أحمد محمود الشايقي - ترابلـة الطبـل.. قصة قصيرة

كانت الهـتّـف (بت الطاهر) امرأة نادرة بالفعـل, يعدها الجميع زينـة نسـاء الفريق (الحي) كما كان اللمين أيضا كذلك زيـن الرجال, كانت عامرة طولا وتقاطيعاُ وكانت مشيتها أمراً أخـر لا يني الفادح (ود زيدان) أن ينعتها بـ (الظابط) وكانت امرأة في غاية النظام والانتقاء حتى لكلماتها في السلام أو في إرخاء الثوب على الخد وإمعان النظر للأرض حينما يضطرها الحال للمرور أمام مجلس والدنا العمدة , حاجبة ما استطاعت أن تحجبه وتاركـة سـواه ليفعل بالناس الأفاعيل شبابهم وكهولهم وشيوخهم على السواء. لا حديث لنساء الفريق سوى أخبار الهـتّـف وأحداث منزلها فائـح البخـور والعامر بالضيوف صباحاُ مساءُ فهـم من جهـة البادية الغربيـة لقريتنا وأهلهـم دائمي الترحال والتنقل طلباً للرزق وزيارة للمستشفى الذي يخلو من الخدمات التي تسـد رمق المرضى ناهيك عن مرافقيهم وكانت تحتمل وزوجها اللمين كل ذلك بصبر يحسدها عليه الجميع.

في صيف قائظ تلقى الفريق خبراُ مفاجئا أحزن الناس جميعاُ, جاء الخبر قصيرا جداً , مرضت بت الطاهـر, تساءل الناس ما الأمــر وما الســبب, همست النساء الحواسـد سـراً راحـت (بت قنقـر) تنـم في كل بيت وتضع التأويلات التي تستدعي إرسال الأطفال والصبايا الصغار لشراء الملح فوراُ دونما وقت طبـخ, وعم الهمس والحـزن وحتى بسمات الفرح من الأفواه المملوءة بدم الحسد الأســود.

كل الفريق بذل الجهد في وصف علاج , قال البصير السبب رطوبـة رش الماء في بيت بت الطاهر المولعـة بالكنس والـرش وهو يعتقد أنها امرأة (كاتلاها) النظافـة, وقال (الفكي) ود نورين بأن العين هي السبب وأن عيون الخلق لا تترك المخلوقين حال سبيلهم, قالها على الملأ رافعاُ يديه, سألناكم الفاتحة مفتضحاُ قله حيلته في نزع الشر الذي اعترى المرأة ذات البهـاء.

أفتى الحكيم هاشم بأن اللازم كله جرى ولا فائدة فقد أيقن الجميع بأن الحسرة لا بد ستسكن الفريـق,. كانـت النساء في ذلك المكان ذوات حيلة وكيد لا يتوقف عند مصيبة كن مصائب تمشي على أقدام, جاءت خالة بت الطاهر من القريـة البعيدة وكانت الأكثر شبهاُ بها سوى أنها تقدمت في السن قليلا واستدعت العواجيز خرجن بأمـر تنفيذه الخميس القريب.

حركة شديدة انتابت بيت بت الطاهر ذاك الخميـس, وأتى اللمين بثلاث كباش (متورتة) وغادر المكان كأنه فعل المضطر ما كان يهمنا سوى الفضول والفرجة على الداخل والخارج والبحث عن (خيرات) مثل يوم الجمع هذا من حلويات وغيرها, أتى رجـل قررنا على الفور أنه غريب , يلبس كلبسـة ود نورين لكنه معدوم اللحية والشوارب, وكانت نظراتـه عميقـة وحركـة رأسـه شديدة التافف, ظنناه من اهل المدينة الميسورين, لكنه جاء يركب الكارو الصغير يقوده حميدان لمنزل اللمين, كان الأغرب بالنسبة لنا نعومة جلد الرجل ونحول يديه, ما كان في الفريق ناحـل يد, حتى الفكي ود نورين نفسـه الذي لم يكن يحتاج للعمل لقيام حيرانه بذلك كان ناشف اليدين لا تملك التملص من قبضته الشعبة الكؤود.

لاحظنا السكون العجيب الذي اعترى النسوة وهن يملأن المكان فور دخول الرجل ولاحظنا اهتمام النسوة ولباس بعضهن البرانس الغريبة وطنطنة بعضهن بصراخ غير مفهوم, كان كل المكان مليئ بالغرابة والألوان, واستغربنا عدم إلقاء الغريب تحية السلام وعدم احتفائه بنساء لهن الكثير من الوقع لدى غيره, رفع الرجل عصاه فجاءت حاجة سلامة بطبل كبير وضعته أمام الغريب في صحن البيت وسط النسوة ومع رفعة عصاه المرة الثانية ضربت سلامة الطبل بيدها الملفوفة بالسبح متعددة الألوان ببراعـة كبيرة ما كنا نتوقعها في هذا العجوز غير المحبوبة ومنقطعة النسـب

رفع الغريب العصا مرة أخرى, وصاح: جيبـو الترابلـة ؟


كل المشهد هذا من ثقب (صريـف) البيت الغربي المطل على بيت العجوز المجاور, لأمر ما تــم طردنا جميعا من حضور ذلك الحفل الغريب في بيت بت الطاهــر.

فكرنا في التعسـاء وتذكرنا الترابلة الذين مررنا بهــم في طرقات الفريق البائسـة. كان الطبل كبيراًً جـداُ وكانت سلامـة الماكـرة تضربه في غير صبـر, جاءت ثلاث نـســوة يحملن أشياء تحجبها الثياب, كانـت صغيرة في حجم حلـة تسخين اللبن, مع أي منها عصـا كعصـاة (الكنـش), رفـع الرجـل عصـاه مرة أخرى ضربـت سـلامـة الطبـل الكبيـر وهـوت النسـوة الثلاث بالعصـي على الأشياء الصغيـرة راح الجميع في حركات صاخبة فجأة تحول المكان وثار وماج وفقـدت النســوة كل ما عرف عنهــن, جن جنون الجمع وتمادى الغريب في وسطهن يتوشح الملفحة الوحيدة غير الوقورة في تاريخ الفريق, إذن هـذه الاشياء هي التي عـناهـا عندما طلب إحضـار الترابلـة. رغـم الصخب الهائج كان تركيزنا عليها هي دون غيرها كانت نسخـاً مصغرة من الطبل الكبيـر, أحببناهـا, كنا نحـب كل شئ صغير, كان سهلاً أن نلهو بكل صغير.


في الغد سمعنا أن الهتّف شفيت تماماً, غريب كان هذا الخبر لكنه حصـل فعلاً, قال الناس ربما كان هذا بخار البليلة وهو يرفع البلاء وقال بعضهم ربما حضر (ليلة الزار) بعض الصالحين.... المهم أن دخان الطلح راح يتصاعد مرات أخرى من دار الهتف بعد العشاء وراحت تخرج لحاجياتها وتسلم على مجموعات النسوة والجيران.. ذلك السـلام المحبوب.

وبعد الغد تساءلنا أين الطبول الصغيرة, كنا مستعدين لشراءها أو سرقتها أو استجداء اللعب بها سالنا ما ذا تسمى ولماذا لا يبيع الريح مثلها في دكانه الكبير, قالت سلامـة مثيرة المزيد من الفضول يا أولادي هـي _(شتامـة) الطبل, تسوو شنو بي الـ (شـتـم)؟

كنا نستغرب لماذا يحتاج الطبل إلى شتـم؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى