقلب، لا يهم وقت استيقاظه على أية حال فهو عاطل عن العمل و يعتاش من ميراث أبيه، بضعة محال في السوق الكبير و منزل في الضواحي البعيدة للمدينة، تأتيه أموال الايجار شهريا على يد الفاضلابي المحامي صديق أبيه . الشئ الذى يعفيه من المداولات و المماطلات مع المستأجرين .الميزة المميزة في الفاضلابي أنه ليبرالي عتيد، لا يحشر أنفه في شئون الآخرين، يدعه يرفل في نعيمه الجهنمي بلا عظات عبثية، لذلك لم يفكر أبدا في الاستغناء عن خدماته بل يشكره دوما بصدق على نبله الشبيه بنبل فرسان القرون الوسطى .فهو الذي دافع عنه امام المحكمة الحاكمة بأمر الديكتاتور إبان اتهامه بنشر المعتقدات الهدامة و تقويض نظام الحكم، كلتا التهمتان كانتا كفيلتان بحبسه وراء الأسوار ما تبقى من عمره الآيل للسقوط، لكن الفاضلابي استغل علاقاته بذوي النفوذ مع ضخ الكثير من المال في أوردة الأجهزة التنفيذية استطاع إخراجه من المصيدة بشرط الامتناع عن ممارسة العمل السياسي و فصله عن العمل .كانت صفقة جيدة بالرغم من الخسائر المادية الفادحة التى تكبدها، منذ ذلك الوقت وهو يكن للفاضل ابي احترام عميق مشوب بالامتنان.

انعتاقه من المعتقل لم يكن كامل الأركان، إنعتاق الجسد لا يعني بالضرورة إنعتاق الروح أيضا، روحه لم تزل هائمة هناك في دهاليز المعتقل، اجترار التعذيب داخليا يبدو له أشد وطأة من وقع التعذيب الفعلي، البقاء فى خانة الضحية مرة تلو مرة يؤدي الى انهيار الدفاعات النفسية مخلفة ورائها حطام ما بعد الصدام هَربَ الى راحة الرَّاح علَّها ترجع له روحه الهائمة و لو للحظات و لكن هيهات، صار دائراً في حلقة مفرغة من الذهول الجامد، ابتنى جدارا حصينا حول ذاته كوسيلة دفاع أخيرة من عَسَفْ الآخر المُخاتِل،الآخر الجحيم الذى ابتلع روحه في غياهب المجهول، انتصار العدم في معركة الخلاص صار شعار المرحلة حتى إشعار آخر .

طليقتي وفاء لم تأخذ من اسمها سوى الفاء، فاء الفرار من زواج ذي حاضر رهن الإعتقال و مستقبل رهن بشاعة المجهول، بشاعة هي من رسمت أولى خطوطها العريضة حين زارتني في محبسي بكامل زينتها الباريسية و غنجها الأنثوي، أتتني باسمة الثغر مكشرة عن أنياب خذلانها لي بكلمة واحدة : طلقني،كانت زيارتها الأولي و الوحيدة لي خلال فترة اعتقالي، كنت أسأل الفاضلابي دوما عنها، لماذا لم تزرني ؟ هل أصابها مكروه ؟ و هو يرواغني باجاباته الدبلوماسية، راودني الشك في سلامة موقفها لوهلة لم تدم كثيرا، فقد أقام قلبي للشك مقصلة الوفاء و رماه بنيران الحب، و رمتني هي بدائِها و انسلتْ، حين نطقتْ الطاء، طاء الطلاق طارت سُنونوات غرامها من قلبي و انطلقت ثلاث طاءات من لساني محملة بجثتها التي نفقتْ في داخلي، أكاد أجزم أن رائحة نتانة جثتها ما زالت عالقة بهواء الزنزانة .

لا أدري لماذا أصبحتُ متعلقاً بجارتي ليلى، ربما بحة صوتها المُضمخة بعطر أنوثتها الفواح، ربما الفراشات التى تتراقص بين مقلتيها، ربما شلالات الذهب التي تنبع من هامتها وتصبُ في ايوان كفلها، لقد هدمتْ جداري الحصين بترسانتها الأنثوية، فتحتْ لنفسها في الجدار كُوَّة بالكاد تكفي لدخولها و أغلقتها خلفها بمنتهى الحنكة، أصبح الجدار يحوي ذاتها و ذاتي فقط، أتنفس من مسامها و تغرق فى بْحريَّ اللُجِي،أذوبُ في كراميل لهفتها و تنكفئ حصونها تحت سنابك خيولي السابحات . ليتك يا ليلى لم تْلجِي الى داخل الكوة، ليتك اسْتَمِلتِ كيَّد نُون النسوة وبقيتي خارج الكوة تغنين أنشودة الغريب، فينسلخ إليك الغريب من أهاب العدم، لكنكِ لم تفعلي شئ من ذلك، بل اقتحمت الجدار و دنستي خُلوة الغريب.

أتتني كعادتها بعد منتصف الليل، مُزدانة بقْطرِ المطر، مبتلة الأردان، شهية كتفاحة محرمة،لا أدري كيف تتسلل كقطة ماكرة في جنح الليل، لها طرائقها التي لا تهمني كثيرا طالما أنها هنا معي خلف الجدار، تلك الليلة كانت ليلة القصاص يا ليلى، إنما اقتحام الجدار لجرم شنيع فى عُرف الغريب و حانت الآن ساعة القصاص.كؤوس الخمر تروي ظمأنا اللاهث و لفافة الدخان تحلق بِنَا بعيدا، وانصهارنا في بوتقة المتعة يُرجِعنا لحالة بدء التشظي، حذاري من التشظي يا ليلى، وفي ذروة الانصهار يبدأ التشظي، تترائ لي الفراشات التي تتراقص بين مقلتيك كخفافيش الظلام، أقبضها أعتصرها أنتزع أرواحها، تئن الخفافيش في رمق اللحظات الاخيرة، ثم ذَبُلتْ نضارة زهرتي اللوتس على غمازيتكِ، وموتكِ هو موتي يا ليلى، سألقى بالورود على جثمانك كما ينبغي لجار طيب، سأغني أغنيات الحنين لأنوثتك، وسألتحقُ بكِ قريباً فلا تبتئسي بل انْظريني بفِتنة الشمس الآفلة عند ساعة الغروب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى