عبد الواحد كفيح - تابوت طائر

من حين لآخر كان يظهر لها من الود والحب والحنان ما يجعلها تهفو إليه .حسناء قبيلته ‏تسر الناظرين . اختار هذه المرة أن يظهر لها بزي الفارس المغوار، متقمصا شخصيات أجدادها ‏الأشاوس الذين طالما حدثته عنهم، تماما كما يحلو لجدتها من أبيها، وصفهم . لهذا الغرض، ‏ارتدى جلبابا أبيض قديما و سلهاما وامتطى صهوة فكرة "الحريگ" وشرع صدره وأفكاره على ‏مصراعيها للرياح الأربع تدفع به جهة الشمال. .يلف العالم لفا ويجوب الآفاق . قد يظفر بها ‏ويصبح فارس أحلامها، ولو في المنام ، سيعود منتصرا على كل الحواجز الضاربة جذورها ‏بأعماق العرف والتقاليد : المال والنسب و السمعة والفقر والآباء والأجداد وشجرة الأنساب . ‏أصابه الدوار ، كيف باستطاعة، بل من أين لهذا الحارس الأمين القدرة على ترك أيقونته بين ‏أحضان وغدر المتربصين سيموت ببلاد الغربة هما و غما ونكدا . تراءت له عروسا تتهادى، ‏بالحناء مخضبة البنان، موشومة مطرزة بالعقيق والموزون اللماع والودع واللوبان والنقرة ‏الحسنية. من على ظهر فرس مطهم أصيل يعود ربما لملكية أحد الأجداد ورثوه، بالسيف، من ‏عهد السيبة ..فارسة شامخة تطوف بها غيد حسان تزفها عصافير مرفرفة كما حواء، الجدة، ‏يوم أغواها الشيطان فأرسلت إلى هذه الأرض على وجه السرعة لتذيقنا من صنوف العذاب ما لا ‏يتسع له مجال . بيدها سلة كرز وعنب وأزهار .. يعدو باتجاهها فائزا للهرب بها لوحده وسط ‏اعزارى الدوار، كما هي تقاليد القبيلة ويطلق أب العريس كما هي تقاليد القبيلة طلقات البارود ‏من بندقية "بوحبة" إيذانا بانطلاق الأفراح إلى متم الأسبوع، كما هي عادة القبيلة ،لكن إحدى ‏هذه الطلقات تصيب العروس في مقتل، تخر بين أحضانه مدرجة بالدماء. أحس بالسائل دافئا ‏يتدفق بين النحر والصدر، سمع صوت قنبلة يدوي برأسه، يرج جمجمته اشتم رائحة البارود ‏تعفرت مناخيره عطس، بزق، ، تفل،داخ، لعن اليوم الذي ولد فيه . الحاصل من هذا نسي كل ‏شيء واستعد لـ شيئ واحد ووحيد : أن يكتب لها رسالة : ليخبرها بمغامرته إلى بلاد الثلج ‏والضباب، يذكرها بطارق بن زياد. من هناك سيكتب لها خطبة كتلك التي أحرق على إثرها جدها ‏طارق أوراق وقوارب مرافقيه . المصيبة أنه ليس بكاتب رسائل ، لم يكتب طول حياته رسالة قط ‏ولم يتلق رسالة ، عفوا فهو لا يعرف خربشات تلك الحروف الأبجدية ، رآها مرة واحدة من خلال ‏نافذة القسم الوحيد الموجود بالدوار .شدته فكرة كتابة الرسالة، حار في الأمر، فهي مثله لا ‏تعرف القراءة والكتابة . الرسالة لا تكتسب قيمتها إلا من هناك ، هكذا عاوده الإصرار على كتابة ‏الرسالة، وماذا تحمل الرسائل؟ كل الناس يكتبون رسائل. ماذا بهذه الأغلفة المغلّقة ؟ المهم ‏سيكتب لها رسالة من هناك من على قوارب الموت ..من تحت ماء اليم ...من بطون سمك ‏القرش....المهم رسالة من هناك، قد تحملها عروس البحر أو جنياته أو فيروز الشطآن لا يهم ‏فللبحر سعاة بريده . غاب عن الأنظار، طار الخبر في الدوار، ااستفاقت هذا الصباح على الخبر ‏السار.لم تكتب له رسالة ولكن من طول انتظار..تعجل السارد وقال: ‏
‏« صبنتُ كل صوف القرية بأدمعي وغزلته على مغزل الأماني و برموش الأعين خطتُ ‏لأحلامي فراء دافئا يتسع لصدر حبيبي .‏
‏ كل ساعات الناس وساعتي سواء إنما ساعتي رعناء لا تضبط الوقت بانتظام ، ولا لتقطع ‏الزمن إلى دقائق وثواني بل إلى موعد مع خفقان قلبه ودقات قلبي .»‏
علقت آمالها على مشجب العودة ، سوت آهاتها ولواعجها على تيار دبدبات كل نسمة ‏صباح، تبعثها عبر الأثير ، تتحول في مخيالها إلى معسول الكلام ، تذكرها بالحمص المالح زاده ، ‏مكرها، في قوارب الموت.‏
اهتزت القرية لعودة الغائب ، لم تنبس ببنت شفة، لا أحد يعلم .وصلت قافلة التوابيت ‏الطائرة ، وكان نصيب القرية منها واحد . فتحوه ، وعوض أن يجدوه ، حاروا في الأمر، فبداخل ‏التابوت عثروا على مظروف وسع رسالة مكتوبة ببياض ناصع البياض .‏

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى