ألف ليلة و ليلة يعقوب يوسف الغنيم - ألف ليلة وليلة (2)

لا يكتمل حديثنا عن ألف ليلة وليلة إلا إذا تحدثنا عن أولئك الذين اهتموا بها من الأدباء العرب. ولن نجد أهم من الدكتورة سهير القلماوي، والأستاذ أحمد رشدي صالح لكي نتحدث عنهما بهذا الشأن، وذلك كما يلي:
أولاً: أحمد رشدي صالح، وقد تحدثنا عنه فيما مضى ناقلين عنه بعض الأفكار التي قدمها بشأن هذا الكتاب المهم من كتب التراث الشعبي.
ويعتبر هذا الأديب من أوائل المهتمين بالفنون الشعبية في بلاد العرب، وهو من مواليد سنة 1920م، وكانت وفاته في سنة 1980م، نشأ في محافظة المنيا، ودرس حتى تمكن من الالتحاق بجامعة القاهرة التي تخرج منها بقسم اللغة الإنجليزية سنة 1941م، كما تخرج من معهد الصحافة في سنة 1943م.
وابتدأ حياته العملية بعد ذلك فكان أول عمل قام به هو أنه صار مذيعاً في الإذاعة، ثم صار محرراً أدبياً في جريدة الجمهورية، وذلك في سنة 1957م، ثم بعد ذلك تم اختياره مديراً لمركز الفنون الشعبية بالمجلس الأعلى للفنون والآداب، ثم عين عضواً متفرغاً في مجلس إدارة مؤسسة المسرح، وانتقل من هذا العمل لكي يكون مشرفاً على مسارح الفنون الشعبية والفرق الاستعراضية.
وبعد كل هذه الأعمال استقال من وزارة الثقافة، والتحق بالعمل بالصحف مرة أخرى، وذلك بانضمامه إلى أسرة أخبار اليوم، فتفرغ بذلك للعمل في الصحافة.
ولقد كان اهتمامه بالفنون الشعبية اهتماماً كبيراً حتى لفت إليه الأنظار فانتخبته لجنة الفولوكلور الدولية التي تتبع منظمة اليونسكو عضوا بها عن المشرق العربي، وذلك في سنة 1967م.
أما في وطنه فقد أعيد تعيينه في سنة 1970م، مشرفاً عاماً على الفرق القومية للفنون الشعبية.
والتفتت جامعة الاسكندرية إلى أعماله هذه فمنحته جائزة في الأدب الشعبي تقديراً لجهوده التي بذلها طوال حياته.
وكانت له عدة مؤلفات منها ما هو في السياسة والتاريخ ومنها ما هو متعلق باهتمامه الأخير وهو الفنون الشعبية وله -أيضاً- اهتمام بكتابة القصة والرواية، والترجمة فقد ترجم أربعين قصة من الأدب العالمي.
وفيما يتعلق بمؤلفاته الخاصة بالتراث الشعبي فهي:
- الأدب الشعبي 1955م.
- فنون الأدب الشعبي 1956م.
- الفنون الشعبية 1960م.
- الفلكلور والعالم المعاصر 1972م.
- المسرح العربي 1973م.
وَكُلُّ هذا يكفي للدلالة على همة هذا الرجل الأديب، وعلى حرصه على أداء واجبه تجاه ما خصص أوقاته له من أعمال كان أهمها ما يتعلق بالتراث الشعبي.
ثانياً: الدكتورة سهير القلماوي، وهي احدى الكاتبات والأديبات الأوليات في مصر، وكانت من أوائل الدفعات التي التحقت بالجامعة، وفي سنة 1941م حصلت على الماجستير والدكتوراه في الآداب، وكان تخصصها في الأدب العربي، وكانت أول محاضرة تُعينُ في الجامعة، وهي من السيدات الأوليات في من شغلن منصب رئاسة قسم علمي، فكانت رئيس قسم اللغة العربية في جامعة القاهرة، ورئيسة الاتحاد المصري النسوي، ورئيسة الرابطة العربية للخريجات وقد نشرت لها مجموعة من الكتابات ضمن مجلدين بعنوان أحاديث جدتي، وهي تتضمن مجموعة من القصص القصيرة، مع درسات نقدية، وعدد كبير من تراجم أعلام الأدب.
والدكتورة سهير القلماوي، من مواليد القاهرة، وكان مولدها في اليوم العشرين من شهر يوليه لسنة 1911م، ولقد عاشت في القاهرة طيلة حياتها، وكانت قد نشأت في أسرة تفخر -دائماً- بتعليم بناتها، ومنهن هذه المرأة المجدة المنتجة.. ومن علامات جدها أنها انْكَبِّتْ على قراءة الكتب التي تضمها مكتبة والدها، فاستفادت منها فائدة كبيرة ولقد كانت هذه المكتبة غنية بأنواع الكتب من شتى المعارف، وكان مؤلفو تلك الكتب هم الذين صاغوا شخصيتها الأدبية، وصقلوا موهبتها، حتى رأيناها على مثل ما رأيناها عليه من مقدرة أدبية وفكرية.
وكانت إبان طفولتها عندما قامت ثورة سنة 1919م المصرية وحركت الشارع المصري بأسره بما في ذلك الفرع النسوي من هذا الشارع فظهرت النسوة المصريات إلى الشارع لأول مرة وشاركن في المظاهرات، وفي أنشطة الثورة المختلفة، وقد تأثرت سهير القلماوي في وقت مبكر بهذا النشاط الكبير، وكانت هدى شعراوي هي المثل الأعلى لها، ومعها صفية زغلول وهي شخصية مصرية قومية بارزة في ذلك الوقت، ومن ذلك الوقت، ولكثرة ما شاهدت من الأنشطة النسوية وحضرت من المناظرات فإنها اختزنت في ذهنها وفي ضميرها ما شكل بعض مبادئها المتعلقة بالحركة النسائية.
أنهت سهير القلماوي المرحلة ما قبل الجامعية في الكلية الأميركية للبنات وتوجهت إلى دراسة الطب، ولكنها لأمر ما لم تقبل في هذه الدراسة، فاتجهت بتشجيع من والدها إلى دراسة الأدب العربي، فتم ذلك والتحقت بالجامعة بصفتها فتاة شابة تتلقى الدراسة بين أربعين من الرجال، وتدرس الأدب العربي، وكان الدكتور طه حسين -آنذاك- رئيساً لقسم اللغة العربية بالجامعة، ورئيساً لتحرير مجلة جامعة القاهرة.
وقد اهتم الدكتور طه حسين بهذه الفتاة فجعلها مساعدة رئيس تحرير تلك المجلة في سنة 1932م. وبذلك حصلت على رخصة العمل بالصحافة وكانت أول امرأة مصرية تنال هذه الرخصة، وأضافت إلى ذلك نشاطاً إذاعياً فكانت تبث برنامجاً للبث الإذاعي من إذاعة القاهرة.
وحصلت على شهادة الماجستير، فَأُرسلَتْ في بعثة بحثية إلى باريس للاستعداد بأبحاث تعينها على الحصول على شهادة الدكتوراه وكان ذلك في سنة 1941م.
ومن بعد ذلك أنهت دراستها بالحصول على الدكتوراه فكانت أول امرأة مصرية تنال هذه الشهادة، وكانت من جامعة القاهرة التي احتضنتها منذ بداية دراستها.
وأنهت دراستها بذلك ثم ابتدأت في أداء العمل الموكول إليها فكانت أول امرأة مصرية تحاضر في الجامعة في سنة 1936م. ولم تتوقف عند ذلك، فسارت في طريقها العلمي والعملي حتى صارت أستاذة جامعية، وأدى ذلك إلى حصولها على مركز رئيسة قسم اللغة العربية في سنة 1985م.
هذا فيما يتعلق بعملها الرسمي الذي قامت به بناء على دراستها، وتخصصها العلمي في جامعة القاهرة، أما نشاطها الاجتماعي الواسع في خارج هذه الدائرة فهو متشعب ومنه ما يلي:
- كانت في سنة 1959م رئيسة للاتحاد المصري النسوي.
- وصارت بعد ذلك رئيسة لرابطة خريجات جامعة المرأة المصرية.
- أصبحت في سنة 1967م رئيسة للهيئة العامة للسينما والمسرح والموسيقى.
- وفي سنة 1988م صارت رئيساً لمجمع ثقافة الطفل، وكانت تسهم عبر عملها الأدبي في الدعوة للحفاظ على حقوق المرأة، كما تسهم في ذلك عبر المؤتمرات واللقاءات المتعلقة بالشؤون النسوية، وكان اهتمامها هذا قد أوصلها إلى رئاسة المؤتمر الدولي للمرأة في سنة 1960م.
إلى غير ذلك من الأمور المهمة، فقد كانت الدكتورة سهير القلماوي لا تهدأ بالا دون أن تعمل في المجالين الأدبي الخاص والاجتماعي العام.
وبعد أن قامت بواجبها من هذين العملين الأدبي العلمي، والاجتماعي؛ اتجهت إلى العمل السياسي، فصارت عضوا في البرلمان المصري في سنة 1958م ثم في سنة 1979م ثم في سنة 1984م. وصارت -أيضاً- رئيسة لإحدى الإدارات التابعة للهيئة المصرية للنشر والتوزيع، فعملت على نشر الكتاب والتشجيع على القراءة والإطلاع، واهتمت بتنمية صناعة الكتاب، وعندما جاءت سنة 1967م قامت بعمل كبير في هذا المجال يوم أسست -لأول مرة- معرض القاهرة الدولي للكتاب وهو أول معرض من نوعه في الشرق الأوسط، وأخيراً فإنها صارت رئيسة الهيئة العامة للكتاب منذ سنة 1967م حتى سنة 1971م، ثم وفي آخر أعمالها صارت رئيسة لهيئة الرقابة منذ سنة 1982م حتى سنة 1985م.
في مجال الأعمال الأدبية الكتابية كان للدكتورة سهير القلماوي دور كبير فقد أنجزت خلال مشوارها الإنساني ما يقرب من مئة من المنشورات تحتوي على أبحاث وقصص قصيرة وعلى أعمال أخرى متعددة، وقد يصعب الآن أن نذكر أو نستعرض جميع ما أنجزت، وذلك لكثرته ولتنوع الأغراض التي يبحثها، ولكن ما نستطيع أن نقوله هو أن إنتاج هذه الأديبة البارزة كان إنتاجاً غزيراً يشهد له القراء والنقاد حتى لقد قال هؤلاء: إن القلماوي علامة أدبية بارزة في الحركة الثقافية المعاصرة بمصر.
ونعود هنا لكي نقول إن ما كتبناه عن الدكتورة سهير القلماوي إنما جاء بسبب عرضنا في هذا المقال لكتاب ألف ليلة وليلة وهي وثيقة الصلة بهذا الكتاب. ذلك أن من أهم أعمالها كتابها ألف ليلة وليلة وكان هذا الكتاب هو الرسالة التي نالت بموجبها شهادة الدكتوراه، ونالت بسببها شهرة كبيرة لأن هذه الرسالة كانت متقنة من حيث هي عمل أدبي كبير وراق، وكانت من أوائل رسائل الدكتوراه التي تقدمها امرأة من مصر لجامعة القاهرة.
وسوف نعرض هذا الكتاب فيما بعد، ولكننا لا ننسى أن نشير إلى أن مجهودها الشخصي في تشجيع الأدباء الجدد، واهتمامها بهم وبتوجيههم، ومساعدتهم على نشر إنتاجهم وتوزيعه أمر لا يمكن إغفاله، ومن أجل ذلك فقد حصلت على جوائز يصل عددها إلى ثلاث عشرة جائزة منها جائزة مجمع اللغة العربية في سنة 1954م التي نالتها عن كتابها ألف ليلة وليلة وجائزة الدولة التقديرية في أدب الشباب سنة 1955م، وعدة جوائز تقديرية أخرى قدمتها لها الدولة منها ميدالية تقدير، ووسام الجمهورية من الدرجة الأولى في سنة 1978م، وأخيراً فإنها نالت الدكتوراه الفخرية من الجامعة الأميركية بمصر في سنة 1987م.
وبعد هذه الجهود الجبارة، والإنجازات الرائعة، والشهرة الكبيرة في جميع المجالات التي طرقتها، توفيت هذه المرأة العاملة المجدة في اليوم الرابع من شهر مايو لسنة 1997م.
لاحظنا أن كتاب ألف ليلة وليلة الذي نالت به الدكتورة سهير القلماوي شهادة الدكتوراه من جامعة القاهرة قد نال نجاحاً كبيراً، واهتم به القراء والنقاد على حد سواء، ونشر لأول مرة عن طريق دار نشر مصرية عالية القيمة هي دار المعارف التي طبعته في صورة جميلة تجذب القراء إليه، ثم أعيدت طباعته عدة مرات، ولايزال الإقبال عليه مستمراً، هذا وقد احتفت الصحافة المصرية به احتفاء شديداً، وامتلأت صفحاتها بعرضه والحديث عنه، وكان من أهم ما صدر في هذا السبيل مقال قامت بنشره جريدة الأهرام المصرية الشهيرة، وكان نشر هذا المقال في اليوم الثامن عشر من شهر أغسطس لسنة 2010م، وذلك بمناسبة صدور طبعة جديدة من كتاب الدكتورة سهير القلماوي الذي نتحدث عنه، وذلك بعد مرور أكثر من نصف قرن على الطبعة التي أصدرتها دار المعارف، ومما ورد في المقال المشار إليه ما يلي:
1 - تحدثت الكاتبة عن أصول الكتاب الذي هو موضوع بحثها، ولاحظت أن فيه كثيرا مما يدل على أصول مصرية في العادات، وفي الشخصيات التي تضمنها النص.
2 - كانت أول طبعة من طبعات ألف ليلة وليلة هي طبعة بولاق بمصر، وأن المستشرقين اهتدوا إلى هذا الكتاب عند الحصول على نسخة من هذه الطبعة، ومن ثم جرت ترجمتها وتم نشرها في الغرب.
3 - أكدت الكاتبة أن حكايات شهرزاد قد مرت بمراحل ثلاث أولاها هي مرحلة حكايتها على ألسنة الناس، والثانية هي مرحلة التدوين، وذلك بنقلها من نص شفهي إلى نص مكتوب وأما المرحلة الثالثة فكانت هي التي جرى فيها جمع تلك المدونات في مجموعات اتخذت فيما بعد شكل الكتاب الذي هو بين أيدينا.
4 - ميز ألف ليلة وليلة أنها دونت واحتفظ بها، وأن المستمعين إليها كانوا من طبقة راقية، جعلت لليالي ميزة على غيرها من فنون الأدب الشعبي.
5 - تستعرض المؤلفة في كتابها الموضوعات التي وردت في ألف ليلة وليلة بصورة عامة دون أن تلجأ إلى تفصيل كل حكاية على حدة وذلك لصعوبة الأمر، وهي ترى أن من أهم موضوعات تلك الحكايات ما يرد فيها من الخوارق، والإنسان يفكر في الخوارق -عادة- لأنه يخاف -بطبعه- من المجهول، وهذا ما جعل الحكايات تجمع بين المعتقدات الشعبية والروح الإسلامية.
6- تناولت الحكايات موضوعات تاريخية من حيث العصور ومن حيث الشخصيات المعروفة، ومن ذلك ما يتعلق بالمرأة ومدى انطباع صورتها العامة على من ورد ذكرهن في القصص.
7- لابد وان نذكر ان كتاب الدكتورة سهير القلماوي قد تعرض لنكسة كبيرة وهذا هو مجمل ما ذكره كاتب مقال الاهرام بهذا الخصوص موضحا الصورة التي كادت تهز الحكايات باكملها، يشار الى ان المستشار عبدالمجيد محمود النائب العام اصدر قرارا في يونيو الماضي بحفظ البلاغات المقدمة ضد رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة وبعض العاملين بالهيئة، بسبب اعادة طباعة ونشر مؤلف الف ليلة وليلة الذي اشار المبلغون الى ان فيه ازدراء الدين الاسلامي وخدش الحياء العام، وكذلك الدعوة الى الفجور والفسق واشاعة الفاحشة.
وكانت رابطة محامون بلا قيود قد تقدمت ببلاغ للنائب العام منذ ايام تطالب فيه بمحاكمة وزارة الثقافة والهيئة العامة لقصور الثقافة، لاعادة طبع رواية الف ليلة وليلة ضمن هذه السلسلة، موضحة انها تضم عبارات وصورا خادشة للحياء.
وهكذا انتهت الازمة وعاد الكتاب الى ارفف المكتبات لكي يشبع رغبة الناس في قراءته.
عرفت حكايات الف ليلة وليلة في الكويت منذ زمن طويل، وعرفت باجزائها الكاملة الاربعة كما عرفت مقسمة على كتيبات صغيرة يضم كل كتيب منها قصة من القصص، ومن هذه القصص ما يروي حكاية السندباد المشهور برحلاته المتعددة ومغامراته الكثيرة، وهما اثنان بري وبحري، ولما كانت الكويت تعيش على ساحل البحر وكان الناس فيها يعتمدون عليه في كسب معيشتهم فان اقرب السندبادين اليهم هو البحري منهما، ولذا فقد شاعت اخباره في البلاد، واصبح مشهورا على نطاق واسع، ولما يقوم به ابناء الكويت من جهود كبيرة في المجال البحري، وما يبدونه من نشاط وهمة عالية في رحلات الغوص والسفر، فقد اطلق عليهم لقب ابناء السندباد، وهو عنوان كتاب الان فاليارس الذي كتبه واصفا رحلته على متن سفينة كويتية يقودها النوخذة علي النجدي.
اذن فان اختيارنا قد وقع على جزء من اجزاء حكاية السندباد التي روتها شهرزاد في احدى لياليها وهي الليلة الحادية والثلاثين بعد المئة الخامسة: حيثُ جلست الراوية امام الملك والى جوارها اختها دنيازاد، وبدأت الحكاية بما يلي: بلغني ايها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد انه كان في زمن الخليفة هارون الرشيد بمدينة بغداد رجل يقال له السندباد الحَمَّال، وكان رجلا فقير الحال يحمل تجارته على رأسه فاتفق له انه حمل في يوم من الايام حملة ثقيلة، وكان ذلك اليوم شديد الحر فتعب من تلك الحملة وعرق واشتد عليه الحر، فمر على باب رجل تاجر قدامه كنس ورش وهناك هواء معتدل، وكان بجانب الباب مصطبة عريضة فحط الحمال حمولته على تلك المصطبة ليستريح ويشم الهواء.
فخرج عليه من ذلك الباب نسيم رائق ورائحة زكية، فاستلذ الحمال لذلك وجلس على جانب المصطبة، فسمع في ذلك المكان نغم اوتار وعودا واصواتا مطربة وانواع انشاد معربة، وسمع ايضا اصوات طيور تناغي وتسبح الله تعالى باختلاف الاصوات وسائر اللغات، من قماري وهزار وشحارير وبلابل وفاخت وكروان.
فعند ذلك تعجب في نفسه وطرب طربا شديدا، فتقدم الى ذلك الباب فوجد في داخل البيت بستانا عظيما، ونظر فيه غلمانا وعبيدا وخداما وحشما وشيئا لا يوجد الا عند الملوك والسلاطين، وبعد ذلك هبت عليه رائحة اطعمة طيبة زكية من جميع الالوان المختلفة والشراب الطيب، فرفع طرفه الى السماء وقال: سبحانك يا رب يا خالق، يارزاق، ترزق من تشاء بغير حساب، اللهم اني استغفرك من جميع الذنوب واتوب اليك من العيوب، يا رب لا اعترض عليك في حكمك وقدرتك، فانك لا تُسْأَلُ عما تفعل وانك على كل شيء قدير، سبحانك تُغْنِي من تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء، لا اله الا انت ما اعظم شأنك، وما اقوى سلطانك، وما أحسن تدبيرك، قد انعمت على من تشاء من عبادك، فهذا المكان صاحبه في غاية النعمة، وهو متلذذ بالروائح اللطيفة والمآكل اللذيذة، والمشارب الفاخرة في سائر الصِّفات، وقد حكمت في خلقك بما تريد وما قدرته عليهم، فمنهم تعبان ومنهم مستريح، ومنهم سعيد ومنهم من هو مثلي في غاية التعب والذل.
فلما فرغ السندباد الحمال من قوله اراد ان يحمل حملته ويسير، اذ طلع عليه من ذلك الباب غلام صغير السن حسن الوجه مليح القد فاخر الملابس، فقبض على يد الحمال وقال له: ادخل كلم سيدي فإنه يدعوك، فاراد الحمال الامتناع عن الدخول مع الغلام فلم يقدر على ذلك، فحط حملته عند الباب في دهليز المكان ودخل مع الغلام داخل الدار، فوجد دارا مليحة وعليها انس ووقار، ونظر الى مجلس عظيم، فيه من السادات الكرام والموالي العظام، وفيه من جميع اصناف الزهر وجميع اصناف المشموم، ومن انواع النقل والفواكه، وشيء كثير من اصناف الاطعمة النفيسة، وفيه آلات السماع والطرب من اصناف الجواري الحسان كل منهن في مقامه على حسب الترتيب.
وفي صدر ذلك المجلس رجل عظيم محترم قد لكزه الشيب في عوارضه، وهو مليح الصورة حسن المنظر، وعليه هيبة ووقار وعز وافتخار، فعند ذلك بهت السندباد الحمال وقال في نفسه: والله ان هذا المكان من بقع الجنان او انه يكون قصر ملك او سلطان، ثم تأدب وسلم عليهم ووقف وهو منكس رأسه.
وفي الليلة اللاحقة واصلت شهرزاد قائلة:
فأذن له صاحب المكان بالجلوس فجلس وقد قربه اليه وصار يؤانسه بالكلام ويرحب به، ثم انه قدم له شيئا من انواع الطعام المفتخر الطيب النفيس، فتقدم السندباد الحمال وسمي واكل حتى اكتفى وشبع وقال: الحمد لله على كل حال، ثم انه غسل يديه وشكرهم على ذلك.
فقال صاحب المكان: مرحبا بك ونهارك مبارك، فما يكون اسمك؟ وما تعاني من الصنائع؟ فقال له: يا سيدي اسمي السندباد الحمال وانا احمل على رأسي اسباب الناس بالاجرة، فتبسم صاحب المكان وقال له: اعلم يا حمال ان اسمك مثل اسمي، فانا السندباد البحري.
انه كان لي اب تاجر وكان من اكابر الناس والتجار، وكان عنده مال كثير وقد مات وانا ولد صغير وخلف لي مالا وعقارا وضياعا، فلما كبرت وضعت يدي على الجميع وقد اكلت اكلا مليحا وشربت شربا مليحا، وعاشرت الشَّباب وتجملت بلبس الثياب، ومشيت مع الخلان والاصحاب واعتقدت ان ذلك يدوم لي وينفعني ولم ازل على هذه الحالة مدة من الزمان، ثم اني رجعت الى عقلي وافقت من غفلتي، فوجدت مالي قد مال وحالي قد حال، وقد ذهب جميع ما كان عني، ولم استفق لنفسي الا وانا مرعوب مدهوش، وقد تذكرت حكاية كنت اسمعها سابقا من ابي وهي حكاية سيدنا سليمان بن داود عليه السلام في قوله: ثلاثة خير من ثلاثة: يوم الممات خير من يوم الولادة، وكلب حي خير من سبع ميت، والقبر خيرمن الفقر، ثم اني قمت وجمعت ما كان عندي من أثاث وملبوس وبعته ثم بعت عقاري و جميع ما تملك يدي، فجمعت ثلاثة آلاف درهم وقد خطر ببالي السفر.
فعند ذلك هممت فقمت واشتريت لي بضاعة ومتاعا واسبابا وشيئا من اغراض السفر، وقد سمحت لي نفسي بالسفر في البحر، فنزلت المركب وانحدرت الى مدينة البصرة مع جماعة من التجار، وسرنا في البحر اياما وليالي وقد مررنا بجزيرة بعد جزيرة، ومن بحر الى بحر، ومن بر الى بر، وفي كل مكان مررنا به نبيع ونشتري ونقايض بالبضائع فيه، وقد انطلقنا في سير البحر الى ان وصلنا الى جزيرة كأنها روضة من رياض الجنة، فأرسى بنا صاحب المركب على تلك الجزيرة ورمي مراسيها وشد السلم، فنزل جميع من كان في المركب في تلك الجزيرة، وعملوا لهم كوانين وأوقدوا فيها النار، واختلفت اشغالهم، فمنهم من صار يطبخ ومنهم من صار يغسل، ومنهم من صار يتفرج، وكانت انا من جملة المتفرجين في جوانب الجزيرة.
وقد اجتمع الركاب على آكل وشرب ولهو ولعب، فبينما نحن على تلك الحالة واذا بصاحب المركب واقف على جانبه وصاح باعلى صوته: يا ركاب السلامة اسرعوا واطلعوا الى المركب، وبادروا الى الطلوع واتركوا اسبابكم واهربوا بارواحكم وفوزوا بسلامة انفسكم من الهلاك، فان هذه الجزيرة التي انتم عليها ما هي جزيرة، وانما هي سمكة كبيرة رست في وسط البحر فبنى عليها الرمل فصارت مثل الجزيرة، وقد نبتت عليها الاشجار من قديم الزمان، فلما وقدتم عليها النار احست بالسخونة فتحركت، وفي هذا الوقت تنزل بكم في البحر فتغرقوا جميعا فاطلبوا النجاة لانفسكم قبل الهلاك.
ولما سمع الركاب كلام ذلك الريس، اسرعوا وبادروا بالطلوع الى المركب وتركوا الاسباب وحوائجهم ودسوتهم وكوانينهم، فمنهم من لحق المركب ومنهم من لم يلحقه، وقد تحركت تلك الجزيرة ونزلت الى قرار البحر بجميع ما كان عليها، وانطبق عليها البحر المتلاطم بالامواج، وكنت من جملة من تخلف في الجزيرة فغرقت في البحر مع جملة من غرق، ولكن الله تعالى انقذني ونجاني من الغرق ورزقني بقطعة خشب كبيرة من القطع التي كانوا يغسلون فيها، فمسكتها بيدي وركبتها من حلاوة الروح ورفست الماء برجلي مثل المجاديف والامواج تلعب بي يمينا وشمالا.
وقد نشر الريس قلوع المركب، وسافر بالذين طلع بهم ولم يلتفت لمن غرق منه، ومازلت انظر الى ذلك المركب حتى اختفى عن عيني وايقنت بالهلاك ودخل علي الليل وانا على هذه الحالة، فمكثت على ما انا فيه يوما وليلة، وقد ساعدني الريح والامواج الى ان رست بي تحت جزيرة عالية، وفيها اشجار مطلة على البحر فمسكت فرعا من شجرة عالية وتعلقت به بعدما اشرفت على الهلاك وتمسكت به الى أن طلعت الى الجزيرة، فوجدت في رجلي خدرا واثر اكل السمك في بطونهما ولم اشعر بذلك من شدة ما كنت فيه من الكرب والتعب، وقد ارتميت في الجزيرة وانا مثل الميت، وغبت عن وجودي وغرقت في دهشتي، ولم ازل على هذه الحالة الى ثاني يوم، وقد طلعت الشمس علي وانتبهت في الجزيرة فوجدت رجليَّ قد ورمتا، فسرت حزينا على ما انا فيه فتارة ازحف وتارة احبو على ركبي، وكان في الجزيرة فواكه كثيرة وعيون ماء عذب، فصرت آكل من تلك الفواكه، ولم ازل على هذه الحالة مدة ايام وليال فانتعشت نسبياً وردت لي روحي وقويت حركتي، وصرت اتفكر وامشي في جانب الجزيرة واتفرج بين الاشجار ما خلق الله تعالى، وقد عملت لي عكازا من تلك الاشجار اتوكأ عليه، ولم أزل على هذه الحالة الى ان تمشيت يوما من الايام في جانب الجزيرة، فلاح لي شبح من بعيد فظننت انه وحش او انه دابة من دواب البحر، فتمشيت الى نحوه ولم أزل أتفرج عليه وإذا هو فرس عظيم المنظر، مربوط في جانب الجزيرة على شاطئ البحر، فدنوت منه فصرخ علي صرخة عظيمة، فارتعبت منها وأردت أن أرجع، وإذا برجل خرج من تحت الأرض وصاح علي وتبعني وقال: من أنت؟ ومن أين جئت؟ وما سبب وصولك إلى هذا المكان؟ فقلت له: يا سيدي أعلم أني رجل غريب، وكنت في مركب وغرقتُ أنا وبعض من كان فيه، فرزقني الله بقطعة خشب فركبتها وعامت بي إلى أن رمتني الأمواج في هذه الجزيرة.
فلما سمع كلامي أمسكني من يدي وقال لي: أمش معي، فنزل بي في سرداب تحت الأرض، ودخل بي إلى قاعة كبيرة وأجلسني في صدر تلك القاعة، وجاء لي بشيء من الطعام، وأنا كنت جائعاً فأكلت حتى شبعت واكتفيت وارتاحت نفسي، ثم إنه سألني عن حالي وما جرى لي، فأخبرته بجميع ما كان من أمري من المبتدأ إلى المنتهى فتعجب من قصتي.
فلما فرغت من حكايتي قلت: بالله عليك يا سيدي لا تؤاخذني، فأنا قد أخبرتك بحقيقة حالي وما جرى لي، وأنا أشتهي منك أن تخبرني من أنت؟ وما سبب جلوسك في هذه القاعة التي تحت الأرض؟ وما سبب ربطك هذه الفرس على جانب البحر؟
فقال لي: أعلم أننا جماعة متفرقون في هذه الجزيرة على جوانبها ونحن سياس الملك المهرجان، وتحت أيدينا جميع خيوله، وفي كل شهر عند اكتمال القمر نأتي بالخيل والجياد ونربطها في هذه الجزيرة من كل بكر، ونختفي في هذه القاعة تحت الأرض حتى لا يرانا أحد، فيجيء حصان من خيول البحر على رائحة تلك الخيل ويطلع على البر فلا يرى أحداً، فيثبت عليها وينزل عنها ويريد أخذها معه، فلا تقدر أن تسير معه من الرباط، فيصيح عليها ويضربها برأسه ورجليه ويصيح فنسمع صوته، فنعلم أنه نزل عنها فنطلع صارخين عليه، فيخاف وينزل البحر والفرس تحمل وتلد مهراً أو مهرة تساوي خزنة مال، ولا يوجد لها نظير على وجه الأرض، وهذا وقت طلوع الحصان، وإن شاء الله تعالى آخذك معي إلى الملك المهرجان، وأُفَرِّجُكَ على بلادنا، واعلم أنه لولا اجتماعك علينا ما كنت ترى أحداً في هذا المكان غيرنا، وكنت تموت كمداً ولا يدري بك أحد، ولكن أنا أكون سبب حياتك ورجوعك إلى بلادك، فدعوت له وشكرته على فضله وإحسانه، فبينما نحن في هذا الكلام وإذا بالحصان قد طلع من البحر وصرخ صرخة عظيمة، ثم وثب على الفرس، فلما فرغ منها وأراد أخذها معه، فلم يقدر ورفست وصاحت عليه، فأخذ الرجل السايس سيفاً بيده ودرقة وطلع من باب تلك القاعة، وهو يصيح على رفقته ويقول: أطلعوا إلى الحصان، ويضرب بالسيف على الدرقة، فجاء جماعة بالرماح صارخين فجفل منهم الحصان، وراح إلى حال سبيله ونزل في البحر مثل الجاموس، وغاب تحت الماء.
فعند ذلك جلس الرجل قليلاً، وإذا هو بأصحابه قد جاؤوه ومع كل واحد فرس يقودها، فنظروني عنده فسألوني عن أمري فأخبرتهم بما حكيته له، وقربوا مني ومدوا السماط وأكلوا وعزموني فأكلتُ معهم، ثم إنهم قاموا وركبوا الخيول وأخذوني إلى مدينة الملك المهرجان، وقد دخلوا عليه وأعلموه بقصتي، فطلبني فأدخلوني عليه وأوقفوني بين يديه، فسلمت عليه فرد علي السلام ورحب بي وحياني بإكرام وسألني عن حالي، فأخبرته بجميع ما حصل لي وبكل ما رأيته من المبتدأ إلى المنتهى.
فعند ذلك تعجب مما وقع لي، ومما جرى لي، وقال لي: يا ولدي والله لقد حصل لك مزيد من السلامة، ولولا طول عمرك ما نجوت من هذه الشدائد، ولكن الحمد لله على السلامة، ثم إنه أحسن إليَّ وأكرمني وقربني إليه وصار يؤانسني بالكلام والملاطفة، وجعلني عنده عاملاً على ميناء البحر، وكاتباً على كل مركب عبر إلى البر، وصرت واقفاً عنده لأقضي له مصالحه وهو يحسن إلي وينفعني من كل جانب، وقد كساني كسوة مليحة فاخرة، وصرت مقدماً عنده في الشفاعات وقضاء مصالح الناس، ولم أزل عنده مدة طويلة.
وأنا كلما أشق على جانب البحر، أسأل التجار والمسافرين والبحريين عن ناحية مدينة بغداد لعل أحداً يخبرني عنها، فأروح معه إليها وأعود إلى بلادي، فلم يعرفها أحد ولم يعرف من يروح إليها، وقد تحيرت في ذلك وسئمت من طول الغربة، ولم أزل على هذه الحالة مدة من الزمان، إلى أن جئت يوماً من الأيام ودخلت على الملك المهرجان، فوجدت عنده جماعة من الهنود، فسلمت عليهم فردوا علي السلام ورحبوا بي، وقد سألوني عن بلادي فذكرتها لهم وسألتهم عن بلادهم فَذَكَرُوا لي أنهم أجناس مختلفة.
ومنهم جماعة تسمى البراهمة وهم قوم لا يشربون الخمر أبداً، وإنما هم أصحاب حظ وصفاء ولهو وطرب وجمال وخيول ومواشي، وأعلموني أن صنف الهنود يفترق على اثنتين وسبعين فرقة فتعجبت من ذلك غاية في العجب.
ورأيت في مملكة المهرجان جزيرة من جملة الجزائر، يقال لها كابل، يسمع فيها ضرب الدفوف والطبول طول الليل، وقد أخبرنا أصحاب الجزائر والمسافرون بأنهم أصحاب الجد والرأي، ورأيت في البحر سمكة طولها مئتا ذراع، ورأيت أيضاً سمكاً وجهه مثل وجه البوم، ورأيت في تلك السفرة كثيراً من العجائب والغرائب مما لو حكيته لكم لطال شرحه، ولم أزل أتفرج على تلك الجزائر وما فيها، إلى أن وقفت يوماً من الأيام على جانب البحر وفي يدي عكاز حسب عاداتي، وإذا بمركب قد أقبل وفيه تجار كثيرون.
فلما وصل إلى ميناء المدينة طوى الريس قلوعه وأرسله على البر ومد السلم، وأطلع البحرية جميع ما كان في ذلك المركب إلى البر، وأبطؤوا في تطليعه وأنا واقف أكتب عليهم، فقلت لصاحب المركب: هل بقي في مركبك شيء؟ فقال: نعم يا سيدي، معي بضائع في بطن المركب، ولكن صاحبها غرق معنا في البحر في بعض الجزائر ونحن قادمون في البحر.
فغرضنا أننا نبيعها ونأخذ ثمنها لأجل أن نوصله إلى أهله في مدينة بغداد فقلت للريس: ما يكون اسم ذلك الرجل صاحب البضائع؟ فقال اسمه السندباد البحري وقد غرق معنا في البحر.
فلما سمعت كلامه حققت النظر فيه فعرفته وصرخت عليه صرخة عظيمة وقلت: يا ريس أعلم أني صاحب البضائع التي ذَكَرَتها، وأنا السندباد البحري الذي نزلت من المركب في الجزيرة مع جملة من نزل من التجار، ولما تحركت السمكة التي كنا عليها وصحت أنت علينا طلع من طلع وغرق الباقي، وكنت أنا من جملة من غرق ولكن الله سلمني ونجاني من الغرق بقصعة كبيرة من القِصَع التي كان الركاب يغسلون فيها ملابسهم. فركبتها وصرت أرفس برجلي وساعدني الريح والموج إلى أن وصلت إلى هذه الجزيرة فطلعت فيها وأعانني الله تعالى بسايس الملك المهرجان، فأخبرته بقصتي فأنعم علي وجعلني كاتباً على ميناء هذه المدينة، فصرت أنتفع بخدمته وصار لي عنده قبول، هذه البضائع التي معك بضائعي ورزقي، قال الريس: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ما بقي لأحد أمانة ولا ذمة، فقلت: له يا ريس ما سبب ذلك وأنت سمعتني أخبرتك بقصتي؟ فقال الريس: لأنك سمعتني أقول: إن معي بضائع صاحبها غرق، فتريد أن تأخذها بلا حق وهذا حرام عليك، فإننا رأيناه لما غرق وكان معه جماعة من الركاب كثيرون وما نجا منهم أحد فكيف تدعي أنك أنت صاحب البضائع؟
فقلت له: يا ريس اسمع قصتي وافهم كلامي يظهر لك صدقي، فإن الكذب شيمة المنافقين، ثم إني حكيت للريس جميع ما كان مني من حين خرجت معه من مدينة بغداد إلى أن وصلنا تلك الجزيرة التي غرقنا فيها، وأخبرته ببعض أحوال جرت بيني وبينه فعند ذلك تحقق الريس والتجار صدقي فعرفوني وهنوني بالسلامة، وقالوا جميعاً: والله ما كنا نصدق بأنك نجوت من الغرق، ولكن رزقك الله عمراً جيداً، ثم إنهم أعطوني البضائع فوجدت اسمي مكتوباً عليها ولم ينقص منها شيء، ففتحتها وأخرجت منها شيئاً نفيساً غالي الثمن، وحَمَلَتْهُ معي بحرية المركب وطلعت به إلى الملك على سبيل الهدية، وأعلمت الملك بأن هذا المركب، الذي كنت فيه، وأخبرته أن بضائعي وصلت إلي بالتمام والكمال وأن هذه الهدية منها.
فتعجب الملك من ذلك الأمر غاية العجب، وظهر له صدقي في جميع ما قلته، وقد أحبني محبة شديدة وأكرمني إكراماً زائداً، ووهب لي شيئاً كثيراً في نظير هديتي، ثم بعت حمولتي وما كان معي من البضائع، وكسبت فيها شيئاً كثيراً واشتريت بضاعة وأسباباً ومتاعاً من تلك المدينة.
ولما أراد تجار المركب السفر، شحنت جميع ما كان معي في المركب ودخلت عند الملك وشكرته على فضله وإحسانه، ثم استأذنته في السفر إلى بلادي وأهلي فودعني وأعطاني شيئاً كثيراً عند سفري من متاع تلك المدينة، فودعته ونزلت المركب وسافرنا بإذن الله تعالى، وخدمنا السعد وساعدتنا المقادير، ولم نزل مسافرين ليلاً ونهاراً إلى أن وصلنا بالسلامة إلى مدينة البصرة، وطلعنا إليها وأقمنا فيها زمناً قليلاً وقد فرحت بسلامتي وعودتي إلى بلادي.
وبعد ذلك توجهت إلى مدينة بغداد ومعي من الحمول والمتاع والأسباب شيء كثير له قيمة عظيمة، ثم جئت إلى حارتي ودخلت بيتي وقد جاء جميع أهلي وأصحابي، ثم إني اشتريت لي خدماً وحشماً ومماليك وسراري وعبيداً حتى صار عندي شيء كثير، و اشتريت لي دوراً وأماكن وعقاراً أكثر من الأول، ثم إني عاشرت الأصحاب ورافقت الخلان، وصرت أكثر مما كنت عليه في الزمن الأول، ونسيت جميع ما قاسيت من التعب والغربة والمشقة وأهوال السفر، واشتغلت باللذات والمسرات والمآكل الطيبة والمشارب النفيسة، ولم أزل على هذه الحالة، وهذا ما كان في أول سفراتي.
هنا تنتهي حكاية السندباد البحري، وهي جزء من عدة حكايات تتناول كل ما جرى له في رحلاته المتعددة وكفى ما تقدم دليلاً على ما ورد في كتاب ألف ليلة وليلة ودليلاً - آخر - على سبب تعلق الناس بهذه الحكايات.
وهذا هو ما حدث للسندباد البحري في رحلته الأولى وما لقيه من الصعاب، وما قام به من المغامرات. وما قدمناه هو نص ما ألقته شهرزاد على الملك شهريار ومن الصعوبة بمكان أن نذكر باقي الرحلات التي قام بها هذا المغامر لأن المجال لا يسمح لنا بذلك.
هذا ومن الكلمات التي تحتاج إلى تبيين:
1- درقة وجمعها درق، وهي قطعة مستديرة يمسك بها الفارس للوقاية من ضربة السيف التي قد يوجهها إليه عدوه. وهي: الدرع.
2- قصعة وجمعها قصاع: إناء مستدير يستعمل للغسيل بما في ذلك غسيل الملابس. ونُسَميه: الطشت، وقد جمع قصعة على قِصَع.
3- لكزه: ضربه.
وإلى هنا نتوقف على أمل اللقاء.

ملحاق خير

طبع كتاب الدكتورة سهير القلماوي: ألف ليلة وليلة لدى دار المعارف بمصر منذ أمد طويل، ثم أعادت الهيئة المصرية للكتاب طباعته في سنة 2010م ضمن مشروع لها أعادت بموجبه طباعة عدد من الكتب التي صدرت من قبل تحت عنوان شامل هو: أدباء القرن العشرين. وكان منهم إبراهيم المازني ومحمد حسين هيكل وإبراهيم ناجي ومحمد زكي عبدالقادر، وآخرون...
وللطبعة التي نتحدث عنها هنا مقدمتان؛ الأولى منها كتبها الدكتور طه حسين، وذكر فيها حكاية الكتاب منذ كان فكرة في ذهن تلميذته سهير القلماوي إلى أن انهت من إعداده ونالت به شهادة الدكتوراه بتفوق كبير.
وذكر الدكتور أنه فوجئ بها تطرح عليه فكرة الدراسة لأنها كما قالت تريد الخوض في موضوع التراث الشعبي وعلى الأخص في كتاب: ألف ليلة وليلة.
ولقد حاول الدكتور بتلميذته أن تصرف النظر عن هذا الموضوع لأنه كان يعلم صعوبته، وأنه يحتاج إلى إعداد خاص منه الخروج إلى أوروبا والاحتكاك بالمستشرقين الذين اهتموا بهذا الموضوع دراسة وتحقيقاً وتأليفاً، ولقد تحقق للدكتور طه حسين ما أراد فتقدمت سهير القلماوي -أولاً- لنيل شهادة الماجستير، ثم بدأت رحلة البحث الأوروبية التي اقترح عليها الدكتور طه حسين أن تقوم بها.
ومضت في طريقها تجالس المستشرقين وتحضر المحاضرات وتغشى جلسات البحث والمناقشة، وتجمع ما تستطيع جمعه من الكتب، وتزور المكتبات العامة حتى استطاعت أن تُكَوِّنَ فكرة قلما يستطيع باحث أن يُكونها لنفسه. وصارت مستعدة للعمل وفق المعطيات التي توصلت إليها.
ولقد لاحظت فيما يتعلق بالمستشرقين أنهم يبحثون كثيراً بل ويشغلون أنفسهم في البحث عن أصول ألف ليلة وليلة، ولم يكن ذلك -في رأيها- لسبب علمي بقدر ما كانوا يقصدون نزع الصفة العربية عن هذه الحكايات التي انتشرت في الآفاق.
ومما كتبته في هذا الشأن قولها: ألف ليلة وليلة بحر خِضَم حدوده قصة الملك شهريار وزوجته شهرزاد، ألقى فيه القاص ما ألقى، وأخرج منه ما أخرج، وعاش (النص) طليقاً في هذه الحدود الفضفاضة. حتى جاء اهتمام الغربيين، فقيد من حريته، ونقل نصه من آذان العامة وأفواههم إلى المطبوعات والمخطوطات في دور الكتب، ولقد ساعد هذا الإدخال على وجود مجموعات كثيرة من القصص الشعبية المتشابهة يمكن أن تُدْمَجَ فيها بكل يسر، وهي مجموعات مترجمة من الهندية أو الفارسية، ومجموعات مما روي في اللغة العربية.
ولقد كانت الباحثة تعجب من إصرار أولئك المستشرقين على البحث عن الأصول الفارسية أو الهندية لألف ليلة وليلة، بينما واقع الحكايات يقف حائلاً دون قبول طروحاتهم لأن الأمر اختلط عليهم كما تقدم، ولأن القصص الواردة على لسان شهرزاد منه ما يدل على المجتمعات العربية وما يدل على أصول عربية قديمة. وإذا وجد في القصص ما هو بخلاف ذلك فإن الأمر لا يعدو أن يكون من خلط النساخ بين الأصل وبعض ما ورد عن الهند وفارس.
ولن نتحدث عن كتاب الدكتورة سهير القلماوي بأكثر من ذلك، فالكتاب بحث علمي جامعي من النوع الممتاز، وقد درس الحكايات من جميع جوانبها. ودافع عن أصلها العربي الذي عرفناه منذ القدم.

د. يعقوب يوسف الغنيم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى