ريتا عودة - الفستان الأحمر.. قصة قصيرة

استوقفتني إحْدَى جَاراتِنَا عَلَى بابِ الْمَنْزلِ وَهِيَ تَتَساءَلُ:"إلَى أيْنَ!"

حَدَقْتُ فِي الأفْق ِ الْبَعيدِ وَهَمَسْتُ: "لا أعْلَم!".. وََأخَذْتُ أبْتَعِدُ وَصَدَى صَوْتهَا يُلاحِقُنِي بــِإصْرَار: "فَتَاة غَريبة!

بَدَأتُ أعْبُرُ الشَّارعَ الْفَاصِلِ كَحَدِّ السَّيْفِ بَيْنَ الحَيّ العَرَبِي الْمُهْمَل ِ عَبْرَ سَنَوَاتِ الْجَفَافِ وَبَيْنَ الْحيّ الآخَر الْمَزْروع بالْجَنَةِ نَفْسهَا..خُطُوَاتِي مُتَثاقِلَة كَسْلَى. صَرَخَ أحَدُ السّائِقِين الّذي كَادَ يَدْهَسنِي بــِشَاحِنَتِهِ الْضَّخْمَة " عَمْياء! الضَّوءُ أحْمَر!"

لَمْ تُثِرْ صَرْخَتُهُ انْفِعَالِي.. لكنَّ قميصَهُ الَّذي دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ جُنْديَّا أثَارَ فُضُولِي.. فَبَدَأَتْ تَتَرَاقَصُ فِي ذَاكِرَتِي صُوَرُ أجْسَادٍ مَبْتُورَة وَبُيُوتٍ مُهَدَّمَّة.. دُمُوعٌ.. هَلَعٌ.. دَمٌّ.. صُوَرٌ تُطَالِعُنـَا بـِهَا

النَّشَرَاتُ الإخْبَاريــَّة كُلّ يَوْم..كُلّ ثانِيـَّة.. حَتّى أنّها صَارَتْ جُزْءًا أساسيَّا مِنْ كُلّ نَشْرَة.

مَرَّتْ بِي شَاحِنَة مُزْدَحِمَة بالرجَال فَتَمَلَكَني هَاجِسُ عَدِّهِم.. وَبَدَأتُ بالعَدِّ كَطفلة تَعَلَمَتْ لِتَوِّه الأرقِام الحِسَابيّة: جُنْدي..جُنْديَانِ.. ثَلاثَةُ جُنُودٍ.أربعَة..خَمْسَة..

تَوَقَفْتُ عَنٍ الْعَدِّ حينَ تَلَقَفَ أنْفِي رَائِحَةُ طَعَام مَا فَكَرْتُ باقْتِحَامِ المَكَانِ لكنّي أحْجَمْتُ حينَ تَذَكَرّتُ أنَّ مَلابِسِي الْعاديـــَّة لا تتنَاسَبُ وَالملابِس الْفَاخِرَة على أجساد هؤلاء..

واصَلْتُ سَيْري. وَبَدَأتُ بـِقِراءَةِ الإعْلانـَاتِ الْمَصْلُوبَة عَلَى أعْمِدَةِ الْكَهْرَبـَاءِ: " حَافِظُوا عَلَى نَظَافَةِ الْمَدينَة.بَلَديَّة حَْيفــــَا.".

ابتسمت ابتسامَة شَاحِبَة وَتَمَنَيْتُ لَوْ ألْتَقِي ثَانِيَة بذلكَ الجندي الّذي صَرَخَ في وجهي أنَّ الضَّوءَ أحْمَر..لأسْألَهُ إنْ كَانَتْ الْمَدينَة حَقًّا نَظيفَة

تنَازَلْتُ عَنْ الْفِكْرَة سريعًا وَبَدَأتُ بالتَنْقيبِ عَنْ شَيء مـَا بـــِإمْكَانِهِ إشْغالِي نِصْفَ السَّاعَة الْمُتَبَقِيَّة عَلَى ابتداء مُنَاوبَتِي الْمَسَائِيَّة في مَعْمَل الْنَسِيج.

جَذَبَ انْتِبَاهِي لَوْنٌ أحْمَرٌ لِفُسْتـَانٍ مـَا عَلَى دُمْيَّة

رغْمَ الْمَسَافَة بَيْنَنـَا.. انهمكت الْمَرْأة بـِوَضْع ِ الثَّوبِ عَلَى جَسَدِ الْدُمْيَّة. رَكَضْتُ نَحْوَهـَا... فَقَدْ جَعَلَ اللَّوْنُ الأحْمَرُ دَمِّي يَجْري بشَرَاسَة فِي عُرُوقِي. إنَّهُ أحْمَرٌ.. ولكنّه غَريبٌ.. غَريبٌ جِدًّا. أرْبَكَ أفْكَاري.. دَوَّخَنِِي.. حَدَقْتُ بــِهِ وَتُهْتُ. كَمْ أحْسدُ تِلْكَ الدُّمْيَّة الصَّامِتَة الّتي تَفْتَقِدُ مَشَاعِرَنَــــَا الإنْسَانِيَّة..إلاّ أنّهَا " تَتَمَتَع " بمـَا يَنْقُصُنْا نَحْنُ!! تَمَنَيْتُ لَوْ أتتمكن مِنْ وَضْع ِ الثَّوْبِ الأحْمَر عَلَى "جَسَدي" أنـَا!!.. بَدَلَ هذه الثِّيـَاب البالـٍيَّة الّتي فَقَدَتْ لَوْنَهـَا مُنْذُ زَمَن!!

دُونَمـَا تَفْكير.. كأنّي أستَفيق مِنْ حُلُم.. دَفَعْتُ جَسَدي دَاخِلَ الْغُرْفَة وَطَلَبْتُ مِنَ الْعَامِلَة أنْ تُنـَاولَني ذلك الثَّوب الأحمر لأرتَديهِ على جَسّدي. تَفَحَصَّتْ هِيَ بـِنَظْرَة خـَاطِفَة ثِيابِي ثُمَّ أعْلَنَتْ بــِبُرُود ٍ وَبـِلَهْجَة عَرَبـِيَّة ثَقيلَة:" دَه غـَالـِي!!!"

شَعَرْتُ أنَّ جُدْرَانَ الْغُرْفَة تَدُورُ مِنْ حَوْلِي فَسَألْتُهَا بـِلَهْفَة:"كَمْ!!!!".. وَهَمَسَتْ ببرود: "ألف"..

ألف..

وَدَوَّى هذا الرَّقْمُ داخِلَ رَأسِي فَصَارَ رَأسِي كَخَلِيَّة نَحْل ٍ مُضْطَربَة. يَجِب أن أشتَري هذا الثَّوب. ( يَجِبْ وَلَوْ مَرَّة أنْ أشْتَري شَيئًا أتَمَنَاه!).سأدفع لَهَا مَا يُعَادِلُ نِصْفَ راتِبي..(بَلْ أكْثّر!!).

لَيْتَنِي لَمْ أكُنْ عَامِلَة في مَصْنَع!! لَيْتَنِي كُنْتُ مُتَعَلِمَة كَغَيْري مِنَ الْفَتَيَات.. لَكُنْتُ تَقَاضَيْتُ مَبْلَغًا لِتَسْديد ِ احْتِيَاجَاتِي أنـَا وَأهْلـِي وأخْوَتـِي الثمانيَّة الّذينَ يَنْتَظِرُونَ رَاتـِبـِي كُلَّ شَهْر بـِفَارغ ِ الأمَلْ. لكنْ..! عَلَى الأقَلّ أنـــَا عَامِلَة وَمَصْنَعُنـــَا لَمْ يُفَكِّرْ أحَدٌّ حَتّى الآنْ بـِإغْلاقِهِ وَطَرْدِنـَا كَبَقِيَّة العُمَال الْكادحين في مصانع أخرى..دونَمَا رَحْمَة!! حَسَنًا.. سأطْلب من " يوسِي" أنْ يُرَتّب لِي ساعات عمل ليليّة لتحسين راتبي في الأشهر القادمة.

فَتَحْتُ الحَقيبَة وَتَنَاوَلْتُ الْمَبْلَغَ.. ثُمَّ بَسَطْتُ ذراعي وعلى راحةِ يَدي .. ألفُ شَاقِل.

ابتَسَمَتْ المَرْأة بإعياء وَلَمْ تَتَنَاوَلْ الْمَبْلَغَ. ابْتِسَامَتَهَا الصَّفراء.. شّلَّتْ حَواسي.. بَعْثَرَتْ هُدوئِي. قَالَتْ: "ألف دولار".. وَاسْتَدَارَتْ لِتُحَييّ امرأة تَلّفُ جَسَدَهَا بالفِرَاءِ.. دَخَلَتْ الغُرْفَة تِلْكَ اللّحْظَة.. كَمَا تَدْخُلُ السَّمَكَةُ الْبَحْرَ.

حَمْلَقْتُ فِي كُلّ مـَا حَوْلِـي!

تَرَاخــَـتْ شَفَتَيَّ.

خَرَجْتُ مـِنَ الْغُرْفــَة بـِخُطُوات ٍ مُخَدَّرَّة.

وَلا أدري لِماذا. فـِي تِلْكَ اللَّحْظَة بـِالذات. تَمَلَكَتْنـِي رَغْبــَةٌ حـَادَة فـِي أنْ: أبـْصِقْ!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى