محمد زين الشفيع - وردة من وعثاء السفر ..!.

بـَـدأً لا أقولُ إنَّـهـا أَمْـوَاهُ ذكرياتٍ شـقـَّـتْ قَـنواتِ قلبيَ وأستـارَ فـؤادي، بلْ حقيقيةٌ عايَشْـتـُها عن كَثَبْ .

ففي يوْمٍ وعندما أنوارُ الفجرِ مَزَّقـَـتْ حُـجُـبَ الظَّلامِ عن قريتِنا الهادئة ، بَدَأَ - وأخي – سِـفَارُنا إلى أقاربَ لنا بمنطقةٍ أُخْـرى تَقْرُبُ " المَناقِـلَ "* سَفَـراً وجِـهة ، وأنا بينَ يأسـِـيَ والأملْ ، رَانَتْ عليَّ فترةٌ من الصَّمتِ المَشوبِ بخفقَان ِ القَلْبِ.. واجتاحتْنِي مَوْجةٌ عـاتيةٌ من الخَوْفِ الذي سَرَى في أوْصَالي!.. وارتعشتْ رُكْـبـَـتايْ..!! لِـمَ ؟؟ لا أدري !!.. فقط .. أُحِــسُّ جُـمُودَ تفكيري...!!.

أخيراً وصَـلْنا إلى ما نَصْـبُو إليه ..!. اليومُ الأوَّلُ والثـَّـاني كانَ السَّـلامُ مِـنَّـا دائِـراً.. وفي اليَوْم ِالثَّـالثِ .. عصـْراً .. وفجأة ..!..

رَ ...

أَ ....

يْ ....

تُ ...!!..

فاتِـنـةَ الوَجْهِ الصَّبوحْ ،أتْرَعَـتْ حـِسـِّــي بالدَّهْشَـةْ ، أجَالَتْ فِـيَّ لُحُظَـاً كُـسَـالَى ، فأصابَ سَهْــمُـها حـَـبـَّةَ قلبي وغسَلتْ ذُنُوبَهُ ..فلله دَرُّ عينيها النـَّجْـلاوين ، اللـَّذيْن شَرحْـنَ مَـا غابَ عن إدراكي ، وبِدونِ تَقْـدُمَـةٍ جَـثَـوْتُ في مِحْرَابِـهـا مُـتَـوَسـِّلاً .. !! ..

سـألْتـُـها أنْ نـَـجْـلِسَ معاً لأتلـوَ من " جمالِـكِ " آيةً !! ..

تَـنَـحَّـتْ عـنـِّي جانِـباً .. وسكتتْ سُـكُـوتـاً ثقـيلاً .. ثمَّ قالتْ ، وفي وَدَاعـةٍ بالغةٍ :

- " بـِشـَاكلُونا ..!! ؟؟ "

على سَـجـِــيَّة ِ كلامِـهـا وعَـفـَويَّـتـِـه..!!.. بِنْتٌ مُـنْتَـقَاةٌ بعِنَايَةٍ فائقةْ، بها لـَـمْحـَـةٌ من الجَمالِ الرِّيفيِّ القديمِ والذي لمْ تستطِعْ يَـدُ الزَّمنِ خَـدْشَـهْ ، حقَّاً عندَ إطلالتِها قدْ سالَ مِنـِّـيَ اللـُّعابُ فأُرَاني حملقتُ فيها بعينيْنِ زائغتيْنِ ، وحينَها افتقدْتُّ الصَّـبرَ ..

فصِـحـْتُ بها أنْ تـُـقْـبِـلَ !!..

أتَتْ إليَّ تـتـزَيَّ الخَجَـلَ، وتـَـدُسُّ وجْهَـهَا الذي يَحْكي البدْرَ لمعاناً.. صافَحْـتُ يَـدَيْـها البَضَّتيـْنِ، فأحْسَسْتُ أنَّ حِـمــْـلاً ثقـيلاً قد انزاحَ عن صدريَ.. تَـبَـلَّـدَ تجاهَـهـا إحسـَاسـِـيَ ، وأصابَ الزَّمَـنَ مِـنِّـيَ النّـسْـيَـانُ .. وابتدَرْتُ الحديثَ مُـسائـلاً :

- " اسمِكْ منو ؟؟؟؟؟ .." .

أجابتْ على استحياءٍ :

- " اسمي سَوَاكِنْ !.... بِتْ !... ود .. ! ... أنا .. !.. أنا .. ! ".. أنا بَخَجَلْ "..

فخَجِلَتِ المفرداتُ مِنْ شِفاهِها وَلَمْ تـُـكْـمِـلِ القَوْلَ، فلمْ أُحْظَى حينَها بتَكْمِلةِ لَعْقِ الشَّهْدْ، وانصَرَفتْ دُونَ أنْ تستميحَ قلَـْبيَ عُذْرَا..!!..؟، ويـَـبـْدو أنَّـها تأتي وَتْراً وتَغيبُ وَتْرا..

ففي اليوْمِ السَّـابعِ وبمَحْـضِ الصُّـدْفةِ.. وعلى غيـْرِ وَعْـدٍ مُسـْـبَقٍ مِنَّا.. قابلتني!!... اتَّـسَـمَ عليها الخجلُ والجمالُ الذي فاقَ حـَـدَّ تـصَـوُّرِي، دَلَـفْــنَـا سَـويـَّـاً إلى ظـِـلِّ " راكـُـوبةٍ " مـن القَــشِّ مُتَّكِئَةٍ على رأْسِ بيْتٍ من الطِّـينْ.. أظـُـنُّ أنَّ بابـَهُ كانَ خَـشـَـبـيَّــاً مطليَّـاً باللَّون ِ الأسودِ.. لا .. بلِ باللَّوْنِ الـ .. الـ ..الـ .. الـ..!!..

حقَّاً لمْ يَكُنْ في مَقْدُوري تمييزُ الألوانِ وقتـَـها.. وأُحِسُّ أنَّ دُوارَاً وضبابيـَّـةً في الرُّؤْية قدْ أصابني وتَمَلَّكَني تَماماً، أَشْعُرُ بالذَّوَبانيَّةِ أمَامَها بكَى لهَا قلبي وقلمي كثيراً ولكنِّي خجَلاً لُذْتُ بالكتمانْ ، فأيُّ فاتنةٍ أنْتِ !..؟؟.. رجـَوْتـُها الجـُـلوسَ..!!.

- " لا لا .. !! " .. أبَـتْ ذلك !!؟؟ ..

أمَّـا أنا فقدِ اعتـَـمـَـلَ في كَـيـَـاني خليطٌ من الدَّهشـةِ وسحرِ الرَّوعـة.. ومن آثارِ الإرْهاقِ كنتُ أحتاجُ الجلوسَ أكثرَ مِمـَّـا أحتاجُ لكوبِ شاي الصَّـباحْ.. ثُمَّ أرْدَفَتْ تَقُولُ:

- " لا .. لا .. أنا ..
بـَخـَجـَـلْ ". وذهَبَتْ عَنِّي وجَوانحي مِلاءٌ بها .. فبذهابِـها قد أرهقتْ خاطري واحتلَّـتْ جُــلَّ تفكيري .. !! .

أحببتُ ترغـُّب الوَتْرَ منها وفيها ولها .. لكنَّها ضنَّتْ خَجَلاً بوَعْدِنا اللا إراديِّ القديمْ ..

سألْـتُ عنها مِـرَاراً صديقاتِـها.. فكانَ الخـَجـَـلُ ردَّهـا الأخيرْ..!!. أخيراً.. أقولُ إنـَّـكِ كاسْمـِـكِ قدْ سَكَنْتِ فؤاديَ، فإنْ لَـمْ يشأْ لنا القدرُ التَّلاقي في دُنـَا الواقِـعْ..!!. حـَـتـْمـَاً في الخيالِ ألقـَـاكِ لِتـَـصـْـفُـوَ وترْتَوي نَهْلاً وسُكْرَاً..

ثُمَّ .. سُكْرْاً ..

مِنْكِ مَـشـَـارِبي .. !! .


عام 1995م .

ومن غُرفتي الطينيَّةِ القديمةِ بقريْتي الوادعَةِ " سَلِـيم بالجزيرة " حيثُ لمْ تَكُنِ الكهرباءُ دليليَ في الكتابةِ وإنَّمَا فتيلةُ زَيْتٍ " ذُبالةٌ سِراجٍ أو مِسْرَجةْ " خافتةُ الضُّوءِ ، والحرفُ يَرَاكَ عِيَاناً ولا تَكادُ تَرَاهْ ، معَ أنَّ الكهرباءَ وَصُولٌ بالقريةِ وقتَذاكْ ، لكنَّ ضيقَ ذاتِ اليَدِ حالَ بيْنَنا وبينَها فمنعَها وَصْلَنا.



* المناقل : مدينةٌ بالسُّودان.
* الرَّاكوبة : أعمدة من نبات البان تُنْصَبُ أمامَ المنزل وتُعرَشُ بالقشِّ والحصيرِ تقيَ أهلَ البيتِ حرارةَ الشَّمسِ كما أنَّهم يجعلونها مَقيلاً لهم ويشربونَ فيها القهوةَ عقب تناولِهم لوجبةِ الفطور .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى