شهادات خاصة بوزيد الغلى - هيبتن الحيرش: المترجم الذي بعث الروح من جديد في تاريخ أسا..

يتمتم حكماء البادية (بالصحراء): راجل يُحيِي حلّة، وحلّة ما تحيي راجل.
يعقب بعض متعقبي آثار البنية الصنهاجية في اللسان الحساني: إن الألف الزائدة في مورفولوجيا كلمة « رجل » ذات جذور صنهاجية، وليس يهمنا تركيب المثل وبنيته، بقدر ما يهمنا معناه السائر الذي يصدق على عمل مترجِم عصامي نذر قلمه ووقته لخدمة تراث البلدة القصية عن دوائر الاهتمام الأكاديمي الراهن حاشا نثار حصائل ندوات تستنزف من المال أضعاف ما تنتج من معرفة...
ذاك المترجم الموهوب، خريج قسم الأدب الفرنسي أيام كان للجامعة وميض ومردود تعكسه طينة الخريجين، الذين لا يغادرون مقاعد الجامعة حتى ينغمروا في لجة البحث البناء، هو هيبتن الحيرش أو « هيبتنا» كما أراد له والده أن ينادى، فاشتط قلم كاتب الحالة المدنية على قلة زاده، فحذف الألف، وترك النون عزلاء لا يدري قارئها أينسبها للجمع أم لغُنة بدوية تستقيم مع النغم والرنة.
ساورني منذ مدة قلق الكتابة عن المترجم الذي ستذكره أسا عندما يجد جدّ أهلها وينبروا باحثين عن أثر مادي كتابي يدلهم على الغميس من تراثهم والدفين من تاريخ زاويتهم التي سارت بذكرها الركبان، ولقد تركت سين التسويف، وعقدت العزم على التعريف بهذا المترجم الذي مَثله كمثل صاحب الحلة (القبيلة ) التي تحيا بنداء فارس من فوارسها، حين ظهر آخر أعماله، وهو ترجمته للجزء الأعظم من محكي ضابط الشؤون الأهلية السابق هنري بيير بيران الصادر سابقا تحت عنوان مثير للاهتمام هو: المغامرة المغربية، ولقد كنت دائم التساؤل في خويصة نفسي عن سر هذا العنوان للكتاب الذي لم يصدر إلا بعد رحيل صاحبه، تنفيذا لوصيته التي أودعها صديقَه الصحفي مارسيل جوليون الذي قال عنه جاك شيراك حسب تنصيص مقدمة مقامي بأسا: « كانت له رؤية ثاقبة للعالم، للناس ولروح العصر.»
لا غرو أن يغري كتاب مقامي بأسا القارئ بأسلوب المترجم الأنيق ولغته الرشيقة التي تنبو عن التكلف وتعلو عن سفساف القول الذي أفسد ترجمات لم أستطع إكمال قراءتها إلا بشق النفس، ولقد حق للراحلة فاطمة المرنيسي في تقديمها لترجمة أنيقة لعملها البديع نساء على أجنحة الحلم أن تشكو من رداءة أسلوب بعض المترجمين الذين لم يؤتوا حظا من ذلاقة اللسان وسحر البيان. ولنتأمل سحر هذا المقطع الذي يصف شعور الغريب عند دنوه من أفق محفوف بالخطر:
«...لا أعرف لماذا أحسست بغصة. سلسلة تشكل حاجزا في الأفق، أشعر كأنه حاجز لأفقي أنا... يقال إن الشيطان عندما أراد إغواء عيسى، أتى به إلى قمة جبل وأراه أفقا لا حدود له بثرواته ومدنه المترفة... جالت في خاطري فكرة: لو أن الشيطان، بدل أن يظهر لعيسى تلك الثروات المصطنعة، قد أراه هذا الخلاء، ربما تمكن من تحقيق هدفه.» (ص.21)
لقد عمد الكاتب إلى استدعاء ثقافته المسيحية ، وهو يجتاز منعرجات الجبل الشاهق أمزلوﮔ، كما استدعى صور ثقافته الغربية، وهو يصف أحد كهول الصحراء:
«كنت أسترق النظر إلى النفّاع الذي يشبه إلى حد ما عجوزا رومانيا، وقد اضطجع على جنبه، أسند رأسه بذراعه، وأخذ غليونه الفضي يدخن على مهل، وفكره يجول به في الجبال والمروج حيث تسكن الغزلان.»
كان التدخين، بأدواته المعروفة عند البيضان يومها، شائعا شيوع استخدام الشاي في أيامنا، ولذلك تكتسب هذه الصورة السردية حيويتها من وصفها ظاهرة انحسرت عند كهول الصحراء اليوم إثر تغير الشروط الثقافية، فلم نعد نشهد إلا قلة تعلق على الصدر حمالة التبغ والغليون الفضي بتعبير الكاتب، والنص على جهة العموم طافح بالصور السردية ذات الملامح الثقافية الجديرة بالدراسة فضلا عن كونه يمثل وثيقة حية تكشف كثيرا مما جرى في اللحظات الأخيرة من عمر الوجود الفرنسي على أرض أسا التي تُعرف في بعض السرود معتقلا قاسيا ومنفى مريعا، بينما تنتصب في مخيلة بيران مكمنا من مكامن الجمال الطبيعي الذي لم تفسده يد المدنية:
«كنت مستلقيا على أليويش بين النوم واليقظة، أستمتع بمحادثات هؤلاء البدو المتثاقلة والمتقطعة، كأس شاي في يدي، أفكر في السكينة التي ينعمون بها؛ حالٌ افتقدناها افتقاداً نحن أهل " المدنية ".»

هيبتن الحيرش: ظلال ثقافة المترجم على النصوص المترجمة
قد يتاح لكل قارئ للكتب التي عمل هيبتن الحيرش على نقلها من الفرنسية إلى العربية الوقوف على ظلال شخصية المترجم التي توجه القارئ ، فكثيرا ما نجد في هوامشه إشارات تثري النص وتبين غوامضه، وما الصور التي أدرجها في جل كتبه المترجمة إلا خير دليل على الرغبة في الإيضاح، و ليس سرا أن حضوره الغامر كذات مترجمة وقارئة للنص في أفق إنتاج نص لا يخون أمانة الترجمة، ولا يخذل من الوقائع المتحقق من صحتها شيئا، قد تجسد في ترجمته لرواية زكية داود الجميلة: زينب النفزاوية، ملكة مراكش.
وليس يعزب عن إدراكنا أن معرفته الواسعة بثقافة مجال أسا- وادنون، مكنته من إصدار ترجمات تندّ عن النقد لاقترابها الشديد من روح النصوص المترجمة، ولنا أن نسلط قليلا من الضوء على تلك الترجمات.

تقييدات حول تكنة:
سِفر صغير الحجم عظيم الفائدة، أصله الفرنسي دبجه فانسان مونتاي الذي تشهد بكفاءته المراكز الأكاديمية التي اشتغل بها، فقد سبق له أن درس بالكوليج دو فرانس الذائع الصيت، والكتاب في نسخته العربية الوحيدة عبارة عن مونوغرافيا تضم معلومات استقصائية هامة عن اتحادية تكنة، وكيفية تشكلت مختلف القبائل المكونة لها، ومجال نفوذها الترابي وأنشطتها الاقتصادية، ولست أذيع سرا حقه الكتمان، إذا قلت إن الكتاب قد بلغ صيته تمبوكتو، إذ أرسلت نسخة منه إلى صديق باحث بمعهد أحمد بابا التنبكتي إثر سؤاله عن منى كلمة تكنة بعد أن وقف على تكرر ذكرها في مخطوط يعمل على تحقيقه للفقيه التاجر أحمد ولد بولعراف التكني.

مدونة زاوية أسا
أسدى المترجم لعموم المهتمين بتاريخ زاوية أسا العريقة خدمة لا تقل أهمية عما أسداه فانسان مونتاي الذي نقل ملخص المدونة عن محافظ الزاويةالمسمى بوﮔرين، وعلق عليها تعليقا علميا هاما؛ فقد نقل المترجم ما كتبه مونتاي إلى العربية، فأصبح بين يدي القراء، لحما على وضم، نص قريب من نص المدونة الذي كان محافظ الزاوية يحتفظ به في حامل من قصب كما يذكر مونتاي.
نصوص للباحثة أوديت دوبوﻴﮔودو:
اعتنى المترجم بترجمة نصين هامين من كتاب صنائع وعادات البيضان، يتعلق الأول بسيرة مؤسس زاوية أسا، سيدي إعزى ويهدى، بينما يهم الآخر أسا، البلدة الهنية والشامخة، وقد جاء تحت عنوان ينطوي على قدر من المفارقة التي ترين على المنطقة: أسا، شموخ وعزلة، وقد افتتح المترجم كلامه بهذا التقريض: « النص الأخير لأوديت دوبوﻴﮔودو، وهو عبارة عن مرثية لأسا، كتبت بطريقة أدبية راقية.» (أسا، ديوان الصالحين، ص.99)
ولم ينس المترجم بلدة سيدي إفني التي قضى بها زهرة شبابه، فقد خصها بترجمة أيضا، إذ نقل إلى العربية كتاب فانسان مونتاي الموسوم ب: تقييدات حول إفني وأيت باعمران.

د. بوزيد الغلى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى