جورج سلوم - علاج الذكريات..

وكأنّ الذكريات مرضٌ عضال يحلّ عليك ويُستطَبُّ فيه العلاج ..وكأنها داءٌ لا يشفى إذ تومض الذاكرة بذكرياتها بتكرارٍ قاتل ..كنوباتٍ ألمية مُقلقة في ليلات السّهاد

إنّ الذكريات ندباتٌ جراحية تعلّم عليك ..ممضّة مخرّشة كلما مرّت يداك عليها ..وهي – وإن التأمت – فآثار جراحها باقية غائرة

طعناتُها واصلةٌ إلى الصّميم ..وتروي حكاياتٍ ودموعاً وهي – وإن جفّت –فهي قابلة للإستنباع كلما قدح زنادها ..فتتفتّح الصفحات القديمة وتتجسّد الذكريات كداءٍ يستفحل تحت وطأة الأسى الذي لن يُنسى

والنسيان ليس علاجاً ..هو نوعٌ من قلب الصفحة على موضوعٍ ما زال بلا خاتمة .. وقضية مفتوحة بلا حلّ مُودعة في درج التريّث والتأجيل ..فما كانتِ النّساوة إلا غشاوةً على العينين ..ونظارة سوداء تُخفي عيونك خلفها لتقول على الملأ أنا مكفوف البصر فافعلوا بي ما أنتم فاعلون ..رأسي مدفونٌ في الرّمال كالنعامة فلن أرى ولن أسمع ولن أتكلم

كيف سنعالج الذكريات ؟

وهل ستشفى ؟

لقد استحدثوا مصحّاً لعلاج الذكريات ..وسمّوه مؤسسة شفاء الذكريات ..ولم يبقَ عليك إلا أن تتعالج هناك ..فيعطونك الحقن والحبوب والتحاميل التي تجعلك تنسى ..أو يصدمونك كهربائياً فتخرّ بين أيديهم بعد أن يقيّدونك طبعاً ..فيصيبك الإرجاج والاختلاج وتهتزّ كل علائقك وتترسّب ذكرياتك المقلقة حتى قيعان نفسك ..ثم يغربلونها عبر مسامات جلدك ..حتى تصبح خفيفاً ونظيفاً من أثقال ذكرياتك

أو يُجْرُون لك غسيلاً للدماغ ..ليصبحَ فارغاً من أدران ذكرياتك

إن ما يسمّونه شفاء الذكريات هو نوعٌ من الإقناع بأن كلّ ما فات مات ..ولنبدأ من جديد انطلاقاً من الأمر الواقع

فيسقط مفهوم الإنتقام

ويُلغى ما يسمّى بالثأر

والعين ليست بالعين ..إنما العين المفقوءة والمقلوعة يمكن تغطيتها بنظارة سوداء ..والعين الثانية تكفي ..وإن فُقدَت العينان معاً فهنالك برامج حديثة لتأهيل المكفوفين وهي كافية

وهكذا ينسى اليابانيون هيروشيما وتصبح نوعاً من تجارب السلاح الناجحة ..وينسى السود قصة التمييز العنصري وترّهاته

وتُنسى كل النكبات والنكسات والمذابح ..وقِس على ذلك

وينسى كل ذي حقٍّ حقّه

كبدايةٍ جديدة اعتباراً من الواقع الذي نعيش



الذكريات المؤلمة أشبه بطلقات نارية أصابتك ولم تقتلك ..فغدوت جريحاً بها ..وقد تنزف منها لتوّك ..فإن أُسعِفْتَ إلى مشفىً سيستأصلون المقذوف ..ويخيطون الجراح فتندمل حسب المفهوم الطبي (بالمقصد الأول )

ويبقى التحقيق جارياً لمعرفة نوع المقذوف ومن الذي قذفك به

وإن أسْعِفتَ إلى بيتٍ عشوائي (خوفاً من تبعات الإصابة )..سيعالجونك بالكي واللبخات الطبيعية ..ويتركون الجرح مفتوحاً ليندملَ ذاتياً (بالمقصد الثاني ) وفق المفهوم الطبي

وهنا قد تبقى الطلقة في جسدك كذكرياتٍ معدنية لا تصدأ ..وتظهر بيّنةً على الأشعة السينية ..وقد تذهب معك إلى قبرك كعضوٍ من أعضائك الدخيلة

لذلك اخترعوا الرصاص المطاطي حتى لا يغدو في عداد الذكريات

أما النيران الصديقة فهي ذكرياتٌ من نوعٍ آخر ..

والصفعة على الفم ليست مشكلة ..هي تماسٌ مباشر بين شفاهكَ واليد التي تلطمك ..لكنّه تماسٌ سريعٌ فقط !

لذلك لا فرق بين ممارسة الحب والاغتصاب ..ما دام الأمران لهما نفس النهاية ..والقذف هنا يجب ألا يكون مذموماً ..والحمل واردٌ في الحالتين ليزرعَ فيكَ ذكرياتٍ بغيضة أو سعيدة يتوجّب حملها كورمٍ سليم أو خبيث ..وكيف ستتمُّ معالجة الحمل ؟

أما باستئصاله إجهاضياً

أو بتركه ليترعرع ذاتياً ويولد لاحقاً كطفلٍ يؤرّخ موعد الإلقاح المجيد ..وهكذا تتناسل الذكريات من جديد



ويبقى يوم العيد لتجديد الذكرى ..وإعادة طقوس المأساة

فيقولون الذكرى السنوية العاشرة لكذا ..والذكرى الألفية لحادثة كذا ..على مبدأ ألا تنسى ..لتبقى الجراح مفتوحةً عبر الأجيال ..ويرث الأفراد والعائلات والشعوب والأمم والطوائف الثأر الذي سيتم تحقيقه ..والدّين الذي سيتم تحصيله

ويقولون لك مهما كان الثمن

والثمن أنت الذي ستدفعه ولو بعد حين ...ألا هل بلّغت !!

***************************

ملاحظة :

هنالك مؤسسة ( لشفاء الذكريات) موجودة في أميركا ..أعلن عنها في عام 1999 ابحث عنها إن أردت العلاج !!!

وهنالك اختصاصٌ جراحيٌّ جديد اسمه (الجراحة الروحية )..أعلن عنه في الهند ..ويقوم أيضاً باستئصال الذكريات المعنّدة .

*************************

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى