جمال الغيطاني - البيرق

أجهل المكان.. لا أعرف إلي أين يؤدي ولا دليل ينصحني بالاتجاه، البلاد غريبة واللسان صعب، سبعون يوما لم أمد جسرا متصلا مستمرا بإنسان، منذ وصولي لاقتني المدينة بصد، ملامح الناس لا تنطق حزنا أو فرح، وعبارات الحديثة محددة غير متجددة، منذ ثمانية وسنين يوما قابلت رجلا من بلادي. يقيم منذ زمن هنا، جئت وعنوانه معي، بدأ قلقا يتلفت حوله باستمرار، أجهدني سماع صوته، قصدت مصارحته بحالنا هناك، أثير انتباهه، أدفعه إلي أبداء أنفعال، قلت أن الأمان ضائع والطمأنينة شحيحة، ولا أحد يضحك من القلب، وإذا أجتمع أصدقاء في سهرة، تعلو أصواتهم وضحكاتهم لدقائق ممدودات، ثم يسكتون فجأة، لا ينطق أحدهم حرفا، حدثته عن رجال يمشون فرادي هادئين يفاجئون بالبعض يتشاجر معهم بدون سبب، أصبح من المألوف أن ننشر الصحف حوادث غريبة، رجل يقفز فجأة علي امرأة في ميدان عام تملؤه الظهرة ويحاول مضاجعتها. عدد من الشبان يركبون سيارة صفراء يتوقفون بجوار الرصيف، ينزل أحدهم، يتقدم من رجل وامرأة.. يمسك ذراعها، يسحبها إلي داخل العربة، ينطلقون بينما يزعق الرجل.. امرأتي.. امرأتي.. والمارة يمضون غير مبالين، بعض الملثمين يصعدون إلي القطارات وعربات المترو بعد انطلاقها من المحطات، يدخل واحد منهم إلي عربة بأكملها، يجرد من فيها من الساعات والنظارات، وخواتم الزواج، ثم يبتعدون بهدوء، قلت: إن النوم عسير في أهدأ الضواحي وأرقي الأماكن، قلت الود بين الأصحاب مفتقد.. وعلاقات العمر تنسف عند أتفه خلاف، حتي رعشة القلب عند رؤية الوجه الجميل ضاعت ولا حماس للحب، رأيت ملامحه صماء، كذت أقول له إن البرق سيضع جدا لهذا كله، لكنني خفت، تذكرت تحذير العجوز.. "أياك.. أياك..".

اختلت الألفاظ عند طرف لساني، قال بعد صمت: إن الأمور صعبة هنا ولا يمكنني العثور علي عمل بسهولة، قلت إن الصحف تكتب عن مهاجرين نجحوا في أعمالهم، قال.. هذا كذب، الرزق هنا ضيق، سكت، نظر إلي، تقول عيناه. قم. قم، ورددت لو غطيت جرحي أقول له إن رحيلي أتاني بصير الأماني، أصف ا لبيرق، أقول كيف يخفق، أتحدث عن حال الدنيا قبله وبمده، عن مصائر تبدل وتتغير بعد أن أنشره.. سمعت العجوز المهيب. "أياك.. أياك".

الآ لا أدري إلي أين أمضي، لا مواعيد تشدني إلي أحباب، لا أعرف من ألقي وبأي أرض أموت، هل ناداني أحد؟؟ صوت معدني الرحيل، نابع من ذرات الأرض، فراغ السماء، بلا مصدر، من كل فج، يبرق الليل البعيد أمامي الآن، أشم البحر وصوت العجوز يتردد مهيبا وعرا.. "أياك والنظر إلي الخلف".

لا أدري حتي الآن من أين جاء؟؟ إلي أي أقاليم الدنيا ينتمي؟؟ أم ألمحه بعد بين ركاب السفينة كما لم آره من قبل، عندما بدأ حديثه الليلي الوقور أوغل في كهوف عمري، قال: إنه يعرف كل شيء عني حدثني عن آلامي ومواجعي قبل رحيلي وتوقي العازم إلي الفرج، عن إجراءاتي من أجل السفر، احصائي الأوراق غالمطلوبة وكتابتها بورقة بيضاء صغيرة لا تفارق جيبي، كلما تم تجهيز أحداها أشطبها، حدثني عمن صاحبوني إلي سراديب المصالح الحكومية، من أكدوا مرة أخري اسمي وميلادي وحسن سيري وسلوكي، تحصني ضد الأمراض ثم عبوري صالة الركاب البحرية وعندما اختلطت ملامح المدينة تلاشت ا لفراغات بين ميانيها، ذاب الجماد في الفراغ، طال بكائي ورثائي لعمري الأول ولسهرات الأصحاب في أيام الدفء، واللقاءات الجادة والليالي الأخيرة من رمضان وصباح الأيام ونزهة في الضوء والشمس، رأيت نفسي مقدما علي ولوج عالم أجهل كل شيء فيه أيقنت يقينا غامضا أنه يعرف ما سيجري لي، في القمة المشبعة برائحة البحر رأيت ابتساما شاحبة كمرأي البحر آخر النهار.

قال: إن أيامي في القرية ستصبح طوالا.. ولكن يجب الحذار.. الحذار.

لم أستفسر، إنما أوثقت إليه بغموض الليل وعمق البحر وأوجاع الرحيل وضيقي وهمي، رأيت زيه الغريب من عصور بعيدة، رأيته لا يرحل من مكان إلي مكان، إنما عبر أزمان متباعدة.

قال: إن الصعاب كثيرة، ستتداعي بعض جوانب حصوني، سيستمر هذا سبعين يوما.. في نهايتها تصبح عند شارع بعيد عن المدينة تماما.. بالضبط، طالعني شارع متسع، الأرض مغطاة بحشائش رفيعة حادة، وطأت بقايا خط حديدي صدئ.. مختفي في بعض المواضع، ثم يبدو لمسافات قصيرة متآكلا، تبدو بيوت متباعدة، مغلقة الأبواب والنوافذ والستائر مسدلة، الهواء شفاف بكاديري، مباني المدينة كلها صممت بقصد خفي، دفع الرعب إلي أطراف الأوردة والشرايين، إذ تبدو فارهة، حجرية النظرات تندفع فجأة قطة، تكاد تلمس قدمي، ربما نمر صغير وألا لما أحدثت هذا الصوت.

"أياك أياك والالتفات.."

يقف بائع أمام عربة خشبية غطاؤها يقوم علي أربعة أعمدة تحيلة، لا أدري ماذا يبيع؟؟ صف باعة يقوم في مواجهة آخر، أينما نظرت في اتجاه مستقيم القاهم، كان نظراتي تزرعهم، كل منهم منهمك في ترتيب بضاعته، لمحت علبا ملونة مسدسة الأشكال، أغلفة مجلات ملونة، علب مغلقة، أبدي الباعة سريعة، لا أسمع لهم حسا أو صوتا، تخفي أسرارا جساما، أم التفت إلي أي الجانبين، أكاد ألمح بيرقي مرفرفا، أنظره واضحا، استشعر خفقاته في الهواء، أصغي إلي وقع آلاف آلاف الأقدام، يأتمر أصحابها بما يلفظ لساني.. يسقط وعاء نحاسي ضخم، صهريج، يبدو حجمه من صوته، يتوالي رنين الصدي.

"أياك.."

يصيح أحد الباعة ورائي تماما .. الباقون صامتون.. جهاز عجيب يا سادة.. راديو وبيك أب وتسجيل وتليفزيون وماكينة حلاقة وتليفون لاسلكي.. جهاز.. لابد أنني مبهر الناس في بلادي بهذا الجهاز، يتصارعون من أجل الحصول علي مثيله، تنشر الصحف صورتي، أقف إلي جواره.. بأرخص الأثمان.

صوت البائع ينادني، يرجوني، يوحي إلي بنساء يتهافتن للفرجة عليه، وأيدي تقلبه. وعبارات....

"أياك.. أياك" والالتفات إلي الخلف.

قال العجوز الغريب، ستسمع أرق الأصوات وأحد النداءات، غالبا نفسك، أقهر الرغبة، أياك والالتفات، لن تصل أبدا، صمت قليل، عيناه ما يجري في خبايا الدنيا، عيناه طافتان علي الماضي البعيد والزمن الآتي، أطل منهما، ألتمس مصير أصحابي، أعرب ما جري، ما سيجري، أرقب الرعب والشفرات المشهرة، وصغيرات السن يتأوهن إذ يغتصبن عند عتبات المساجد.. تحقق مصائر، أي ا لمواضع يضمني غدا وبعد غد.

أسمع.. نداء حاد، مفاجئ، غادر مباغت كالسقوط في هاوية لم ألتفت.. سمعت العجوز، استعدت طريقته في لفظ الكلمات، مذاق حسه.

يف النهاية ستجد نفسك أمام بيت من طابق واحد نفسك أمام بيت من طابق واحد، أنيق مدخله حف بالسوسن، أوراق خضراء طيبة الرائحة، زهور غريبة ألوف تتسلق الجدران لها أشكال آدمية، ستقف أمام باب صغير مقبضه نحاسي، ستمد يدك، أطرافه، ستخرج لك امرأة عجوز، وجهها غابة تجاعيد، فمها خال من الأسنان، أطرافها ترتعش، سيدق قلبك عاليا، سبتدو لك منفرة، ستبدو غاضبة، لا تخف، لا تتراجع، لا تخش أمرا، أهجم عليها، أمسك يديها، عر صدرها، مد فمك إلي ثديها الأيسر، ستقاومك، ستتدفق قوة تتنافي مع مظهرها، تفان، تفان، حتي تتغلب عليها، تتمكن منها، تمسك حلمة الثدي ذاتها، مص بقوة حتي تستشعر مذاق الحليب، ودفئه في فمك، هنا ستحنو عليك، ترق فجأة، يتبدل مظهرها الشره القاسي، ستقول.. ماذا تطلب؟؟

قل كلمة واحدة "البيرق.." ستسأل، "ما الداعي" لا تفه إلا بستة حروف "البيرق".

سيبدو صوتها قادما من سنين عمرك، يشبه نبرات أمك.

"أعطيك من أموال الدنيا ما تشاء، الجاه، الجاذبية، السمعة الحسنة، الانثي الفاتنة، المأوي المريح، الظل الظليل، خلود الذكر".

لا يرق قلبك، قل "البيرق" عندئذ ستبكي أمامك، تبدو حانية، مثيرة للآسي، توجع القلب القاسي، وتستهيل الجماد، وتغلق الحجر بحزنها البادي، قال »البيرق«، لن يستمر عويلها، سينقطع شجنها فجأة، تدخل ذليلة، خرساء، لا تتبعها، ستعود إليك، تحمل بيرقا طويلا ملفوفا، خذه منها مطلوبا، أمضي به إلي أوسع مكان، ثبت قدميك في الأرض، انشره.. دعه يخفق ثم تلفت حولك.

انثي حلوة، عيناها محطة وصول أخيرة ورسالة مرتقبة وظهور نتيجة ودرجة أخيرة من سلم. ع يناها صبغتا من عسل نحل مصفي، المشي بجوارها رحيل إلي سنين أحلي، تجاوزتها بأمتار، دق صدري كله لخطاها، نادتني.. تذكرت العجوز.. "أياك والالتفات".

قالت: إنها تعرفني، أنها تنتظرني، تبدلت عليها شموس قاسية وحانية، وقهرت حنينها إلي البحر والضوء المصاحب للزرقة وملمس الرمال الناعمة يدغدغ باطن القدمين، والجري ثم الأنثناء، قالوا لها إنني لن أصل أبدا، لكنها غالبت الانتظار واختفت الأصوات الليلية، وتفحصت الملامح، واصفت إلي الأنباء، والإشارات الخفية، والآن.. تري جسورا تمتد، تصلحها بالفرح والدفء، وتردد الأنفاس الحبيبة فوق بشرتها، وسهرها الليلي مع من تحب، وأحاديثها إليه واقترحاتها وأمنياتها له، صوتها خدر وريق حلو ونداءات ناعسة من العمر الضائع لكنني استعديت من كل فج كلمات العجوز، خلقت منها صورا لبيرقي، رأيته خفاقا منها صورا لبيرقي، رأيته خفاقا في الأعالي، دائما يتقدم جيشا لا مثيل له، لو وقف محاربوه صفا واحدا بمعداتهم، وأسلحتهم، واستعرضتهم ماشيا لانقضت شهور عديدة، مقسما إلي أربع فرق، كل فرقة تسد جهة من الجهات الأربع الأصلية، لكل فرقة سلاح لم يسمع عنه بشر، لا تصد، لا تقهر، جنده لا يفني أبدا، كلما جرح مقاتل حل مكانه آخر، لا يعصون أمرا، لا يهزمون قط، لا يشكون أبدا، قال العجوز، لو طلبت منهم زحزحة الجبال لفعلوا ، لو شئت نشر الخضرة في الجدب والنماء في القحط لأقدموا علي هذا، لو رغبت في إيقاف الصاعقة ما بين لحظة انطلاقها من السماء وقبل وصولها الأرض لحولوا مسارها، بهم تستعيد الأمان إلي الدنيا، تعمر الخراب في الكون، تفئ أحشاء الجياع، بهم تزهو، تعلو بقومك، قم.. غالب أيامك العجاف، الخالية من البهجة، المهجورة من ضحك الأعماق، وجه قوادك وفرقك أينما شئت، أجتث الظلم والجور، وأقهر العدوان، وأنصر الضعيف، وأجعل الذليل قادرا علي رد الإهانة، فقط.. أقهر رغبتك في النظر إلي الخلف.. يرتفع فجأة بوق عربة، قوة الصوت أوشكت أن تدهسني. ضاع صوت البنت، كأنني أسير أفلت من الاعتراف بعد تعذيب مر، لم تجبرني عذوبة صوتها علي الالتفات، حتما أنا واصل، بعد قليل أفرد ببرقي، أبدأ سطورا جديدة في واقع الدنيا، نذكر مما يدهشة حيرتنا، ذوباننا في الشوارع الخالية، ننهي سنيننا العجاف.

تنمو ضجة علي مهل، تتصاعد أصوات ناعمة كدبيب أقدام رفيعة بلا حصر فوق جلد ناعم أملس، أصغي أسمع.. تصابح التلاميذ وقت الفسحة في مدرستي الابتدائية.

صوتي أسمعه طفلا خلوا من الهم.. "حاسب.. حاسب" وشيش موج.

أنت يا.. أنت يا.. فتاة تنادي.

أطباق تصطدم بأطباق.. دراجة بخارية تبدأ بطيئة، تفرقع مرات.. جمهور في مقهي، تتعلق أبصار بشاشة صغيرة، تقترب الكرة من المرمي، يهدر صوت جماعي.. هيه.. تهرول القلوب، من أخبار الصباح.. في الثامنة عشر ومات أثناء مشاهدته المباراة بسبب الأنفعال.. الأنفعال.. عواء ممدود من عربة أطفاء تبعد عن بؤرة سمعي.. يتبعها عواء أخري.. ينوح الليل مذعورا.. من شرفة فندق علوية يتساءل رجل، أين الحريق.. يزعق شاب "منطق مرفوض".

سيداتي.. سادتي..

إليكم همي يا سهاري..

الآن جاءنا ما يلي..

آه، فجأة تتوحد الأصوات في صرخة ممدودة، ملتوية، لا تطلقها حنجرة، منبعها الحشي وأعمار طويلة وسعادة تنتهي ومستقبل يهدد وإمكانية تهدد وعجز إنساني في مواجهة ألم قاتل وإدراك اللاجدوي ومصاب حل، صرت عجلات، تذكرت رجالا ونساء يتزاحمون، تراما يتوقف فجأة وإنسانا يصيح، غبار الماضي ثأر فجأة، البعض يلملم أشياء تناثرت من حقيبتين يحملهما جندي، يخرج صوته ملتاعا، يخترق حاجز السمع، يلامس دقات القلب، أبدأ تفسير الحروف" آه يا مني.. بقيت أعرج" يعاود الصراخ بلا حد كافي بحر غضوب، الآن تستمر الصرخة، نهايتها كضحكة ممتوه ملامحها لا تضيع إذ يتوقف المصدر لحظة حتي يستجمع ما تبقي، معدتي تأوي شعورا بالقيء، رعبا مجهولا يكدرني، صديد يزحم مفاصلي، "آه.. أنا أعرج يا مني.."، آه لو يرفرف بيرقي، لو تنفي الأوجاع، لو تعود ساق الجندي، لا أدري أين يعيش الآن في مدينتنا البعيدة، هل قبلته مني أم لا. أو أنه لم يزعق متحسرا مذبوحا "حترضي بي يا مني.. بعد ما بقيت أعرج" يعود الصراخ متسلخا، لحظة خارج الزمن، فوق العقل، يلمس العالي الغامضة، بتر روحي الدفين، أين.. هذا إذ لا يتوقف الصرير، يسأل قادم جديد، ماذا جري يجيب أحد الواقفين "جندي راجع في إجازة، عجلات الترام ربطت فوق ساقه" يحدث الصراخ إثرا في الفراغ، يتضاءل إنسان يقفز في الفراغ مخترقا أضلعي وصدري إلي قدس أقداس قلبي..آه..


- قصص البدايات - 04/01/1973

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى