محمود العزازمة - قطعة خبز

حاول أن ينام ،لم يأته النوم ،كل يوم عندما يعود من عمله في المدرسة متعبا ،أول شيء يفعله بعد أن يبدل ملابسه هو النوم ،يضع كيس الأغراض الذي أحضره معه من البقالة في غرفة المعيشة ،ثم يذهب إلى الغرفة الصغيرة التي يتوسطها سريره ،وهي أصغر غرفة في العالم كما يخيل إليه ،البيت أساسا من تشييد شركة كورية ،منحة من كوريا الجنوبية على شكل بناء حيّ من البيوت على الطريقة الكورية في منطقة الكرامة ،هي في الأصل مساهمة لتوطين مزارعي غور الأردن في بيوت من الحجر بدلا من العرائش الخشبية المتهالكة ،البيت مكون من غرفتين فقط ،واحدة كبيرة نسبيا في حدود أربعة أمتار في ستة أمتار ،أطلق عليها غرفة معيشة ،والثانية صغيرة بحدود مترين ونصف في ثلاثة أمتار ،تتوسط المنطقة بين الغرفتين والمنافع صالة صغيرة مربعة بحدود مترين في مترين.
يمد يده على اتساعها من تحت المخدة ،ويثبت رأسه وجزءا من رقبته فوق المخدة ،بهذه الهيئة يشعر بالراحة ،ويبدأ التعب بالتضاؤل ،والنوم بالتسلل.
غير أن النوم لم يأت ،وهو لم يشعر بالانزعاج . يتذكر قول ماركيز مثل نشيد: (سأنام قليلاً ،وأحلم كثيراً ،مدركاً أن كل لحظة نغلق فيها أعيننا تعني خسارة ستين ثانية من النور.. سوف أسير فيما يتوقف الآخرون ،وسأصحو فيما الكلّ نيام.)
أخذ يستعرض شريط نصف نهاره:
- الولد الذي كان ينظر إلى قطعة الخبز في يدي.
- يجب أن لا أتناول الطعام أمام الأولاد الذين يأتون إلى المدرسة بدون مصروف. ولكنني فعلت هذا لأن مناوبتي كانت في الساحة .هل أستطيع أن أطرح على زملائي المعلمين هذا الأمر ،من الممكن أن يسخر بعضهم مما أقول ،ويقول البعض :الطلاب كذابون كلهم يحصلون على مصروف ،ولكنهم لا يعرفون الشبع.
- أم ثابت امرأة البقالة ،أخذت منها احتياجاتي ،وسجلتُ على الدفتر أسماء السلع التي أخذتها وبجانبها أسعارها ،سألتني عن انتفاخ في عيني ،قلت لها إنه من الحساسية تجاه الطباشير ،ولا يأتي التحسس إلا في فترة الربيع ،كان صوتي مضطربا ،توقعت أنها بسبب اضطراب صوتي ستظنني أكذب ،وأتهرب من قول الحقيقة ،ليتها تعلم أن صوتي اضطرب بسبب نظرتي لأول مرة في صدرها ،وجدته ضخما أكثر مما قدّرت.
يسمع نقنقة دجاج جيرانه في حوش الدار ،يتذكر أن هذا الدجاج الجار لم يبق في حديقة بيته ولم يذر أي شيء أخضر ،ولم يستطع غرس أية بذور ،وقد جرب ،وجد أن الدجاجات يستطعن نقر حبات الزرع قبل نموها ،جيرانه عائلة مصرية يعمل معيلها في مجال تعهدات البناء ،زوجته مولعة بتربية الأرانب والدجاج والبط والإوز والحبش ،لا تستطيع حبس الدجاج ليلا ونهارا في القن ،عندئذ تتسلق الدجاجات إلى سور منزله وتفعل الواجب.
فكر غير مرة في تنبيه جيرانه أن يمنعوا دجاجاتهم من النزول في حوش منزله ،لكنه تردد من باب أنهم جيران وغرباء ،ولديهم خالد وخلود طفلان سمينان شقيان وجهاهما متشابهان ،شعر رأسيهما دائما محلوق ،حتى تكاد أن لا تفرق من منهما خالد ومن خلود ،سيشعران – إن شكوت من الدجاج - أنني لا أستحق الهدوء الذي أنعم به بجوارهم بل سينالني منهما العقاب ،فيتلفان عجلات سيارتي التيوتا موديل 1982م.
وأتسلى بشجاراتهم العائلية مساء. وأفاجأ أن أم خالد تتصرف أنها مسؤولة رئيسية للبيت وربة الأسرة ،حين أسمع رجاءات أبي خالد أن تفتح له الباب :
- افتحي يا بنت.
- أفتح ليه؟
- افتحي بقولك.
- مش حفتح.
ثم تسود فترة قصيرة من الصمت.
- جبت الحاجة طيب؟
- آه جبتها .افتحي.
تطلب منه أن يريها لها من فوق السور لتتأكد. ويطلب منها أن تفتح الباب ليتفاهموا.
أبو خالد يحل حزام بنطاله ويهدد أم خالد ،وهي تتصل بشقيقها المقاول أيضا ،ذي الشنب المخيف مقود بسكليت معلق في وجهه ،أستمع لعبارات إصلاح ذات البين (دا جوزك مهما كان) ،و(دي مراتك مهما كان )وتحدد المسؤولية عما يجري وتلقى على أبي خالد الذي يقبل بها ،ثم تعلو ضحكات العائلة وهم يتحلقون حول إبريق الشاي.
عصرا يتجه نحو قناة الغور ،شرقي الكرامة يصعد فوق الجدار الإسمنتي للجسر يجد القناة ممتلئة بالماء ،طرفا حذائه إذا حركهما يبتللان بالماء.
يأتي من خلفه ثابت ابن أم ثابت امرأة البقالة ،يقول له قبل أن يرد السلام ،ما شفت أبي؟
- لأ ،هو ضائع؟
- صار له ثلاثة أيام مش مبين.
- كيف؟
- قال جيرانه في المنجرة ،إنه خرج من المنجرة إلى الشارع الرئيس وتركها فاتحة وبداخلها بعض الزبائن وكان يشرب معهم الشاي ،قام بالتأشير للباص ،وصعد به ،وللآن لم يرجع.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى