بثينة إدريس - اللحظة الباقية

ابتسمت سراُ وأنا أردد " الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا من غير حول ولاقوة منا " ورحت ألملم بقايا الطعام من على الأطباق ، تماما كما ألملم لحظة غضبى متلفحة بالبسمة قال منفعلاً:

هيا قرري الآن .. لاوقت لدي ..

إما الاستمرار .. ! إما البدء من جديد .. ! أو الافتراق .. !

تجاهلت ما قاله، وأنا أحمل بعض الأطباق باتجاه المطبخ ، وقلت بصوت يعلو على صوته:

" اللهم أحفظها نعمة وأدمها من الزوال " .

عاد وكرر كعادته ثلاث :

هيا .. فقد اتفقنا أن يكون القرار بعد الغداء ..

تنحيت جانباً أفسح له الطريق إلى الحمام وأنا لازلت أتفقد ملامح وجهه أبحث عن شئ ما ، وهو منكس الرأس والعينين ، فلم يجرؤ على صد نظرات عيني أو حتى ترك العنان لعينيه لتلتقي وعيني .

تبسمت مرة أخرى بصمت !! فقد كان ما يكمن خلف ابتسامتي ذكرى يوم إصراره على اختياراته الثلاث لقراري .. يوم أن فاجأته يجلس وحيداً بعد خلافاً لنا ، وقد كان يفكر بصوت مسموع فلم يشعر بدخولي إلى الغرفة ، كان يردد :

يارب تلزم الصمت .. يارب يكون قرارها الاختيار الثاني وترفض الافتراق.

لحظتها تنحنحت إثباتاً لوجودي داخل الغرفة معه .. تلعثم .. ثم ارتبك .. ففقد توازنه ونظر إلي ، ثم لم يجد بداً من الضحك ، فقهقهنا سوياً وضحكنا كثيراً في ذلك اليوم ، فلم نتمالك أنفسنا وحتى نسينا في غمرة ضحكاتنا كل شئ غير جميل ، نسينا خلافنا وكان تتويج تلك اللحظات الجميلة دعوة عشاء خارج المنزل ..

منذ تلك الليلة ونحن كلما غضبنا أو تشاجرنا وهممنا بالفراق ، تذكرنا ذلك اليوم فتغتصبنا الضحكات من دواخلنا وننسى في عمقها خلافاتنا وغضبنا من بعضنا..

ها أنا أتذكر وهو كذلك يتذكر .. لذلك لا يقوى على مواجهتي أو ترك عينيه لحضن عيني وحتى لا تراوده لحظة الذكرى عن نفسه ، فتحتويها ابتساماتنا وضحكاتنا ونعود مرة أخرى بغير خصام ..

خرجت من لحظة الذكرى وسندت باقي اللحظات لئلا تسقط من علو الخصام وتنهار ، وكنت قد فرغت من لملمت بقايا الأطباق .. ثم سكبت في جوفي قليل من الماء ثم رددت " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " مرات ثلاث .

كان كل شئ يسير بهدوء تام ، فقد لزم الصمت منذ دخولي إلى المطبخ لصنع الشاي .. تساءلت هل هو هدوء ما قبل العاصفة ؟؟ أم بركان خمد ؟؟ يممت وجهي إليه وأنا أناوله كوب الشاي ، قلت له مشاكسة لأجل لحظات مستديمة من الود والبقاء :

تفضل .. يا حبيب العمر المراوغ ..

يبدو أنني قد دست على زناد التأهب والغضب بدون أن أشعر ، فقد شمر عن اندفاع كلماته ليقول لي منفعلاً :

لست مرواغ .. لست مرواغ .. لست مرواغ ..

كررها ثلاث ، ثم لزم الصمت برهات وشخص ببصره ثم عاد ليواصل انفعاله وقال :

لأني أطالب ببعض العدل.. بتحديد قرار ، أصبحت مراوغاً .

وعاد إلى شروده ورحيله ببصره وعقله .. وقد يكون لقلبه مكانا في تلك الرحلة فضلت أنا الأخرى الصمت ، ولكن طال أمد صمتي قليلا عن لحظات صمته ، عله يهدأ بعض الشيء فقد عدت أدراجي إلى بعض شئوني بالمنزل ، فهو يريد أن يختلق شيئاً من اللاشئ، يريد إضرام ناراً بغير ثقاب ، يريد ان يلتهم وريقات الذكريات الجميلة التي بيننا.

فكلما أسررت له بشوقي لباسم أبننا ، حين زياراته إلى جدته أضرم لي ناراً ، لا يريد قط أن ينسى أن اسم ابننا " باسم " هو اسم زوجي السابق وصديق عمره ، الذي مضى على وفاته عشر سنوات ، تثيره كلمات الحنين إلى صغيري باسم ، رغم انه هو من اختار له هذا الاسم وفاء لصديق عمره الراحل "باسم ".

كلما ذكرت له شوقي لصغيري ، هددني بتلك الاختيارات الثلاث :

إما الاستمرار ‍‍..‍‍‍‍‍‍‍‍ أو البدء من جديد .. أم الانفصال ..

فإما الاستمرار على عدم ورود كلمة الشوق لباسم على لساني .

أو البدء من جديد بغير حنين لباسم .

أو الافتراق لأجل باسم .

وقد طلبت منه مراراً كحل حاسم لما يحدث بيننا من خلافات ، أن يغير اسم باسم .. ولكنه دائم الرفض ، وتدور دورتنا إلى خلاف آخر .

عدت إلى مجلسي في الغرفة .. وقد توصلت لقرار حاسم ، يقطع دابر خلافات الذكرى وقد اكتسى وجهي عن ابتسامة رضى لقراري وأنا أقول له :

لقد قررت ..

تأهب مشدوهاً ، تعلو وجهه مسحة خوف وريبة من قراري الذي قدمت به ، طال صمتي وطال تأهبه وازدادت مسحة الخوف انتشارا في وجهه البريء .. فقال :

ها .. ماذا قررت ..؟ ماذا قررت ؟؟ ماذا قررت ؟؟

أعاده سؤاله ثلاثاً فمن عادته أن يعيد أي حديث أو كلمات يقولها ثلاث، لذلك تساءل ثلاث مرات وعدل من جلسته.. وقد تسللت مسحة من الخوف إلى حلقه.

ولكي أثير من قلقه واستفز به مكامن الخوف والريبة ، حركت شفة واحدة فقط. واحدة لأرى من خلف كلماتي المنحدرة نحو قلبه ردات الفعل في ملامح وجهه .. ثم قذفت بالكلمات في وجه طفل .. هادئ .. وديع .. محب لحنان أمه لا يريد مفارقته .. يهددها بأن يغضب .. ويشهر سلاح الخصام ويقول لها أنا لا أحبك ماما .. لكنه دائماً يعود ليلوذ في حضن حبها وحنانها المتدفق .. يرتوي من نبعه .. يهدئ ثورات جنونه حين الخوف ويثيرها حين المشاكسة والتحرش بها .. قلت :

نغير اسم باسم وهذه المرة قرار بلا تراجع ، ولأنني أعرف وفاءك واخلاصك لصديقك ، ثم رفضك لتغير اسم باسم .. فقراري هو أن نغير اسمه في تعاملنا ومناداتنا له .. وتخاطبنا معه وتبقى حقيقة الاسم في الهوية ..

كررت عليه ما قلت ثلاث ثم قلت :

هذا قراري ولارجعة فيه .. هذا قراري ولارجعة فيه .. هذا قراري ولارجعة فيه.

باغتته عينيه بنظرة نحو عيني وبغير أن نشعر اجتذبتنا الضحكات من داخل القرار .. فضحكنا .. ضحكنا كثيراً .. حتى نسينا في لحظة الذكرى ماكان بيننا من مبعثرات خلاف .. ولكننا أبدا لم ننسى "باسم " سر خلافنا وسر ضحكتنا ولم ننسى أيضاً " لحظة الذكرى" يوم أن تناهى إلى مسمعي دعواته بالأ أقرر وإلا أختار سوى الاستمرار ..

حتى تعالت ضحكاتنا من جديد .. وارتشفنا الشاي وعدنا لممارسة الضحكات بغير اختيارات ثلاث .. سوى اختيار أن يكون اسم باسم منذ تلك اللحظة " حاسم".

* عن القصة السورية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى