أسامة رقيعة - أيام تحت الصفر...!

كانت درجة الحرارة الخارجية اثنين تحت الصفر ، والساعة الثانية والنصف ظهرا من يوم الخميس، لو كنا في بلد الإقلاع ، كان يجب أن تكون الساعة العاشرة والنصف مساء ، وفي مواجهة هذا الفرق أحسست بالكسب... فثمة ما يقارب عشرة ساعات أضيفت إلى عمر نهاري .. ولكن ليس المهم هذا الكسب ولكن المهم في ماسأنفقه فيه ، فكم من كسب يضاف إلى حياتنا كل يوم ، ثم ننفقه في الانتظار .. في انتظار ما قد لا يكون . أو في إضاعة الفرح ، منا ومن وجوه الآخرين .. نحن في الأرض لا نحب بعضنا بما فيه الكفاية ، ولا نعرف أن نبتسم في وجه بعضنا بعضا ، ونفشل في أن نفهم حدودنا ، أو حقوقنا ، وأهدافنا ، كما نفعل على الطائرة ... هذا ما أحسسته وانا اجمع حقائبي عند سير الأمتعة .

مطار تورنتو الدولي، أنيق في بساطته ، يشدك بهدوئه ، وفي إطار هذا لا يمكنني الحديث عن سلاسة الإجراء ، فهو أمر معتاد ، ولا عن الترتيب والنظام ، فهو أمر ضروري ، ولكن سأتحدث عن هذا البرد ، الذي لسعني بمجرد خروجي من مبنى المطار وانا متوجهه إلى سيارة الأجرة التي ستقلني الى الفندق ، ورغم أن المسافة لم تكن طويلة ما بين المطار والسيارة ، إلا أنها كانت كافية لكي تعطني درسا عن البرد الذي تشهده هذه المنطقة ، التي تغرق وسط هذا البياض الذي يكسو كل شي ، وهو مايسمونه بالاسنو ، أو الجليد ، أو التصحر الأبيض البارد ، وفي السيارة همست محدثا نفسي : إن كل ذلك سهل في مواجهة تصحر العلاقات بين البشر ، والاسنو ، والجليد الذي يغطي مساحات المشاعر بيننا ، فانه وحتى في الشرق ، حيث دفء المناخ فانك تشعر بذات الجليد الذي يجمد مشاعرنا ويغطي مساحات الولف بيننا ، ويجعل كل شئ تحكمه المصلحة والانتفاع حتى الحب عندنا يقدم على طبق من المصلحة يعلو كلما كانت المصلحة اكبر . ووكالات الإنباء تتحدث عن تغير المناخ في الكرة الأرضية ، ويحيرني صمت علماء التاريخ ،والاجتماع ، والأديان إزاء التغيرات الحادثة ، والمتوقعة في تركيبة العقل البشري ، وفي منظومة وجدانه الخاص ، حيث اختفاء قيم الروح والمحبة والإخاء وعلو قيم المادة والمصلحة والدولار تحت غطاء وحجة ظروف العمل والبزنس ومقتضيات المحافظة على الثروات تلك التي صارت أهم من الإنسان الذي يملكها ..

عنما قضت ظروفي بالهجرة إلى خارج الوطن ، منذ أكثر من اثنتي عشر عاما كانت لدي رؤية مختلفة تماما ، عن إطارات العمل ، والحياة ، والبقاء ، كنت انظر إلى الحياة من ناحية تبادلية ، لا يضير فيها الاختلاف ، فانا أعطي من يحتاج ، وان ظهرت لي حاجة لفكرة ن أو عمل ، أو كلمة طيبة فلا محال أني واجدها إذ لا سبب لغير ذلك ، ولكن بدا لي الأمر مختلف حيث أصبحت أري من يكذب من اجل بضعة دولارات ثم يستطيع وبكل بساطة مواجهة أطفاله والنظر في أعينهم حين يعود إلى منزله.

دعوني أعود بكم إلى تورنتو ، إلى هذا الطقس البارد من ديسمبر ، حيث كانت المباني تبدو لي صامدة ، وصامته ، ومصرة على تحمل قسوة البرد ، وتورنتو رغم هذا تعتبر من أجمل مدن العالم ، وهي تضم أكثر من خمس مدن صغيره فهم عندهم فلج أي قرية ، ثم ستي أي مدينة ، ثم تاون، فتورنتو تاون تضم أكثر من خمس مدن ( ستي ) مثل هاملتون ، ومسس ساقا ، داون تاون .... وكل مدينة لها حكومتها المصغرة ، وشرطتها، وأول ما لفت نظري في تورنتو ، هو انك لا تلحظ وجودا للحكومة ، بل تشعر بالفعل أن الشعب هو الذي يحكم نفسه ، وحتى هذه المعدات التى تجرف الجليد ، فانه تديرها شركات خاصة ، أما الصفحات الأولى من الصحف ، فإنها لا تتحدث إلا عن الجليد ، وإخبار المجتمع ، والانتخابات إن كان وقتها ، ولا شئ يجعلك تشعر بالقلق ، أو الخوف فمشاكل الحكم تدار في أروقة الحكم ، والشعب يمارس التحكم في حياته ، وظروفه ومستقبله ، وحبه لوطنه .. انه عالم متقدم بالفعل، ديمقراطي في كينونته ، نصف دخل الفرد يذهب الى الضرائب ، فان كنت تكسب دولارين في الدقيقة فهذا يعني أن احدهم للحكومة ، ولكنك ستدفعه عن حب ، وغير نادم ن فالحكومة أنت تمثل همها الأول فهي توفر لك الأمن ، والأمان ، والعلاج ، والتعليم ، والحرية ، والخصوصية ، والضمان الاجتماعي . إن الحكومة تأخذ نصف دخلك ، لكنها تعطيك صك ضمان لكل حياتك ، وهو صك موقع مسبقا ، يؤكد بأنك ستحقق أحلامك في الحياة ، لان المسافة التي ستفصلك عن أحلامك ن ستكون بمقدار جدك ، واجتهادك ، وصبرك ، وتعلمك ..

قلت إلى صديقي الذي يصطحبني في جولاتي : أنني لا أمانع أن ادفع ثلاثة أرباع راتبي على أن أجد مثل هذه العناية ، حتى ولو في القمر .

والقمر في تورنتو رايته مرة واحدة ، ورغم إن اليوميين التاليين لوصولي كانا مرهقين ، حيث كان جدول العمل يشتمل على ثلاث اجتماعات في كل يوم وقد تتخللهما برامج طارئة ، وكنت أنا أقاوم فرق التوقيت فمنذ السادسة مساء اشعر بالنعاس يداهمني على نحو لايقاوم ، وإذا ما اسملت نفسي للفراش عند السابعة مساء ، أجد نفسي قد استيقظت صحيحا عند الثانية صباحا ، ثم احتار فيما افعله حيث لا يمكنني الخروج ، ولا البقاء نائما، وقديما عندما كان معلم الإحياء يحدثني عن الساعة البيولوجية ، كنت أتخيل إن حديثه ترفا علميا ، ولكن حقيقتها تظهر لي كلما كنت في مكان يكون الاختلاف الزمني فيه كبيرا .ولا أريد أن أحيل الموضوع الى تأمل ديني ، ولكن الله كحقيقة أزلية دوما يفرض على عقلنا الاوب والعودة إليه ، إن كل هذا الزخم العلمي الكبير والتكنولوجيا نتاج الى جهود العقل البشري ، والدهشة ليست فيما أنتجه العقل البشري ، بجده ، وصبره ، واجتهاده ولكن الدهشة فيمن اوجد العقل البشري نفسه ، ثم دعمه بكل هذه الإمكانيات الهائلة فلولا هذه الاماكانات لما استطاع الإنسان أن يجوب العالم ، والآن يمكن لطيار صبور أن يقطع الكرة الأرضية الى نصفين في اقل من أربع وعشرين ساعة ، حينما قديما كان الرجل منا يحيا في رقعة ارض لا تتجاوز الدار ، والسوق ومدينته المجاورة ، لقد كانت الحياة ضيقة بالفعل ، والآن شاسعة كبيرة جدا ومفعمة ، ولكن يحيا فيها رجال قلوبهم لا تتسع لأكثر من مصالحهم ، ونساء لا يتعدى تفكيرهم حجم شفاههم التى يجب إن تكون مكتنزة وملونة ولا يهم مضمون العبارات التى يمكن أن تخرج عبرها .

شئ لا يمكنك تجاوزه أبدا وأنت في تورنتو .. ليس هو السي إن تاور رغم انه أطول مبنى في العالم قبل برج دبي ، وليس هو شلالات نياجرا ، رغم إنها تعتبر من أكثر المساقط المائية ، جمالا ، وقوة ، وارتفاعا ، ولكنه هو ملمح الحرية والشخصانية العزيزة ، التي تلمحها في وجوه كل شخص كندي حتى أولئك المهاجرين الذين يعانون أحيانا في صمت .. ففي كندا لا يوجد شخص غير مهـم فالكل مهم بدأ من (الناطور) أي الحارس و( الأوفس بوي) أي الفراش أو خادم المكتب ، حتى المدير العام ورب المال .. كل شخص مهم بدوره الذي يصنعه، وعمله الذي يؤديه ، وهذا التساوي لا يفسد أبدا الاحترام ، ولا يمنع من أن تعطي الأماكن حقوقها، ففي حفل العشاء الذي أقامته لنا احدي الشركات الكندية ، لاحظت كيف إن صاحب المال حريص على التواصل مع الجميع ، حتى مع ذلك الشاب الأعرج الذي كان بالأمس يطلعنا على بعض الشقق الذي يتولي هو نظافتها وحراستها ، ثم رغم كل هذا التواصل الحميم لا تلحظ تخليا للاحترام او تجاوزا للأولوية.

إنها أيام تحت الصفر بمعيار الطقس الجوي ، ولكنها دافئة ، حميمة ، مشوقة بمعيار التقدم الإنساني .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى