كيت شوبان - نزهة في الصباح .. قصة قصيرة - ترجمة : د. زياد الحكيم


كان ارشيبالد قد صحا من نومه قبل عدة ساعات. تناول افطاره وهو الان يقوم بنزهة صباحية في شارع القرية الذي لم يكن اكثر من طريق اقتطع من جانب الجبل.

كان في نحو الاربعين من عمره، ولكنه لم يكن يستاء ممن يظن انه اكبر سنا من ذلك. ولم يكن يصحح من يعرفونه اذا اضافوا الى عمره خمس سنوات. وهو ممشوق القامة، عريض المنكبين، مستقيم الظهر. تخطو ساقاه خطوات عريضة قوية. شعره فاتح اللون وخفيف الى حد ما. ووجهه قوي القسمات واضح الملامح. وعيناه صغيرتان يقظتان. يضرب الارض بعصاه فيما هو يمشي، قالبا الحصى والحجارة الصغيرة، ومقتلعا احيانا عشبة او زهرة في طريقه.

امتدت القرية فوق المنحدر الجبلي المتدرج. كانت الطرقات القليلة يرتفع الواحد منها فوق الاخر على نحو عشوائي في محاولة مضنية لتصل الى المساكن المتباعدة بعضها عن بعض. وارتبطت الطرقات بسلالم خشبية سوداء تركت احوال الطقس آثارها عليها. وكانت اشجار الفاكهة مزهرة فاختلط اللونان الزهري والابيض وخلفهما السماء الزرقاء بلون المنحدرات الصخرية الرمادية. وكانت الطيور تزقزق في السياجات. كان المطر قد هطل، ولكن الشمس الان مشرقة، والنسمات المخملية تهب على وجهه حاملة رائحة الصباح. وبين وقت وآخر كان يشد قامته ويهز رأسه بحركة عصبية مثل كائن فخور بنفسه يتمرد على عبء لم يعتد عليه.

ولم يكن الربيع شيئا جديدا عليه، ولم تكن كذلك اصواته وعطوره والوانه، ولا انفاسه الحانية المداعبة. ولكن لسبب لم يكن يعرفه كان يتلقى هذا كله اليوم بطرق لم يعتد عليها.

ولم يقم ارشيبالد بهذه النزهة لان النهار جميل وساحر، ولكنه خرج ليقوم بتمرينات صحية من اجل ان يجمع في رئتيه قدرا من الاكسيجين النقي للحفاظ على جسمه بوضع جيد. فقد كان يميل باصرار الى العلوم العملية. ولم يكن يعرف الا القليل عن العواطف وهو ما تعلمه من دروس عن الفلاسفة التأمليين. كان يحب قراءة الكتب التي تتحدث عن المبادئ مما يجب اتباعه وعن اشخاص واقعيين صارمين توفوا قبل زمن طويل واختلطت اجسامهم بالتربة وعناصر الطبيعة. كان يحب ان يراقب الحشرات عن كثب. وعندما كان يقطف الازهار كان يفعل ذلك من اجل ان يقطع اجزاءها الرقيقة الجميلة بهدف البحث العملي المفيد.

ولكن الغريب انه رأى صباح اليوم الوان الازهار فحسب، واحس برائحتها العطرة. وحطت الفراشات بالقرب منه دون ان يضايقها، ولم تشعر الجنادب بالذعر في قفزاتها. كان اليوم الربيعي يقول له "صباح جميل" بطريقة جميلة جديدة. وكانت نبضات الدم في عروقه تستجيب لذلك.

وفجأة لاحظ ارشيبالد امامه حزمة كبيرة من زنابق بيضاء تتصاعد من اعماق الارض. في الحقيقة كانت تتسلق في ما يبدو السلم الخشبية الشديدة الانحدار الصاعدة من الطريق الادنى. وقد تراءى له بين سوق الزنابق الطويلة والازهار وجه فتاة شابة. وفي لحظة اخرى وقفت الفتاة على حافة الطريق تلهث قليلا. كانت فتاة جميلة كجمال الفتيات اللواتي بلغن العشرين وهن في صحة طيبة. بدت جميلة على نحو خاص في تلك اللحظة: كان وجهها مثل زهرة اخرى جمعت الوانها من الوان الفجر الوردي ولمعان قطرات الندى.

قالت بصوت قروي عذب: "صباح الخير يا مستر ارشيبالد."

فرد في ود غير معتاد قائلا: "صباح الخير يا جين. صباح الخير."

ضحكت وقالت: "اوه. أنا لست جين. انا لوسي. ل-و-س-ي. لوسي. في الاسبوع الماضي اعتقدت باصرار اني كنت اختي اماندا. وهذا الصباح انا ابنة عمي جين. وقد تقول غدا "صباح الخير يا مسز بروكيت" او "هاودي" او " الجدة بول".

ولو كان ارشيبالد يتمتع بحس اكثر رهافة لاستطاع ان يلاحظ شيئا من الاستياء كامنا في صوتها المرح. وشعر بغيظ شديد من غفلته. في الامس لو اختلطت عليه الامور هكذا لكان من شأنه ان يبتسم دونما اهتمام شديد ولسماها اميليا في اللقاء القادم.

وقالت في نفسها بينما كانا يسيران جنبا الى جنب على الطريق: "نعم. لو كنت حجرا او عشبة او خنفساء عجوزا قبيحة او اي شيء آخر لعرف اسمي معرفة كافية." كانت واحدة من مجموعة من البنات رآها تكبر يوميا تقريبا بصحبة ابناء اخوته وبناتهم. واحس الان ان من المؤكد انه لن ينسى بسرعة ان لوسي هي التي حملت الزنابق وتمنت - كما لو كانت صورة اخرى للربيع - ان يكون صباحه سعيدا.

قال لها: "دعيني احمل الازهار عنك." ولم يكن ذلك بدافع شعور بالشهامة ولكن فقط لانه كان يعرف اكثر منها كيف يتعامل مع حزمة من الازهار، وشعر بالالم عندما رأى ان الازهار – وكأنها ازهار من شمع - تنضغط وتتزاحم. كانت رائحة الازهار ثقيلة ونافذة كأنها ابخرة مسكر بلغت اعماقه واحدثت فيها افكارا وتصورات رائعة. نظر الى وجه الفتاة وشفتيها الناعمتين المقوستين وتذكر الخوخ والعنب الذي تذوقه وتذكر اطراف فنجان احتسى منه الشراب احيانا.

وسارا نحو اسفل المنحدر المغطى بالعشب. كانت الفتاة تتحدث كثيرا، وكان ارشيبالد لا يقول الا القليل. كانت لوسي في طريقها الى الكنيسة. فقد كان ذلك صباح عيد الفصح. وكانت اجراس الكنيسة تدق داعية اياهما وهما في الطريق. عند المدخل التفتت واخذت منه باقة الازهار. ولكن ارشيبالد لم ينصرف كما توقعت انه سيفعل. لحق بها الى داخل الكنيسة. لم يكن يدري السبب، ولكنه لم يهتم للمرة الاولى باكتشاف دوافعه. وبعد ان سلمت الازهار الى الخادم اجلست نفسها مع المصلين. وارشيبالد الذي كان منتظرا وضع نفسه الى جانبها. ولم يبد عليه اي مظهر من مظاهر التقوى. ولم يحن رأسه بأي صورة من صور الورع. تسبب حضوره بكثير من الدهشة. وتبادل المصلون النظرات والهمسات. ولم يلحظ ارشيبالد ذلك. ولم يكن ليهتم حتى لو انه لاحظ ذلك.

كان يوما حارا. وكان بعض النوافذ الزجاجية الملونة مفتوحا. ودخلت اشعة الشمس. وتراقصت ظلال الاوراق المرتعشة عند الباب حيث كان يحدق. وكان عصفور ينشد بين الاغصان.

واثناء القداس لم يكن منتبها. لم يكن يصغي الى الاناشيد. وعندما وقف الكاهن ليلقي موعظته تساءل ارشيبالد في نفسه عما يتعين عليه ان يقول. وقف الكاهن لحظة طويلة يتصفح وجوه الحاضرين. وعندئذ نطق على نحو وقور ومؤثر: "انا هو القيامة والحياة."

ومرت لحظة طويلة اخرى من الصمت. ورفع الكاهن رأسه وردد بصوت اعلى ونبرات اوضح من قبل: "انا هو القيامة والحياة."

هذا ما قاله الكاهن. ووقع ذلك على آذان سمعته من قبل. وتسلل الى وعي ارشيبالد الذي كان جالسا هناك. وارتسمت في اعماق روحه صورة شاعرية للحياة في نفسه وفي خارج نفسه، تنبض على نحو منسجم، وتشيع جوا من التناغم في وجود كلي غير منقسم.

لم ينصت الى اي كلمات اخرى نطق بها الكاهن. توجه الى ذاته والقى موعظة في قلبه بينما كان يرنو الى النافذة التي دخل منها النشيد وارتعشت من خلالها ظلال الاوراق.


[email protected]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى