ممدوح فراج النابى - محمد بك نور.. القاضي الذي انتصر لحرية الفكر والإبداع

في مقدمة كتابه »محاكمة طه حسين« الذي حوي التقرير الفني الذي كتبه وكيل النائب العام في وقتها محمد نور بك، يتساءل ويتعجب في آنٍ معًا الكاتب الرّاحل خيري شلبي عن هوية القاضي وثقافته، فوصف ما كتبه علي أنّه »بحث علمي وصياغة أدبيّة رصينة« قبل أن يكون مجرد تكييف قانوني أو محضر تحقيق مُقدّم للقضاء ضمن وثائق قضية.
بهذا الحكم التاريخيّ الذي جاء في نهاية تقريره ولم يزد عن ثلاث كلمات »تُحفظ الأوراق إداريًّا« لم ينصف فيه كتاب طه حسين بقدر ما أنصف حرية الفكر والرأي قائلاً: »هل مثل هذا النائب صنعته النهضة الثقافية التي كان طه حسين أحد أعمدتها الأساسية؟ أم أن أمثاله هم الذين صنعوا تلك النهضة الثقافية التنويرية؟ ينتهي شلبي بعد توالي الأسئلة والتصاوير المتداخلة التي تعكس حالة من الفخار والإجلال لهذا القاضي الذي عَثَر علي تقريره في واحدة من أهم قضايا العصر الحديث وانتصر فيه للعقل وحرية الرأي معًا »أن طه حسين وهو يجلس بكل ثقله وجلاله وقدره أمام هذا النائب العام الذي ربما كان من تلاميذه خارج الجامعة كان في الواقع يجني ثمرة غرسه الطيب، فها هي ذي جهوده وجهود أنداده قد أينعت رجالاً في مواقع السلطة يقدرون قيمة العلم وقيمة العالم وحرية البحث«.
حرّاس الأخلاق ومُلّاك الحقيقة
يُصرُّ خيري شلبي علي صدمتنا عندما يقرن محاكمة نصر حامد أبو زيد والانتهاء بتطليقه من زوجته الدكتورة إبتهال يونس إلي قرعنا بهذه الجملة »لكن الثقافة في زمن طه حسين قد انتصرتْ وخرجتْ من المعركة سالمة، وَحَسم القضاء المعركة لصالح حرية البحث العلمي وحرية الرأي«. الطريف أنه عندما كتب خيري شلبي مقدمة الكتاب للطبعة المصرية والتي صدرت متأخِّرة عن طبعة بيروت، كانت قضية الدكتور نصر مازالتْ تشغل الأذهان بنتائجها الصادمة، وهو ما اضّطره لعقد مقارنة سريعة وغير عادلة عن ظروف المحاكمتيْن لطه حسين في نهاية الربع الأول من القرن العشرين، ومحاكمة نصر حامد أبو زيد في نهاية العقد الأخير من القرن العشرين، وما انتهت إليه المحاكمتان من دلالات تعكس أوّل ما تعكس حالة الجمود والتزَمُّت التي واجهت مسيرة التنوير في مصر في عقودها المختلفة، وهو ما يشي بحالة من التربُّص والريبة من معسكر الإقصاء والتكفير والمصادرة هذا من جانب، ومن جانب ثانٍ تعكس ما آلت إليه العقلية العربيّة في ظلّ ثقافة انغلقت علي نفسها لدرجة التكلُّس، رغم محاولات الانفلات والتمرُّد منذ بدايات النهضة والبعثات المصرية التي أوفدها محمد عليّ إلي الخارج، ووصل بها الأمر إلي أنْ تخضعَ لحُرَّاس الفضيلة ومُلّاك الحقيقة وحدهم، فانهزم العقل في معركته مع جحافل الظلاميين. في مُفارقة بين زمنييْن وسياقيْن مختلفيْن. ومن سياق معركة نصر حامد أبو زيد وما أعقبها مِن موجات حضّ وكراهية وصلت إلي التكفير يتساءل خيري شلبي في تعجّب: »تُري هل تنتصر الثقافة اليوم في بلدنا في هذه المعركة الشّرسة الدامية التي لم يحدث لها مثيل من قبل؟« ومع أن الأجواء كانت تُنبئ عن نهاية المعركة بعكس ما انتهت إليه معركة طه حسين، وهو ما يظهر في جوابه الملئ بالشّك والتوجسّ مِن القادم فيقول: »يكاد الشّكُ في ذلك يقتلني فبعد ما يقرب مِن ستين عامًا علي انتصار الثقافة الحرّة في قضية طه حسين يعود بنا المجتمع إلي أوحال العصور الوسطي، فتكرّر الواقعة بحذافيرها مع الدكتور نصر حامد أبو زيد« ثم يسرد قضية الدكتور نصر وصولاً إلي نهايتها المُفْجِعَة التي كانت تأكيدًا لهزيمة العلم في مواجهة خفافيش الظلام بأن أخذت الجامعة »تقرير التكفير وحرمت الأستاذ من أستاذيته، وضربت عرض الأفق بكلّ موجات الاحتجاج والاستنكار التي انبعثتْ في كلّ مكان علي جميع المستويات« لكن لو أطال الله في عمر الأديب خيري شلبي ورأي ما يحدث الآن في قضية أحمد ناجي ورئيس تحرير أخبار الأدب طارق الطاهر، لهاله الأمر ولربما أُصيب بالفزع علي هذه الرّدة التي أعادتنا إلي عقود قديمة مضت وانطوت صفحتها، فمع مرور عقد ونصف من الألفية الثالثة إلا أننا نعود إلي محاكمة الإبداع كما حدث في قضية طه حسين في الربع الأول من القرن العشرين، لكن في ظلِّ وضع معكوس فمع التشدُّق بمصطحات الحرية والتنوير والليبرالية إلا أنّ الوضع أكثر تأزُّمًا ومساحة الحرية تأخذ في الضييق حتي صار ثقب الإبرة أوسع منها.
أساس المحنة
لكن الحقيقة المهمة التي يخلص إليها الكاتب خيري شلبي وهو يقرأ وثيقة أدبية تعكس رحابة عصر كان أعلامه طه حسين والعقاد وأحمد أمين، أنَّ المِحَنَ التي أوقعت الكثير في شبائكها يُرْجِعُها شلبي إلي الخطاب الدينيّ، فهو بتعبيره »أساس المحنةِ؛ لأنه بجهالته وتخلُّفه وجموده وقيامه علي خرافات وأضاليل وحقائق مغلوطة يوقع الناس في بلبلة ويكرِّس لمزيد من التخلّف ويحجب لآلئ الدين الثمينة عن العيون« ويتوسَّعُ في انتقاد الخطاب الدينيّ الذي هو أساس المحنة؛ لأنّه حسب رأيه في ظلِّ هذا الخطاب السّائد »ينشرُ الفهم الخاطئ للدين ويؤدّي بالضرورة إلي أنْ تجفَّ الينابيع الفكرية والحضارية للدين ويقع الانفصال التام بينها وبين الناس«.
القاضي المستنير
محمد بك نور رئيس نيابة مصر كما كان يُطلق عليه صاحب أشهر تقرير قدم
للمحكمة بعدما تَلقي النائب العمومي عِدّة بلاغات تفيدُ كلّها بأنّ طه حسين قد تعدي بكتابه (في الشعر الجاهلي) علي الدين الإسلامي، أولها بتاريخ 30 مايو 1926 من الشيخ خليل حسين الطالب بالقسم العالي بالأزهر اتّهم فيه الدكتور طه حسين بأنّه ألَّفَ كتابًا ونشره علي الجمهور وفيه طَعْنٌ صريح في القرآن العظيم حيث نَسَبَ الخرافة والكذب للكتاب السماوي. وبتاريخ 5 يونيو 1926 أرسل فضيلة شيخ الجامع الأزهر للنائب العمومي خطابًا مع تقرير رفعه علماء الجامع الأزهر عن كتاب طه حسين وقال التقرير إنّ الكاتب كذب القرآن الكريم وطعن علي النبي (صلي الله عليه وسلم). وطالب فضيلة الشيخ تقديم طه حسين للمحاكمة. وفي 14 سبتمبر سنة 1926 تقدّم حضرة عبد الحميد البنّان أفندي عضو مجلس النواب ببلاغ آخر ذكر فيه أنّ الأستاذ طه حسين نشر ووزّع وعرض للبيع كتابًا طعن وتعدّي فيه علي الدين الإسلامي.
بعد هذه البلاغات قام النائب العام بالتحقيق في الاتهامات الموجّهة للخصم الدكتور طه حسين، وانتهي بعد تحقيقات ومواجهات بين أطراف القضية إلي تقريره الذي رفعه للمحكمة في 30 مارس 1927، والذي كان بمثابة بحث علمي رصين حسب توصيف خيري شلبي. لم ينفِ محمد بك نور التهم عن طه حسين وفقط، بل دحضها بآراء علميّة مُبحرًا فيها في كتب وفكر طه حسين، حتي أنه في أكثر من موضع في وثيقته أو مذكرته يثبت تناقض فكر طه حسين، فيبحث ويستقصي عن فكر الدكتور، فيستشهد بمقالة كتبها الدكتور طه حسين في جريدة السياسة الأسبوعية بالعدد 19 الصادر في 17 يوليو سنة 1926. تحت عنوان »العلم والدين«. ويستخلص منها رأيًّا للدكتور عن الشخصية وموقفها من الأفكار حيث يري الدكتور طه أن كلَّ إنسانٍ إذا فكَّر وجد نفسه شخصيتيْن متمايزتيْن إحداهما عاقلة تبحث وتنقد وتحلّل وتغيّر اليوم ما ذهبت إليه الأمس وتهدم اليوم ما بَنَتْهُ أمس. والأخري شاعرة تلذ وتألم وتفرح وتحزن وترضي وتغضب وترغب وترهب في غير نقد ولا بحث ولا تعليل. ولا يقتصر علي كتابات طه حسين بل يستعين بكتابات أخري تتصل بالموضع؛ ليهتدي إلي القرار الصائب كما فعل باستعانته بكتاب »طبقات فحول الشعراء« لابن سلام الجمحي الذي اعتمد عليه طه حسين، لكن الجميل هو أنّه رأي أن المُبَلِّغين قد انتزعوا العبارات من موضوعها والنظر إليها منفصلة وأنّها جاءت في الكتاب في سياق الكلام علي موضوعات كلها مُتعلِّقة بالغرض الذي أُلِف من أجله الكتاب.
منذ بداية التحقيق يلتزم النائب محمد بك نور بأُسس المنهج العلمي الرصين في القضية دون إغفال لمواد القانون، فسعي للعمل علي جانبيْن؛ أحدهما علمي (نقدي) حيث البحث عن أصل الاتهامات الواردة في عريضة الدعوي والتي أجملها في أربع اتهامات في حقّ طه حسين، والثاني قانوني محضّ حيث وضع مواد الدستور في مواجهة لهذه الاتهامات، فمارس دور الناقد ودور القانوني في آنٍ واحدٍ، عامدًا في الموقفيْن إلي سَداد الفكر ورجاحة العقل وأيضًا تفعيل واحترام مواد الدستور التي تصون حرية الفكر وتكفلها وفقًا لمواده التي التزم النائب بها وفعّلها عندما أراد أن ينتصر لحرية الرأي ضدّ هؤلاء الذين جاءوا لمُصادرة الفكر، وَحَجْر الإبداع، بوصفهم حُرَّاسًا للأخلاق والدين.
المنهج في القضايا الفكرية
أجمل سيادة النائب التهم الموجهة للدكتور طه حسين في نقاطٍ أربعة، عرضها واحدة واحدة ثم قام بدحضها بالترتيب الذي أوردهم بها، فبدأ بتهمة ازدراء وإهانة الدين الإسلامي، ثم ما تعرّض له طه حسين بشأن القراءات وأنها من قراءات العرب، وليست وحيًّا مُنزلًا من عند الله، ثم الطعن علي كتابه بما يفيد إهانته وتحقيره لنسب الرسول الكريم، ثمّ إنكار أنَّ للإسلام أوليةً في بلاد العرب وأنّه دين إبراهيم. بعد هذا سَعي القاضي مُتسلحًا بأدوات الناقد، ومُتحَصِّنًا بمواد الدستور إلي إثبات عدم توافر النيّة مِن قبل المؤلف للتعدّي علي الإسلام بالطعن فيه أو حتي بالسُّخرية مِن نَسَبِ الرسول الكريم، فعن الاتّهام الأساسي الذي هو صُلب القضية والذي بسببه وصلت القضية إلي المحكمة يقول النائب العام: »هكذا ونحن نري أن ما ذَكَرَه المؤلف في هذه المسألة هو بحثٌ علمي لا تعارض بينه وبين الدين ولا اعتراض لنا عليها« أما عن التهمة الموجّهة لسيادة العميد بخصوص طعنه في كتابه علي النبي صلي الله عليه وسلم طعنًا فاحشًا من حيث نسبه كما أورد في ص 72 من كتاب الشعر الجاهلي، فيورد النائب العام قوله: »إنّ كلَّ ما نُلاحظه عليه أنّه تكلّم فيما يختص بأسرة النبي صلي الله عليه وسلم ونَسَبِهِ في قريش بعبارات خالية مِن كلّ احترامٍ بل بشكل تهكُّمي غير لائق، ولا يوجد في بحثه ما يدعوه لإيراد هذه العبارة علي هذا النحو«.
لم يأتِ تعامُّل محمد بك نور مع القضية علي أنها قضية عادية يجب مطابقتها بنصوص القانون الجامدة، وإنما قضية فكريّة ومِن ثمّ جاءت مذكّرة النيابة حاويةً لفكر مَرن مُستوّعِب رحابة الأفكار، وجنوحها في بعض منها، وأيضًا طواعيتها في الخضوع لتجريب المناهج الجديدة، وهو ما عكس وعيًّا معرفيًّا ونقديًّا لدي سعادة النائب جعلت خيري شلبي يري أنّ محمد بك نور يمتلك أدوات الناقد المتخصّص، ويتساءل في تعجُّب: »لماذا لم يُمارس النقد؟« وكأنه يتهكم من الواقع الآني حيث يشتغل في النقد أنُاس لا علاقة لهم به وهم أبعد عن فكرة البحث والتقصي، بعكس النائب الذي أورد حيثيات حُكمه والتي لم يكن يصل إليها إلا ناقد متخصّص لا رجل قانون عاديًّا.
انقسمت مذكرة الحيثيات إلي ثلاثة أقسام؛ القسم الأوّل منها فَنَّدَ فيه الاتهامات نقديًّا وعلميًا، كما دعمّه بتجوّل سيادة النائب في فكر طه حسين علي تنوّعه ومحاورًا له، وناقضًا بعض ما رآه غير مستقيمٍ دون أن ينحرف أو يسقط في أحكام عُجلي أو حتي أحكام لا علاقة بها بموضوع الكتاب، بل كانت أحكامه في صميم الكتاب وتفنيدًا لمحور الشكوي في حقّ المشكو في حقّه الدكتور طه حسين وكتابه في الشّعر الجاهلي. ثمّ جاء القسم الثاني، فكان حجّة فقهية مشفوعًا بالرأي القانوني إلي جانب الرأي الفنيّ (النقدي) فقد أشفع مذكرته بالمادة 12 من الأمر الملكيّ رقم 42 لسنة 23 التي نصّت بوضع نظام دستوري للدولة المصرية علي أن حرية الرأي مكفولة. ولكل إنسان الإعراب عن فكره بالقول أو بالكتابة أو بالتصوير أو بغير ذلك في حدود القانون. ثم المادة 149 منه نصت علي أن الإسلام دين الدولة: فلكلّ إنسانٍ حرية الاعتقاد بغير قيدٍ ولا شرط، وحرية الرأي في حدود القانون، فله أن يعرب عن اعتقاده وفكره بالقول أو بالكتابة بشرط ألا يتجاوز حدود القانون. ثم يورد كذلك المادة 139 من قانون العقوبات الأهلي التي نصت علي عقاب كلّ تعد يقع بإحدي طرق العلانية المنصوص عليها في المادتيْن 148 150 علي أحد الأديان التي تؤدي شعائرها علنًا. فهو لا يورد مواد القانون مُجرّدة بل شارحًا لها ومُوضِّحًا ما يضمن حقّ المشكو فيه، وما ينطبق عليه، وهل تجاوز أم لم يتجاوز؟ وبعد تقصيه وبحثه في جريمة التعدي التي متهم به طه حسين في ظل توافر الأركان الأربعة لها، التعدي أو وقوع التعدي بإحدي الطرق العلانية في المادتيْن 148، 150، أو وقوع التعدي علي أحد الأديان التي تؤدِّي شعائرها علنًا. ثمّ القصد الجنائي. بعد كلّ هذا يَخْلُصُ إلي حُكْمِهِ أو نتيجته المنطقية التي اهتدي إليها بعد دراسة الجانبيْن الفني (النقدي) والقانوني، وهو الحكم الذي لم يكن مُنْصِفًا للدكتور طه حسين أو كتاب »في الشعر الجاهلي« بقدر ما كان بمثابة الحكم الذي انتصر فيه القاضي الواعي صَاحب العقلية النقدية الثاقبة، لحرية العقل والتفكير، وفي المُقابل كان هزيمةً لخفافيش الظلام التي تتخذ مِن ستار الدين والمحافظة علي الأخلاق والقيم خلفية لممارسة مصادرتها للعقل وهو ما تكرّر بعد غياب عقلية محمد بك نور، في نماذج كثيرة أبرزها قضية الدكتور نصر حامد أبوزيد، وهو ما عكس بالفعل أن عصر الدكتور طه حسين ومجايليه من حملة مشعل التنوير الفعليّ أَثْمَرَ فِي هذا الوعي الذي حَمَلَهُ النائب محمد بك نور، وكان ثمرة هذا التنوير، فضرب المثل فيما يجب أن يتسلّحَ به رجل القانون عند مُجابهة قضايا فكرية، لا أن يُخضعها للتعامل العادي كما يتعامل مع القضايا اليومية، وإنما يجب أن توضع في سياقها الفكريّ، وفي ذات الوقت لم يغفل أن يُعطي للمُفكِّر والأديب المرونة في البحث فيخلُصُ إلي: »أن ما ذكره طه حسين بشأن القرارات لا غبار عليه من الوجهة العلميّة والدينيّة أيضًا ولا شيء فيه يستوجب المؤاخذة لا من الوجهة الأدبيّة ولا من الوجهة القانونية. أما مسألة الطعن الركن الثاني فلا تعليق للنائب عليها، لأنّ الطعن قد وقع بطريق إعلانية إذْ أنّه أورد في كتاب الشّعر الجاهلي الذي طُبع وَنُشر وبيع في المحلات العمومية والمؤلف مُعترفٌ بهذا، وأما عن الركن الثالث فيقول: »إنّه لا نزاع فيه أيضًا لأن التعدي وقع علي الدين الإسلامي الذي تؤدي شعائره علنًا وهو الدين الرسمي للدولة«. أما الركن الأخير وهو القصد فيقول النائب. »إذن علي المؤلف أن يثبت أنه أراد بما كتبه أن يتعدي علي الدين الإسلامي، فإذا لم يثبت هذا الركن فلا عقاب. كما يذكر النائب في مذكرته ماهو حقّ بأنّ المؤلف أنكر في تحقيقات النيابة التي أجراها معه: أنه يريد الطعن علي الدين الإسلامي، وقال إن »ما ذكره في سبيل البحث العلمي وخدمة العلم لا غير«
الانتصار لحرية الرأي والفكر
الشيء الآخر الذي أفرزه هذا الحكم التاريخي إلي جانب إنصاف طه حسين وكتابه هو الانتصار للمنهج النقدي الذي استخدمه الدكتور طه، فالنائب محمد نور بك، يقول: »إن للمؤلف فضلاً لا يُنْكَرُ في سلوكه طريقًا جديدًا للبحث حَذَا فيه حذو العلماء مِن الغربيين ولكنه لشدة تأثير نفسه مما أخذ عنهم تورط في بحثه حتي تخيّل حقًا ما ليس بحقِّ« أو ما لا يزال في حاجة إلي إثبات أنه حق. وإنْ كان عَتب علي طه حسين في ظلّ إيمانه ووعيه بصعوبة المسلك الذي سلك دربه طه حسين فيقول دون انتقاص من قيمة ما فعله: »إن المؤلف قد سلك طريقًا مظلمًا فكان يجب أن يسير علي مهل وأن يحتاط في سيره حتي لا يضل ولكنه أقدم بغير احتياط فكانت النتيجة غير محمودة«.
دروس المحاكمة
في سياق هذه المذكرة ألمح القاضي البصير والمستنير في توصية مُهمّة إلي المنهج الذي يجب أن يُتعامل به مع المفكّرين والمبدعين قائلاً: «أما من الوجهة العلميّة فإن أستاذ الجامعة المصرية كغيره في الجامعات الأخري من واجبه أن ينشر نتيجة أبحاثه ولا يحكم علي أعماله إلا النقاد المتخصّصون، وأن مجلس الجامعة بصفته الهيئة التأديبيّة للجامعة هو الذي يُحاكم الأستاذ المخطئ وليس غيره« لكن مع هذه التوصية البالغة الدلالة التي مرّرها القاضي في سياق حكمه لم يلتفت إليها أحد، وهي ما تعد بمثابة القسم الثالث في وثيقة الدفاع حيث أعقب قراره بتوصيات لو أُخذ بها أو حتي فُعِّل بعضًا منها، لما حَدَثَ ما نشاهده الآن، لكن مع الأسف مازال مسلسل محاكمات الفكر والإبداع مستمرًا رغم مرور أعوام طوال علي هذه الوثيقة التاريخية المهمة قبل أن تكون وثقية قانونية؟ فما أحوجنا لأن نعيد طباعتها من جديد، ليعم الدرس والفائدة علي الجميع!.


* أخبار الأدب يوم 02 - 01 - 2016

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى