جورج سلوم - أدباء الوشم.. قصة قصيرة

لا ثمّ لا .. لا وألف لا ..

لا حَيْل لي لقراءة كتاباتي ثانية

عناويني لوحاتٌ شوارعية تجعلني أحيدُ عنها عندما أراها

أحنث بها كيمينٍ كاذب .. كشهادة زور

كأنها تصيح بي أن لا أعاود السير حذاءَها

ولا قِبَل لي لتدقيق ما كتبت .. لأني لو عاودتُ قراءة أسطري سأشطبها كغلطٍ شذّ به قلمي .. وشططٍ شطَّ بي خارجاً عن النص

كأنها صرخاتٌ موجعة في كوابيسَ ليليّة .. لكنك تخاف أن تبوح بأسرارها لو صحوت فتسمّيها أضغاث أحلام .. وتخاف من تفسيراتها

لا تدقيق ولا مراجعة .. فما كُتِبَ قد كُتِبْ

ولا أدري أين يكمن العيب ؟!.. في كتاباتي ؟.. أم في الصفحات التي أكتب عليها؟


انقلبي يا كلّ صفحاتي .. حتى ولو لم تصلي إلى مبتغاكِ

قصدتُ شيئاً وكتبت أشياءَ أخرى .. ولا ذنب إلا لذاك القلم الحرون .. اربطوه قيّدوه .. قصقصوا أجنحته وأوراقه .. فالله من وراء القصد

جفِّفوا مداده .. احظروه .. امنعوه

لا لن أكتبَ ثانية على الأوراق .. فالورق رخيص

والورق الأبيض في السوق أغلى من ورقٍ كتبتُ عليه .. يعتبرونه مسوّداتٍ مهملة كورق الجرائد الرسمية


لماذا انتشر الوشم على الأجساد في هذه الأيام ؟ .. وهل غلاء الورق هو السبب ؟

انتبه .. والكتابة بالوشم صارت أدباً رفيعاً .. وتخيّل معي كيف ستكون معارض الكتب عندما يعرضون الأجساد التي تحملها .. وكم سيكون الإقبال عليها .. وكم ستكون الكتب غالية عندها !

والوشم ليس تجميلاً إلا ما ندر

إنه خربشاتٌ مؤلمة على الجلد .. ولكنها باقية ما دام ذلك الجسد حياً

ويرسمه الفنان بالشكل الذي تريده .. والمكان الذي تختاره

كلوحاتٍ ثابتة لا يمحوها الصابون .. ومعارض متنقلة على قدمين

وحاملو الوشم يريدون أن يقولوا شيئاً ولا تسعفهم ألسنتهم .. لذلك يستوشمون أنفسهم في أماكن من أجسادهم مخفيّة أو ظاهرة .. يتألّمون قليلاً وبعض الألم لذة لو غزغزْتَ نفسك بالإبر .. وقد يكون علاجاً لمن يصيح صامتاً .. وجميلٌ أن يختلط الدم بالحبر كأسلوبِ كتابةٍ مستحدث .. وحدّث عندها بلا حرج لأنك تكتب على جلدك وما حكَّ جلدك مثل ظفرك .. وهكذا غدت الأجساد أوراقنا الجديدة .. ككتاباتٍ ولوحاتٍ ورموز عابرة للحدود ..


تعالي أكتب على جسدكِ .. لأنّ جسدكِ مازال غالياً في السوق .. وسيقرؤون كتاباتي بشغف عندها ..

دعيني أرسم انطباعاتي عليكِ .. رموزاً على صغرها أكبر من رواياتٍ جسيمة

وهكذا – وبدون مقدّمات - استسلمَتْ لقلمي الوشّام .. وغدت ورقتي البيضاء المستسلمة أخطّ عليها بقلمي وتتأوّه لذّة وأتأوّه استلذاذاً !

والوشم الأول (أو الصفحة الأولى ).. كان على كتفها كفراشة لا تطير .. ولكنها تحلّق بك

والوشم الثاني كان على كاحلها .. كحيّة ملتفّة وآيلة للتسلّق .. لا تلدغ ولكنها تترصّد من يحاول الصعود .. والوشم الثالث والرابع والألف كانوا غير مكتملين .. كرواية عجز مؤلفها عن ختمها لأنها لم تصل إلى الصفحات المحرّمة

والوشم عند تلك المناطق المحرّمة من الجسد يجعلك تصل إلى الخاتمة .. ولو كان بكلمة واحدة


وهكذا تقرأ قصتك الجديدة كل يوم من على صفحات جسدها .. وقراءة الصفحة هنا يحتاج زمناً وترجمة وتفاسير عديدة ..

ولن أنسى عندما قالت لي :

-ألم تملّ قراءة هذا الوشم ؟.. اقلب الصفحة فترى كتاباتٍ ووصمات أخرى على ظهري

قلت:

-لا ..لم تشبع نفسي من التأمّل والجس والطبطبة والقرع وحتى الإصغاء لهذه اللوحة الإعجازية النابضة .. وحتى ولو تقلّبْتِ مراراً لتريني لوحاتك الظهرية ..


تقلّبي إن شئتِ ففيك آلاف الصفحات التي أقرؤها لوحدي .. فأنا الكاتب وأنا القارئ وحذار من النشر هنا

جسدك أكبر من أي كتاب أو مجلد .. جسدك موسوعة ومكتبة عامرة بالحب .. وتمثال نحته الخالق بتؤدة .. وما أقوم بإضافته مجرّد زركشاتٍ فقط !

وجميلٌ أن يكون لديكَ كتابٌ واحد لا تملّ قراءته .. كتابٌ دافئ تلتحف صفحاته .. وحنون تبكي بين كلماته .. وناطق يكلّمك لو اخترت الصمت اختياراً .. وفسيح تمخر عبابه .. وعميق تغور بين ثناياه وأفواته حتى الثمالة



تقلّبي يا وريقتي الوحيدة بين يديّ فقط وحذار من نشر ما كتبت.. فكتابي هذا ليس للعرض ..

وتبعثري كأوراق الخريف يا كل أوراقي الصفراء السابقة .. فالأرض في حديقتي عجّت بأوراقيَ الساقطة .. أوراقي كلها ساقطة أثقلها العهر والقهر فصارت رخيصة .. واختلطت بحشائش الأرض الطفيلية .. وتعرّضت للوطء الذليل والكلُّ تدوسه الأقدام .. والكلُّ آيلٌ للزوال

النار ستطهّر كل شيء لأنها تأكل الأخضر واليابس .. والنار ممحاة الأرض لا تكنسها كالريح بل تمحقها .. تمحوها عن بكرة أبيها .. والجراد إن أتاها فهو كاذب إذ يختار الأخضر منها فقط

ما أجمل الأرض بعد قوم ثمود بعدما أمطرتهم السماء ناراً وكبريتاً .. عادت الأرض بعدها جديدة نظيفة .. كطفلةٍ بريئة تتعلم الحياة من الصفر

دعونا نكتب على أجسادنا .. بالقلم الموصول بالكهرباء ككتابة عصرية كتقليدٍ للكي بالحديد المحمى الذي ابتكره الأسبقون

والكي كان معمولاً به لإخراج الأرواح الشريرة .. وقد لا يخرجها .. قد يسكتها فقط

والكي على الأجساد نوعٌ من الكتابة .. لذلك كانوا يكوون الأسير ليذلّونه .. ويطبعون عليه شعاراتهم كوصمة عار .. ويكوون العبد ليكون ملحقاً بسيده .. وهكذا يصبح كل واحد منكم ممهوراً بختم المصنع

وقمة الحرية عندما تختار ما سيكتبونه على جسدكَ .. من شعارات وأختام ورموز

وقمة الإخلاص عندما تموتين وتبقى كتاباتي على جسدك محميّة من النشر .. ومحظورة على الغير .. فيدفنونها معك وتبقى حيّةً ما حييتِ .

*******************
د. جورج سلوم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى