جمال القواسمي - أحـــلام.. قصة قصيرة

نظر الى ساعة أبيه، الذي كان يوضِّب ثلاجة المرطبات. كانت الساعة الثانية والثلث. القى نظرة على الشارع البعيد. سمع أباه يصرخ، "فؤاد، احضر صندوق كازوز! هيَّا! اسرع!" هزَّ رأسه وذهب الى المخزن وقدماه تلتهمان المسافة التهاماً. تعثَّرت قدمه اليسرى بحجر فسقط أرضاً، ثم نهض متثاقلاً، وعاد سريعاً الى والده ومعه نصف صندوق من الشراب.

- " ألم اقل لك صندوقاً كاملاً؟" تساءل الوالد حانقاً.

- " نعم، ساُحضر البقية الآن!" قال فؤاد وهو يهزُّ رأسه. كان يفكِّر بشيء ما اقلقه مؤخَّراً، وهو أنَّ كل شيء اصبح ثقيلاً، لسبب لا يعرفه. نسي الفكرة حين شاهد مجموعة من الفتيات وهنَّ في لباسهنَّ المدرسي الموحَّد الجميل. بلع ريقه، واختلس نظرة اخرى الى ساعة أبيه.

- " ماذا تنتظر ايُّها الكلب؟ هيَّا، احضر النصف الآخر!" نهره والده لتلكُّئه وخيبة أمله فيه.

انطلق فؤاد فوراً، وعند المنعطف اصطدم بطفل لا يتجاوز الثالثة، فوقع فؤاد على ركبته اليسرى وآلمته ألماً شديداً، فبكى، وراح يعتذر للطفل الذي لا يعي، "آسف، واللهِ لا اقصد!!" ثم تركه، واحضر بقية الصندوق وهو يعرج. نظر فؤاد الى ساعة أبيه: الثانية والنصف إلا قليلاً.

وانسلَّ فؤاد الى حيثُ الاولاد، وقال في نفسه بصوت خفيض، "ما هي إلا بضع دقائق!"

- " اين؟" سأله أبوه بنرفزة.

- " هناك، مع الاولاد.. "

- " اقعد هنا ولا تتحرك! لا وقت للعب! ألا ترى السائحين يحتاجون الخدمة؟ امكث هنا، افهمت؟ "

بعد دقائق رآها آتيةً من مسافة بعيدة ترتدي المريول الاحمر والكحلي، والضفيرة الشقراء تتدلَّى خلف رأسها، وعيناها الزرقاوان تارةً والخضراوان تارةً اخرى تلمعان بدفء غامض يسري في جسده الفتيّ، ويفتنان عينيه، وبشرتها البيضاء الناصعة كالياسمين رقيقة شهية تحلِّب ريقه. اختلس نظرة اخيرة قبل ان تختفي بين جموع الناس، وانطلقت من فمه "آه! "

لا بُدَّ ان يتبعها حتى روضة دير الأرمن، حيثُ يلعب الاولاد، وحيثُ تمرُّ احلام من هناك كلَّ يوم في طريقها الى البيت الواقع عند المدرسة العمرية. وجرَّ فؤاد نفسه شيئاً فشيئاً، ووالده مشغول بالبيع، حتى وصل عيادة الدكتور امين. كان شارع الآلام، وهو الشارع الذي تعذَّب فيه سيدنا المسيح عليه السلام، طويلاً، الأمر الذي يستغرق احلام وقتاً ليس قصيراً لتقطعه.

وشارع الآلام شارع فؤاد وحده حين تمشي عليه احلامه. هكذا يفعل كلَّ يوم: يتسلَّل رغم بطش أبيه ونهيه الى نهاية الشارع ليرى "احلاماً" اطول مدة ممكنة، فينتعش قلبه، ويحسُّ بالبهجة واحاسيس لم يعرفها من قبل. ومرَّت احلام من امامه. كان بين لحظة واخرى ينظر إليها حتى اختفت عن الانظار. واقترب منه ولد جاء يتحرَّش به. كان فؤاد هزيل البُنية ضعيف الجسم، دوناً عن الاولاد جميعاً. وكان الاولاد يضربونه، حتى اولئك الاصغر منه سناً وحجماً، وبين الفينة والاخرى يطعمونه وجبة طازجة، يكيلون له فيها اللكمات والركلات.

- " ابتعد عني يا جابر، انا لا امزح معك!" قال فؤاد لجابر وهو خائف.

فقال جابر وهو يضحك: "لا اُريدك ان تمزح معي، أيُّها الجبان! لكني سامزح معك قليلاً! "

يدري فؤاد كيف يكون مزاح جابر. سيصفعه جابر صفعةً، ويطلب منه ان يردها ويستردَّ شرفَه. وفؤاد لن يردَّ الصفعة. لن يقوى على ذلك. وآنئذٍ سيقرِّب جابر خدَّه الى فؤاد، ويعقد يديه خلف ظهره، ويقول لفؤاد: "تفضَّل، اصفعني!" لكن فؤاد لا يصفع.

- " لماذا لا تصفعني ايُّها الجبان؟" صرخ جابر، ثم تضرَّع بنبرة مضحكة وقال: "اصفعني! "

فضحك كل الاولاد.

- " ام أنَّك شاطر فقط في المدرسة؟ وتقول للاستاذ انني اُمضي وقتي كلَّه باللعب في الشوارع، ها؟.. "

- " لستُ واشياً.. "

- " كاذب! شايف حالك، على ماذا؟ وضحكتَ عليَّ لمَّا ضربني ذلك الاستاذ البليد، ها؟ لكنك الآن على وشك البكاء! اعرف شيئاً أيُّها الجبان، أيُّها الأول في الصف: انا لا اخاف استاذك! ولا اخاف احداً.. هيَّا اصفعني.. كُن رجلاً.. منشان الله، اصفعني.. اصفعني، ابوس يدك، ابوس رجلك، ابوس طـيـ.. اصفعني!.." صرخ جابر في وجه فؤاد والاولاد يقهقهون بجنون. وفؤاد لم يتزحزح قيد أنملة. وسُرعان ما انهال عليه الاولاد، فصفعوه وضربوه في وجهه وصدره وبطنه، أمَّا جابر فقد اقصاهم عنه، وركله في رجله اليسرى، تماماً تحت الركبة، حيثً احسَّ بالآلام الحادة مؤخَّراً. فبكى، واصابه حزن شديد لأنَّ الاولاد أخذوا ينادونه: "يا جبان! يا جبان!" وجد شيئاً من العزاء حين سمع صوت أبيه. فتفرَّق الصبية عنه، وعاد الى البسطة وهو يمسح آثار الدموع المترقرقة في عينيه.

-" اين انتَ يا خسيس؟ ابحث عنك منذ مدة، وادعوك فلا تلبي ندائي؟!" صرخ والده وطبع صفعة على خدِّه، فلمح بريق دموعه في عينيه، "ما هذا؟ ما بِكَ؟ أنتَ تبكي؟ أجعلتَ احداً يضربك؟ آهٍ منك ايها الجبان؟ اتخاف ان تدافع عن نفسك؟!" صرخ والده فيه، وصفعه صفعة أخرى.

ذهب فؤاد وجلس على درجات مستشفى الهوسبيس. إنَّه يحب تلك الدرجات كثيراً. الجلوس هناك يعطيه مجالاً افضل ليرى كافة الاتجاهات. نعم، الاجنبيات جميلات يسلبن عقول رجال الحيّ، فيمضون معظم يومهم في الكلام عن هذه وتلك. ولا بُدَّ أنَّ كلَّ مَن رآه كان يستغرب كيف لفتى في الثالثة عشرة، اسمر الملامح، ذي شعر اسود، وشفتين عريضتين منفرجتين، ووجه ينمُّ عن اقبال للحياة، ان يكون هادئاً، صامتاً، ساهم العينين كأنَّه شيخ متزهد هزيل الجسد لا يعيش إلا على الخبز والماء.

لكن فؤاد لم يكن يرى الاجنبيات حسناوات ولو كُنَّ مزلَّطات او متبرِّجات. كان دوماً يرى "احلامه" ويفكر بها. ثمة شيء غامض يربطه بها. في الوقت ذاته، كان يحِسُّ بشيءٍ آخر ويفكِّر به كثيراً وهو جالس على درجات الهوسبيس: وهو كثرة وقوعه والآلام التي تلسعه من حين لآخر في رجله اليسرى. لم يقُل لأبيه شيئاً ولا لأي شخص آخر. كثيراً ما قال في نفسه: "لماذا اقول له؟ سيضربني ويقول لي: هل تريد ان تذهب الى البيت وتترك البسطة؟ ها؟ "

في اليوم التالي حدث شيء لم يتصوَّره أبداً. كان آنئذ في المدرسة. طلب من الأستاذ ان يسمح له بأن يبول، فأَذِنَ له. كان يشعر بحاجة جامحة للتبول، فركض الى الحمام، فتعثَّر وسقط أرضاً. كانت رجله اليسرى تؤلمه بشدة. ورغم انَّه نهض واكمل مسيره إِلا أنَّه لم يستطع ان يسيطر على نفسه، فبال في ملابسه رغماً عن إرادته قبل ان يصل الى الحمامات. رآه المدير، فرثى لحاله وأذن له بالرواح. إنَّه من اوائل الطلبة وسيعوِّض دروسه بلا شك، هكذا فكَّر المدير.

في الصف ضحك عليه جابر والتلاميذ وحتى الاستاذ. خرج فؤاد من غرفة الصف منكِّساً رأسه، عاجزاً، ضعيفاً، يحتقر ذاته. حتى والده عنَّفه وصفعه ونعته بـ "الشَّخَّاخ"، وأمره بأن يذهب الى البيت ويستحم ويعود الى البسطة. عاد إليها، ووجد اباه يشكو سوءَ حظِّه به لأهالي الحارة. ما احزنه اكثر هو تردُّد لقب "الشَّخَّاخ" على السن بعض الكبار والاولاد، فانزوى عند درجات الهوسبيس كئيباً. وأخذ ينتظر صديقه جاسم، الذي يخرج من مدرسته في الساعة الثانية تقريباً. كان كلاهما زميلين في الروضة والمدرسة الابتدائية. ورغم أنَّ ابا جاسم نقل ابنه من مدرسة فؤاد لأنَّه لم يكن راضياً عن مستوى ابنه الدراسي، فقد اشتدت اواصر الصداقة بين فؤاد وجاسم اكثر من ذي قبل.

- " جاسم، مرحباً! "

- " رأيتُكَ من بعيد، فجئتُ لأرى احوالك.. وتحرُّكاتك!" قال جاسم وهو يضحك. كان كلاهما يتبادلان اسرارهما الخاصة عظيمة الشأن، التي تتعلَّق، في نظرهما، بقصص الحب التي تؤرِّقهما. وكانت كلمة "تحرُّكات" مصطلحاً خاصاً بهما لا يفهمه احد. كان جاسم ممتلىء الجسم، ابيض الملامح، وشعره بني خشن. وكعادته كان يقهقه حالما يسأل فؤاد عن "تحرُّكاته" لأنَّ جاسم كان يعرف أنَّ فؤاد فاشل في الحبّ، بل وكان يدعوه بــِ "الخائب! "

فاجابه فؤاد حالاً: "لماذا لا تقُل انتَ ما تحرُّكاتك؟ "

اقترب جاسم من فؤاد، وقال وهو يضحك: "امس، رميتُ لها قصاصة ورق، وكتبت عليها: سندرس على السطح! انا انتظرك فوق.. ثم انتظرتها.. "

- " وهل جاءت؟" سأل فؤاد باهتمام.

- " طبعاً! هه هه هه... "

- " هل عرفت اسمها؟ "

- " اسمها نجوى. إنَّها جميلة جداً، أتعرف ماذا حصل؟ "

- " ماذا؟ "

التصق جاسم بفؤاد وقال: "لقد هربت نجوى مني.. هربت.. هربت بعد ان لمستُ يدها وامسكتُ بها.. لكنَّها كانت تضحك! "

فقال فؤاد بحِدَّة: "لماذا امسكتَ يدها؟ لقد أخفتها وجعلتها تهرب.. يجب ان تصادقها، أن تكونا صديقين! "

- " لكنَّها كانت تضحك! قسماً بربي.. إنَّها تحبُّ ان المسها. كانت تضحك!"

- " انتَ لا تعرف ما هو الحبّ! مَن يُحِبُّ احداً لا يُخيفه ولا يُزعله!" قال فؤاد بهدوء، وهو ينظر الى الشارع البعيد.

- " يكفي أنَّك وحدك تعرف معنى الحبّ، لكن قُل لي ماذا فعلتَ انتَ؟ "

- " لا شيء.. "

- " لا شيء؟" تعجَّب جاسم، "لا شيء على الاطلاق؟ يا لك من خائب.. "

- " لستُ خائباً يا جاسم، لكنني.. انتَ تعرف.." دافع فؤاد عن نفسه.

- " رُبَّما يجدر ان ادعوك "راهب!" خلال يومين رأيتُ نجوى، قابلتُها، وتكلَّمنا ولمستُ يدها. وانتَ منذُ بداية السنة تحكي عن احلام ولا تفعل شيئاً.. "

لم يقُل فؤاد شيئاً، وراح ينظر نحو الشارع البعيد.

- " ولماذا لم تفعل شيئاً؟ "

- " لا استطيع ان اتكلَّم.. إني استحي.. "

- " هاه، حسناً، وجدتُ الحلَّ: اُكلِّمها عنك وهي في طريقها الى البيت؟ "

فقال فؤاد بانفعال: "جاسم، لا تفعل هذا أبداً، أتفهم؟ لا تفعل هذا أبداً! "

- " طيِّب!" قال جاسم بعنف، ثمَّ لطَّف نبرة صوته وسأله ثانيةً، "هي في طريقها الآن الى هنا، صحيح؟ "

فقال فؤاد "نعم" بلامبالاة، وبعد دقائق معدودة عانق رأس صديقه، لكي يُريه احلامه، "هناك، ها هي قادمة، تلك.. لا تُحرِّك رأسك.. تلك التي الى يسار المجموعة.. ذات الضفيرة! "

- " إنَّها جميلة جداً!" قال جاسم ليغيظه، ويلهب غيرته التي يعرفها جيداً.

- " ماذا؟ "

- " لكن نجوى اجمل منها! هه هه.." قال جاسم وانفجر ضاحكاً، وجسمه المكتنز يهتزُّ مرحاً.

- " فؤاد! فؤاد!!" دعاه والده، وصفعه، "انا اذهبُ الى مشوار صغير، وانتَ سُرعان ما تترك البسطة، ها؟ "

لماذا صارت احلام لا تفارق ذهنه وخاطره؟ لماذا كان يفكِّر بها دوماً؟ وما الذي يجعله احياناً لا يسمع نداء والده فيتعرَّض للصفع والإهانة؟ ما السرُّ في هذه المخلوقة الذي يستولي على لبه وقلبه؟ في مساء ذلك اليوم، وبينما هو ووالده يُغلِقان البسطة، أتت احلام نفسها الى البسطة. وقفت امامه، ووقف امامها. تبادلا النظرات. طلبت زجاجتي عصير، فاعطاها.

لم يقُل شيئاً. حتى أنَّه لم يبتسم، بل ظلَّ مشدوداً اليها. وذهبت. لم يُصَدِّق أنَّها وقفت امامه، وتحدَّثت معه، حتى أنَّها سألته: "يوجد عصير برتقال؟ اريد زجاجتين!" ولو قالت له: "اُريد قلبك!!" لأعطاها. وذهبت. خفق قلبه وهي امامه بايقاع سريع لم يشعر به من قبل. وما اشعره بالخجل من نفسه في اعماقه الدفينة العميقة أنَّه لأول مرة أراد بل اشتهى أن يقبِّلها. وذهبت. كانت قريبة منه، حتى أنَّ اصابعه لامست اصابعها حين ناولها العصير. وذهبت. كانت احلام امامه، قريبة، وحقيقة تنبض بالحياة والحركة والحُسن. لكنَّها ذهبت. حقاً ذهبت. هكذا، وبكلِّ بساطة، كأنَّها حلم اعتراه ذات ليلة؛ وبعد ان استيقظ من النوم، تلاشى الحلم ولم يعُد له وجود. استيقظت امه في الليل على صراخه، ووجدته يهذي: "احلامي! احلام!.." فايقظته وطمأنته قائلة انه مجرد كابوس، لا غير.

استأنس فؤاد بالليل والهدوء. حاول ان يستعيد ما رآه في الحلم ففشل. تمنَّى ان ينقضي الليل بسرعة، وتنتهي الدراسة، ويلتقي بجاسم ليحكي له ما جرى مع احلام التي اشترت منه عصير البرتقال. لكنه، في اليوم التالي، آلمته ركبته اليسرى ألماً شديداً، حتى أنَّ المدير اعطاه إذناً بالرواح. فذهب الى أبيه وهو لا يستطيع تثبيت قدمه اليسرى على الارض، مما جعله يتكيء على الحائط ويده. فأخذه والده الى عيادة الهوسبيس، وانتظرا الطبيب زمناً طويلاً. وبدأت نوبة الألم تخفُّ، وكادت تتلاشى. ثمَّ دخلا غرفة الفحص.

- " نعم!" تمتم الطبيب، مُبدياً اهتماماً خاصاً، "سنجري بعض الفحوص: اشعة، دم، بول... "

- " هل يوجد شيء يا دكتور؟" استفسر الأب باضطراب.

فقال الطبيب بتردُّد، "سنجري الفحوص. سنرى. "

بالصدفة رأى فؤاد ساعة الطبيب تشير الى الثانية والنصف تقريباً، فتساءل مُتلَهِّفاً على الخروج: "هل استطيع ان اعود الى البسطة؟ "

فاجابه الطبيب: "كلا، سنجري بعض الفحوص البسيطة. "

- " لكن لا يوجد ألم، الآن!" أكَّـد فؤاد.

- " اعرف. سنأخذ وقتا قصيراً فقط. "

تخيَّل فؤاد احلام وهي تأتي من بعيد، ثم تمشي امام البسطة، فالهوسبيس فشارع الآلام حتى المدرسة العمرية، ضفيرتها تتدلَّى خلف رأسها، جبهتها الغراء وخدَّاها المورِّدان. عاد بذاكرته الى مساء أمسه، حين جاءت تتهادى امامه واشترت العصير، وذهبت وهي تركض، وشعرها الاشقر المتموج يدفعه الطوق الى الخلف، وعيناها الزرقاوان تارة والخضراوان تارة اخرى تلمعان بدفء. تخيِّل كيف ستبدو في الغد وهي عائدة من المدرسة، وتخيِّل انهما تلاقيا وتكلَّما.

بعد اسبوعين حافلين بالتردُّد على المستشفيات والمختبرات الطبية لاجراء فحوص اخرى، قال الطبيب لأبي فؤاد: "ساُعطيك عنوان طبيب عظام مشهور، رغم يقيني أنَّه لن يستطيع أن يدُلَّك على علاج او دواء لأبنك. يؤسفني ان اقول لكَ أنَّ مرضاً خبيثاً يستوطن عظام رجله اليسرى. وتأكَّدنا أنَّ الرجل اليمنى مصابةً أيضاً، لكنَّها في مرحلة تمهيدية. سيكون هذا الصبي معاقاً طيلة حياته! رُبَّما كان من الافضل له ان تُبتَر ساقـاه." قال الطبيب، لكن ثمة صراخاً انفجر فجأةً في العيادة، "يا دكتور، الحق يا دكتور.. حالة طارئة، بسرعة.. "

ترك الطبيب فؤاد واباه، وخرج من غرفة الفحص. سمع فؤاد كلام الطبيب وفهمه. لأول مرة آلمه شيء ولم يبكِ. حتى أنه رأى اباه ينشج كالاطفال، ولم يفعل مثله. اكتفى فؤاد بأنه استسلم لأبيه، الذي حمله بيديه القويتين، واسنده على صدره وراح يربِّت على ظهره برفقٍ وحب. وحين خرج فؤاد من غرفة الفحص، رأى منظراً مخيفاً جعله ينفجر بالبكاء بلا وعي. رأى "احلاما". كلا، لم تكن احلامه الحقيقية. كانت مُسَجَّاةً على ظهرها وقد اختفى وجهها، ولُطِّخ شعرها الاشقر وجبهتها الغراء بالدماء والقبح والرعب، وتمزَّق زيُّ مدرستها الاحمر والكحلي واظهر جسداً مبعوجاً محطَّماً. وكان الطبيب والممرضات قربها وهم يائسون.

- " يا له من سائق طائش!" قال شخص ما.

- " ما زالت طفلة!" قال آخر.

- " إنَّها ميتة!" قال الطبيب بأسى.

وأخذ فؤاد يبكي، يبكي بحرقة وألم ومرارة، ويقول بصوت خفيض غير مفهوم، وعيناه مُسمرتان على جثة الصبية، "احلامي! احلامي! قتلوا احلامي! قتلوا احلامي! "


12 آب 1985

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى