كلشان البياتي - تقرير مخبر.. قصة قصيرة من أدب المقاومة

في المكان ذاته، وقفت للمرة العاشرة، تطيل التحديق إلى البيت الفخم حيث يصعب عليها إحصاء عدد نوافذه المطلة على الشارع العام، وإحصاء عدد الأبواب،لكن هناك شرفتان فقط،وتوجد في البيت ما لا يقل عن عشرين نافذة جانبية وكم هائل من الأبواب، وفي الداخل هناك شرفة تطلّ على صالة الجلوس، وغرف البيت مختلفة في المساحة، ذات أشكال هندسية مختلفة:مربعة الشكل أو مستطيلة بينما بنيت الصالة لوحدها على شكل مخمسّ ...

حيثما تقف كل يوم،يقف شرطي يراقب حركتها، ويحصي خطواتها، كتب في تقريره اليومي، جاءت هذا اليوم أيضا ووقفت خمس دقائق وأطالت النظر إلى البيت الفخم المهجور..

في تقرير سابق، دونّ وفي أحدى خفارته المسائية : إنها تطيل التحديق إلى البيت بعينيها الجميلتين الساهمتين، اشك إن تكون إرهابية .. إنها امرأة جميلة ذات هندام جذاّب، جسمها يجذب الواقف البعيد عنها.

منذ فترة طويلة،وتحديدا،عندما فرغ البيت وعلمت انه هاجر إلى بلد أخر،أدركت إنها بقيت وحيدة، وانه اختار السفر مرغما،الحياة هنا ضاقت به رغم تعلقهّ الشديد بالبيت... لكنه الاحتلال والحرب ، يرغمك على فعل ما لاترغب، وكان أمام خيارين لا ثالث لهما.. يضحيّ برأسه وحريته أم يضّحي بها وبحبها...؟أطالت التحديق إلى أعلى البيت،وقالت هذه غرفة النوم كنا نتمدد فوق أّسرّتها، وتلك غرفة الصالة كنا نجلس فيها،وهنا المطبخ أعددنا فيه القهوة معا، نظرت إلى البيت وتنفست الصعداء، أدركت انه ترك لها بيتا تخزن فيه أمالها وذكرياتها وأحلامها الجميلة.

تأتي وتقف أمامها،تحدقّ فيها من بعيد،توقف سياراتها وتحدّق من نافذة السيارة، مرة واحدة فقط ترجلت منها ووقفت ساندة ظهرها للسيارة،كانت هذا في المرة التي شعرت فيها بالحنيين إليه،وكان درجة الشوق عندها قد تصاعد،وبدأ الحنيين يسري إلى قلبها، وجسدها يتآكل شيئا شيئا، إنها تذبل، والحنيين ينخر رأسها، وليس أمامها سوى تأمل هذا البيت التي تخزن في كل زاوية وركن فيها- بقايا ذكريات جميلة.... لكل محب ذكريات ، وذكرياتها هي مخزونة في هذا البيت، في ذلك الشارع، في السيارة،رأسها مقفل على بقايا ذكريات لا تسد حاجة النفس.

تتمنى لو يتسنى لها الدخول إلى هذا البيت وتبقى فيه لبضع ثواني إلا إنها تخشى الجيران والمارة الذين قد يشكون فيها ويتهمونها بمحاولة السطو أو السرقة..

اكتشف إنها تأتي في أوقات متفاوتة وتحدّق من نافذة السيارة إلى البيت الكبير، تقصّى عن البيت وأدرك إنها مهجورة منذ فترة ، وهي خالية من الأثاث والأمتعة وتسأل لماذا تطيل النظر إليه...؟

يدور في خلده أسئلة كثيرة ويحلل الأمور بأكثر من طريقة ، أنها ليست لصة ولايمكن أن تكون إرهابية،ربما تكون مخبر سري تابع لأحد الأجهزة الأمنية .. نعم ممكن أن تكون هذا وممكن أن تكون قد جندت لمراقبة صاحب البيت المهاجر،أيكون متهما في قضية ما وهرب وتم تكليفها بتتبع أخباره من خلال البيت.

ينهض من النوم باكرا، ويلتحق بالدورية التي تؤدي واجبا في تلك المنطقة، يـنتظرها بفارغ الصبر، لقد اعتاد على رؤيتها وأصبح موضوع مراقبتها ممتع جدا له، يساوره القلق عندما تتأخر أو تبطي في القدوم،إنها مواظبة على الحضور، حريصة أن تأتي في الموعد وتقف دقائق ثم تغادر تلاحقها غبار عجلات سياراتها.

تقدم إليها عندما رائها تقف وتطيل التحديق في البيت،شعر بحزنها لكن الشعور بالراحة تتجسد في عينيها بينما تقف الدموع على ألإطراف،أراد أن ينقل لها قرار مسؤوله ويخبرها أن الوقوف في هذا المكان تعد مخالفة،الوضع الأمني ليس على ما يرام،الإرهابيين يستهدفون عناصر الشرطة وهم يخشون أن يستغل المكان لأمور أخرى، مدرعات وناقلات جنود المحتلين قد تمر من هنا،وقد تتعرضين لإطلاق نار من قبلهم، قرر أن يقول لها : انك امرأة جميلة وجذابة ووقوفك هنا يشكل خطرا عليك،ممكن أن تكوني مستهدفة وتتعرضي لرشقات من أطلاق نار تصيبك بالخطأ ،قد تكوني إرهابية في نظرهم وان كنتي عاشقة....

اجل سيدتي،حتى الطير ممكن أن يتهم بالإرهاب،والخراف والماشية قد تتهم بالإرهاب،أنا خائف عليك،أرجو أن تبتعدي وتغادري المكان، حاول أن ينبس بكلمة لكنه شعر انه فقد القدرة على الكلام.

سبق له أن كان عاشقا أيضا ومرّ بلحظات مثل هذه،يذهب إلى بيت حببيته،يقف في ركن أو زاوية،أو يقف أمام البيت، دون أن يجرؤ على الاقتراب منه،ويتأمله رأسا على العقب، هذه هي حال العشاقّ ..

كتب في تقريره لذلك اليوم :" ليست إرهابية،لكنها عاشقة، لا أجد سببا معقولا لمنعها من الوقوف في ذلك المكان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى