تهاني عمرو - قمة السلم.. قصة قصيرة

كانت غيوم الحزن تغرقنى، بينما أرى العيون من حولى تقدسنى، وأنا أقف خلف الميكروفون فى الأوبرا.. أعضاء الفرقة الموسيقية مُمسكين آلاتهم الموسيقية بحماس.. أرشق نظراتى فى القاعة المكتظة والتى كان الواقفون فيها أكثر من الجالسين..

لحظتها كنت أوشك على البكاء، لا تعتقدوا أنه بكاء الفرح، بل هو بكاء الغضب.. أجل.. كنت أريد أن أصرخ.. أنا لست هى.. وكيف أكون أنا هى؟.. ولم أجد أباً يحطينى بذراعيه.. يدللنى.. يأخذنى إلى أماكن جديدة لم أرها، يفتدى بفؤاده نسماتى أن تخبو، ونفسه رخيصة من أجل بسمة أرشقها فى عينيه، ولم أجد حضن الأم الآمن، الذى أختفى فيه من رعب الأكوان، فقد تخلت عنى تلك المرأة التى أنجبتنى، فمنذ ولدت ويحيط بى ذوى الأردية البيضاء فى كافة التخصصات، يراقبون همسى وصخبى.. بكائى ومرحى.. يراقبون الهواء الذى أتنفسه، ولكنهم مهما بالغوا فى تقديم كل ما يبهج نفسىّ.. فأنا أفتقد الحرية.

أننى أمقت تلك السيدة التى يقولون أننى أشبهها حتى فى نبرة صوتها القوية، مرغمة أنا منذ الصغر على تعلم الموسيقى مثلها، أمقت مهنتها.. فأنا مثلاً أعشق الرسم وأجد لذة الوحدة مع ريشتى ولوحتى، معهما أتريض فى بساتين البهجة لأرسم أباً وأما وإخوة.

أننى أمقتها، فقد حظيت هى بمراحل الهزيمة قبل الانتصار، وحتى ذلك لم احظ به، فأنا وضعت على قمة السلم منذ ولدت.. بدأت من حيث انتهت هى، ولا يدركون إنها انتهت، وأنا أيضاً انتهيت قبل أن أبدأ.

قد تظنون أننى جننت، ولكنها الحقيقة المؤكدة لدى.. انتبهت لنفسى عندما بدأت الفرقة فى عزف المقطوعة الأولى، وعندما بدأت أشدو تعالت صيحات الإعجاب، وعندما انتهيت من المقطوعة الأولى، أفزعنى التصفيق الحاد، وتعالت الأصوات تطلب منى المزيد، ولكنى شعرت بأننى فى الثمانين من العمر، وما زلت فى سنى الصغيرة.. تسارعت دقات قلبى، وغشينى الاختناق، وسقطت فى غيبوبة، حملونى إلى المستشفى، وأجروا عشرات الفحوصات لى، وجاء الطبيب الحاصل على جائزة نوبل.. نظر فى وجهى، وعلت الابتسامة وجهه، وعندما قرأ التقرير الخاص بى، استطونت وجهه علامات الكآبة، وتبادل نظرات الهزيمة مع زملائه، وطلب منهم النقاش فى غرفة مدير المستشفى، وجملته وهو يخرج من باب غرفتى المُكيفة اخترقت أذنى "إنها تعانى نفس حالتها المرضية فى آخريات عمرها"

ابتسمت.. كان الطبيب يعتقد أنه نجح فى أول استنساخ لسيدة الغناء "أم كلثوم"، وأتى بى لأكون مثلها أم كلثوم أخرى، ولكننى أمقتها وأمقتهم جميعاً، ولكن ما يزال فى عمرى أشهر معدودات.. وربما سنوات، ما أشقاى معهم!

وعندما شعرت بأنه لا أحد يراقبنى، أتجهت نحو النافذة وفتحتها.. دخل الهواء الطبيعى إلى رئتى.. تطلعت إلى السماء.. سقطت القطرات الملحية على وجهى وأنا أناجى ربى.

مرت أمامى أسراب العصافير الهائمة، فصعدت على النافذة، وفردت يدىّ كجناحين، وأنطلقت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى