هشام آدم - بطاريق سان لامبير

قبل هذا اليوم بأسبوعٍ، كنتُ -في منزلي ليلًا- أُطارد آخر الحشرات الزَّاحفة، التي نجت من مسحوق الآفات القاتل. إنَّه الآن يومٌ باردٌ، والنَّاس يتساقطون في الشَّوارع المُغطاة بالثُّلوج، وآخرون يمشون بخطواتٍ حذرةٍ تجعلهم -مع منظر تلك الثُّلوج، وسُترات البرد الغليظة- يُشبهون البطاريق. حتَّى أزهار الإستر البنفسجيَّة في جادة القدّيسة مارغريب -التي كنتُ أُغازلها في طريقي إلى مدرسة اللُّغة الفرنسيَّة- اختفت تحت طبقةٍ غليظةٍ من الثُّلوج العنيدة.
أمضيتُ نصف الوقت وأنا أُدخن سيجارةً تعلَّقت عفوًا بين شفتيَّ، دون أن أتمكَّن من إخراج يديَّ من مخبئهما الدَّافئ داخل سُترتي الشتويَّة. وبعينين باردتين رُحت أُراقب العابرين، والرَّاكضين للحاق بالباص رقم 12 الذي لا ينتظر كثيرًا. لم أكن قادرًا على التَّفريق بين الأدخنة التي تخرج من بين شفتيَّ المُرتجفتين: أيُّهما تحمل مذاق النيكوتين، وأيُّها تحمل حرارة جسمي. كنتُ أشعر أنَّني بحاجةٍ إلى تدخين سيجارٍ كوبي لا ينتهي أبدًا، لأنَّني كنتُ أشعر بالعطش الشَّديد، والتَّدخين هو الفكرة التي تبدو أكثر ملائمةً للارتواء؛ لاسيما في مثل هذا الجو القارس، فمُجرَّد التَّفكير بالشَّراب في جوٍ كهذا، أشبه بفكرة الانتحار بطعن نفسكَ بمُديَّة حادةٍ في القلب مُباشرةً.
لم يكن بوسعي رفع بصري إلى السَّماء، التي كانت تقذف ندفًا من الثَّلج، مع بعض الرَّذاذ البارد. ولم يكن بإمكاني -أيضًا- رؤية ما يبعد عني عشرة أمتار. خطرت في بالي فكرةٌ لا أُريدها أن تخطر ببال الله مُطلقًا. فلو أنَّه وقَّتَ لقيام السَّاعة في جوٍ كهذا، لم يكن لينجو أحد. وأرى أنَّها فكرةٌ سيئةٌ جدًا.
ممرَّات مبنى الميدياماركت، المواجه لساحة سان لامبير -وسط مدينة لييج- استحالت إلى ما يُشبه ملاجئ لمدنيين فارين من قصفٍ عشوائي؛ إذ تجمَّع المئات داخلها طلبًا للدفء؛ ولم يكن من الصَّعب أن ترى في أعينهم الخوف، رغم ضحكات بعضهم المُتعالية. الجو البارد يُداعب أعضاءنا التَّناسليَّة في مخابئها الدَّافية برقَّةٍ ماكرةٍ، فتطفو سماتنا البدائيَّة التي أخفتها عوامل التَّطور الطَّويلة والهشَّة. نعتقد أنَّنا نهرب من الاكتئاب الشُّتوي بعقد علاقاتٍ يبدأ أغلبها بالحديث عن تغيُّر الجو الطَّارئ، ولكنَّنا -واقع الأمر- نبحث عن الدّفء في التصاقنا بالآخرين. ننقل إليهم حرارة أجسادنا عبر القبلات، ونأخذ منهم حرارتهم كذلك. كُلَّما نظرتُ إلى جهةٍ ما، وجدتُ شابًا وفتاةً مُستغرقين في القبلات، يُمارسان التَّدفئة، ولكنَّني لم أكن مدفئتي الخاصة.
ساحة سان لامبير لم تخل من الطَّائشين، الذين راحوا يتراكضون وسط السَّاحة، وهم يتراشقون بكُرات الثَّلج. وكان طيشهم -بطريقةٍ جدليَّةٍ- يُوحي لي بالدّفء والبرودة في آنٍ معًا. فحركتهم وضحكاتهم تُوقظ شهوري الدَّفين بالحيويَّة، ومنظر وجوههم المُحمرَّة المُلطخة بالثَّلج تجعلني أشعر بأنَّني عارٍ في هذا البرد.
المُتسول عازف الأكورديون العجوز، والذي لا يعرف أحدٌ عِلَّته، كان -كعادته- يعزف لحنه اليومي المُميَّز، أمام محلَّات سترينج، دون أن يتوقَّع شهادةً من أحد. بينما كان المكان الذي يشهد لقاءاتنا -أنا وحبيبتي- خاليًا تمامًا، وكأنَّه لم يُوجد إلَّا لنا نحن فقط. كنتُ أنظر إلى تلك البُقعة العزيزة من ساحة سان لامبير، وأتخيَّل وُجودها الأنبيق، وأخشى عليها من صقيع كانوا الثَّاني، وأنا أُحاول أن أنقل إليها دفئي الدَّفين، وأطبع على جبينها قُبلة الامتنان المعهودة.
لم تأتِ اليوم، لأنَّها ستأتي غدًا. أنا هنا لغرضٍ لا علاقة له بالرُّومانسيَّة على الإطلاق، فلستُ من الذين ترتبط لديهم الأمكنة بالذِّكريات، ولستُ من عُشَّاق الأمكنة أصلًا، ولكنَّني هنا اليوم في انتظار فتاةٍ أُخرى! من المُفترض أن تأتي من ناحية دار الأوبرا، وبعدها سوف نذهب إلى ساحة القدّيس ليبولد، وللمرَّة الأولى سوف أسير -معها- في أزقَّة ذلك الحي القديم الذي تكلأهُ اليونسكو بالرِّعاية والحصانة.
على أعتاب انتظاري المشوب بالكثير من التَّذمُّر، كانت التَّوقعات ترتع في مُخيلتي كأحلام المُراهقين، لتجعل من الانتظار فكرةً أخلاقيَّةً جيِّدةً ومقبولةً إلى حدٍ بعيدة. ورغم أنَّها لن تكون المرَّة الأولى سوف ألتقيها؛ إلَّا أنَّه سيكون لقاءً محفوفًا بالتَّشويق والإثارة.
من وراء ضباب مداي البصري الضَّيق، وبالقُرب من مكتبة (فناك) ذات الملامح البرجوازيَّة، رأيتها آتيةً، وهي تمشي بمهلٍ مُحترس، كبقيَّة بطاريق سان لامبير، وكان وجهها مُشرقًا كنبوءةٍ مُتحققة. ما أن رأتني حتَّى لوَّحت بيدها قبل أن تصلني. قبَّلتني بسرعةٍ، وهي ترتجف من البرد. كوَّرت قبضتيها، ونفخت بين يديها المحتجبتين خلف قُفَّازين صوفيين، وهي تقول بحماسٍ شقي: “إنَّه يومٌ باردٌ؛ أليس كذلك؟” لم يكن سؤالها جادًا، فلم تنتظر مني تفاعلًا أكثر من ابتسامةٍ مُؤكِّدةٍ، ولم أجتهد في الإجابة؛ فمن الواضح أنَّه يومٌ بارد!
أمضينا بعض الوقت دون أن نفعل شيئًا ذا معنىً. كُنَّا نفرك أيدينا، وننفخ في قبضتينا بين الحين والآخر، وننظر إلى العابرين، وكأنَّنا نتوقع حدوث شيءٍ ما. اكتشفنا بعدها أنَّنا كُنَّا في انتظار أن يبدأ أحدنا خطوته الأولى نحو مشروعنا المُتفق عليه. ابتسمنا لهذا الاكتشاف الذي أكَّد لنا مخاوفنا الخبيئة. أحسستُ برعشةٍ أُخرى -غير رعشة البرد- وأنا أسمعها تقول: “هيَّا بنا!” ومن المُؤكَّد أنَّها عرفت ذلك، فابتسامتها الغامضة لم تُبارح وجهها المُجمَّد؛ حتَّى بعد وصولنا مقهى (نقطة ساخنة) الشَّهير. توقفنا عند الإشارة الضَّوئيَّة الخاصة بالمُشاة، حيث يتجمَّع العشرات كسرب إوزٍ برِّيٍ مُدرَّب.
في لحظةٍ فارقةٍ، وفي خطوةٍ اعتبرتُها جريئةً ومُفاجئةً، أمسكت يدي؛ وهي ما تزال مُحتفظةً بابتسامتها الغامضة. نظرت إليَّ مُباشرةً؛ فابتسمتُ لها بعنفوانٍ ذكوريٍ ليس من شيمتي، وأخفيتُ -عمدًا- سعادةً قرويَّةً كانت تُناضل لتطغى على ملامح الحبيب الخائن الذي كان يتلبَّسني.
بالنسبة إلينا؛ لم يكن يعنينا كثيرًا أن نُصنِّف رغبتنا تلك تحت أيَّ مُسمَّىً على الإطلاق، ويبدو أنَّنا اتفقنا سرًا ألَّا نجعلها رغبةً بقدر ما هي حاجةٌ ماسةٌ لكلينا، وطارئةٌ بالقدر الذي يجعلنا لا نستشعر الخيانة واللَّوم. قبلها بسنواتٍ طويلةٍ جدًا، كانت إحدى زميلات الدِّراسة تُحذرني من حدس النِّساء الذي يفوق كُلَّ توقعُّات الفيزيقا، ولم آخذ كلماتها على محمل الجد ذلك الحين.
كانت نزعة التَّجريب تعبث بهرموناتي الذُّكوريَّة، وتشدُّني من تلابيب البروستاتة قسرًا، وكأنَّها شهوة التُّفاحة المُثمرة: مُثيرةٌ ومُحرَّمة. أخبرتني باتريسيا موريس عن حاجتها إلى التَّجريب أيضًا، وكانت توقُّعاتها فقط كفيلةً بإسالة لُعابي، وإقناعي بالأمر. كلانا كُنَّا مُنقادين بحماسةٍ لا تعرف الهوادة، ولا تعترف بأيَّة اعتباراتٍ أُخرى. كان بالإمكان تصوير الأمر وكأنَّه لُعبة قمارٍ بعُملةٍ مُزيَّفةٍ، لا أحد يخسر فيها شيئًا. في جانبٍ بليدٍ من دماغي اعتبرتُ الأمر مدخلًا إلى حياة بلجيكا السِّريَّة، كالدُّخول من الباب الخلفي للجنَّة.
لم تكن شهوة الجنس والتَّجريب وحدهما اللَّتان تقودانني إلى ذلك؛ بل كانت ثمَّة شهوةٌ أُخرى لم أكن مُستبصرًا بها كما ينبغي، ولكنَّني أردتُ أن أشعر بتلك النَّرجسيَّة التي تحدَّث عنها الطَّيب صالح في روايته (موسم الهجرة إلى الشَّمال). قبل أن نبدأ قمارنا، أغلقتُ هاتفي الخلوي، بينما نظرت إليَّ؛ وكأنَّها تُريد تخطِّي آخر العقبات:
– هل ستُخبر حبيبكَ بهذا؟
– ثمَّة أشياء لا يجب أن تُقال. لو قلنا كُلَّ شيءٍ لخسرنا كُلَّ شيء!

تلك الأمور التي نفعلها في الظَّلام والخفاء أكثر مُتعةً ولذَّةً، لأنَّها تحمل رائحة المُغامرة، وتهب الشُّعور بالاقتناص. هذا بالتَّحديد ما انتابني وأنا أرى خارطة لييج على مبنى البلديَّة الشَّاهق مُمدَّدًا على السَّرير، بعد أن تمَّ كُلُّ شيء. للييج رائحةٌ نادرةٌ ومُميَّزةٌ لا يشتمُّها إلَّا من ألف هذه المدينة جيدًا، واعتاد الجلوس على أرصفة ساحاتها، والمشي تحت سمائها المُمطرة. رائحةٌ أليفةٌ ووادعةٌ؛ كرائحة مشروب اللييجوا نفسه، بطعم البرتقال والرُّمان. كانت الرَّائحة تتسلَّل إلى أنفي، وتُداعب خلاياي العصبيَّة؛ عصبونًا تلو الآخر، بينما كانت باتريسيا موريس ترتدي ملابسها، وتُعيد ترتيب الفِراش والأحذية، قبل أن تسألني ما إذا كنتُ أحب تناول قطعةٍ من الشُّكولاتة المنزليَّة السَّاخنة.
كانت صورة حبيبتي -وهي واقفةٌ في بُقعتنا المُقدَّسة في ساحة سان لامبير- تُطاردني، كطيف مقتولٍ يُلاحق قاتله، ويدفعه إلى الجنون أو الانتحار، وكنتُ أُكافح بجَلَدٍ مقدونيٍ في هشِّها، مُحاولًا الانشغال بأي شيءٍ آخر. أمضيتُ مع باتريسيا تلك الليلة، وكنتُ كُلَّما تذكَّرتُ أنَّه قد لا تسنح لي فرصةٌ أُخرى كهذه قريبًا أو للأبد، أزداد شرهًا لها؛ حتَّى أنَّها وصفتني -مُداعبةً- بالبيسون الأفريقي.
في صباح اليوم التَّالي؛ كنتُ مُنهكًا تمامًا، وأشعر بالخدر والتَّصلُّب في أطرافي. ارتديتُ ملابسي بتمهُّل من لا يملك حُريَّته. رميت جسدي على أريكةٍ قريبةٍ، وبدأتُ في تجهيز التِّبغ للف سجائر تكفيني لهذا اليوم. كانت شمس كانون الثَّاني -فوق سماء لييج- تُحاول جاهدةً أن تهرب من مُطاردة السَّحاب، الذي شغر كُلَّ المساحات تقريبًا. ورائحة مشروب اللييجوا ما تزال مُعلَّقةً في شعيراتي المُخاطيَّة، وتمرح في مُخيلتي كتذكار خطيئةٍ حميمة.
بطاريق سان لامبير ما تزال تمشي على مهلٍ، مُدجَّجةٍ بملابس الشِّتاء الثَّقيلة، تنفث من أفواهها أبخرتها الكثيفة. توجَّهتُ إلى البقعة المُقدَّسة؛ حيث تنتظر حبيبتي هناك. كنتُ أشتاق إليها كثيرًا، برغم كُل شيء. عندما نُخطئ في حق شخصٍ نُحبه؛ فإنَّنا نُحبه أكثر. كثيرًا ما نشعر بحب غامرٍ واستثنائيٍ تجاه الذين نخونهم؛ لاسيما إن كانوا لا يتوقعَّون ذلك، أو إن كُنَّا نعلم أنَّهم لا يستحقون منَّا ذلك.
لسببٍ غامضٍ ومُلغزٍ كنتُ أردِّد عبارةً اخترعتها وأنا أهمِّ بالخروج من منزل باتريسيا: “المقتول هو الوحيد الذي يعرف هويَّة القاتل على وجه الدِّقة لا التَّخمين.” لم يكن ثمَّة تفسيرٌ منطقيٌ يُبرّر صياغتي لهذه الفكرة في ذلك التَّوقيت؛ إلَّا أنَّني رحتُ أردِّد الجُملة بلحنٍ عسكريٍ صارم.
كما أميرات الثَّلج، كانت حبيبتي تقف بكبريائها الذي عرفتها به مُنذ أن تلاقينا -مُصادفةً- أمام محطة قطار (قار دو نورد) في بروكسل، في طريقنا إلى مفوضيَّة اللاجئين. ابتسمت في وجهي قبل أن أصل إليها، وراحت تُحرِّك قدميها بطريقةٍ تمثيليَّةٍ مُضحكةٍ، وتضربهما على الأرض من تحتها بالتَّتابع، وهي تقول: “تمشي كما البطاريق؛ حبيبي!” عانقتها بشدَّة، وأنا أضحك على المُفارقة، وأُكلِّمها عن بطاريق سان لامبير، ولكنها أبعدتني عنها برفقٍ:
– أين كنتَ بالأمس؟
– أين سأكون حبيبتي غير أن أكون في منزلي؟
– ولكنني اتصلتُ بك كثيرًا، وكان هاتفكَ مُغلقًا.
– صحيح. نسيتُ أن أشحنه فقط.

نظرت إلى عينيَّ بعُمقٍ مُربكٍ، ومرَّرت يدها على شعري ووجهي، وهي تقول، وكأنَّها تُكلِّم نفسها: “أنتَ تكذب.” تظاهرتُ بالبراءة، وأنا أقول: “أأكذب عليكِ بشأن هاتفي؟” كانت تتفحَّصني جيدًا، حتَّى شعرتُ بأنَّني سوف أنهار أمامها، وأذوب قبل موسم الذَّوبان. تذكَّرتُ مقولة والدي التي صاغها مُستفيدًا من تجاربه الفاشلة في الكذب على أمي، تلك التي منحته حكمة أواخر العمر: “المرأة لا تشكُّ عندما تَسأل، ولكن عندما نُجيب نحن.” لذا فلم يكن لديَّ شكٌ بأنَّها تعرف كُلَّ شيءٍ، ولكنني كنتُ مُستعدًا للإنكار، واختلاق أيَّة مُشكلة إن هي أصرَّت.
نعم! نحن -الرِّجال- بارعون في ذلك، وكانت بذرة التَّفاصيل كُلُّها قد بدأت بالتَّخلُّق داخل جُمجمتي فعليًا، غير أنَّني أحسستها تعمَّدت تجاهل الأمر، ولم أشأ أن أضح نفسي بالإلحاد، بينما ظلَّت نظراتها العميقة تُشعرني بالإرباك، وتُطاردني كلعناتٍ شريرةٍ؛ فكنتُ أتحاشى النَّظر إليها مُباشرةً. انتبابني شعورٌ عميقٌ بأنَّها كانت تُعاملني كأمٍ غفرت للتَّو خطيئةً ما، لابنها الوحيد. الآن أقول: “من أراد أن يرى الكبرياء مُتجسدًا في أسمى صوره، فعليه أن يرى امرأة وهي تغفر!.
أشرق وجه حبيبتي كما لم يُشرق من قبل، وأصرَّت على أن نظلَّ معًا طوال اليوم، وأن نظلَّ مُتعانقين طوال الوقت. قبَّلتني كثيرًا ذلك اليوم. لم أكن أعلم أبدًا أنَّها قرَّرت -لسببٍ ما- أن يكون يومنا الأخير سعيدًا ورومانسيًا. أصرَّت على التَّسوُّق من محل (ديليز) القريب من ساحة سان لامبير، واشترت كُلَّ ما قد نحتاجه لتحضير عشاءٍ فاخرٍ واحتفالي، ولم تنس أن تشتري لي زجاجتي (شاتو روزون قاسي)؛ نبيذي المفضَّل. كانت كُلَّما حاولتُ منعها من التَّبذير والمُبالغة، أغقلت فمي بأصابعها، لتقول: “أريدها ليلةً مُميَّزة.” شعرت بأنَّها تجلدني بسياطٍ ناعمةٍ في قشرة القلب مُباشرةً، ورأيتها تذوي أمامي كنعقاء عنيدة، دون أن أتمكَّن من فعل شيءٍ حيال ذلك.
ليلًا؛ ورغم بُرودة الجو داخل منزلي، إلَّا أنَّها أصرَّت أن ترتدي ملابسها الصَّيفيَّة المُثيرة على العشاء. شربنا كثيرًا تلك الأمسية، ورقصنا، وضحكنا، ومارسنا الحب كما لم نُمارسه من قبل. وقبل أن ننام، سألتني بحنانٍ هو من أهم خصالها العتيدة: “هل استمتعتَ معي حقًا؟” لم أفهم مغزى سؤالها في وقته، ولكنَّني عندما استيقظتُ صباحًا، ووجدتُ رسالتها الوداعيَّة، فهمتُ كُلَّ شيء، ولكن ما لفت انتباهي في رسالتها هو ما جاء في السَّطر الأخير منها؛ حيث وضحَّت فيه سر اكتشفاها لخيانتي، والذي صاغته بعبارةٍ بدت لي مُبهمةً جدًا: “مشيتُكَ لم تكن تُشبه مشية بطاريق سان لامبير!”

* كاتب سوداني مقيم في مدينة لييج، بلجيكا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى