سليمان فياض - امرأة وحيدة.. قصة قصيرة

الليلة الأولى، انعطفت يسارا من شارع إلى شارع. وحدقت عيناها باحثة عن كلاب البدو فى الظلام. ونبحتها الكلاب من كل ناحية، فأجفلت. ونظرت إلى باب البدو، ولكن الباب كان مغلقا. وزكمتها رائحة الجمال الباركة فى المراح. وفكرت أن تجلس حتى لا تهاجمها الكلاب. لقد فعلت ذلك عندما كانت صغيرة. وفكرت أن الكـلاب لا تفعل شيئا سوى النباح، فواصلت سيرها. سكتت الكلاب عن النباح، فابتسمت فى سرها. كان بينها كلب صغير يهز ذيله دائما، ويتقدم الكلاب الكبيرة محاولا أن يتفوق عليها.
* * *
ومع أن الليلة كانت صيفية، لم يكن ثمة صوت ولا ضوء، وكل الأبواب كانت مغلقة، فالقمر لم يكن طالعا. وشعرت بالبهجة لأن الناس نيام، ولأنها تمشى وحدها فى ليلة صيفية ساكنة. كانت عيناها تثقبان الظلمة، فأبصرته جالسا على عتبة البيت، مسندا ظهره إلى الجدار، وساقاه منفرجتان، وسيجارة متقدة تلمع فى يده. تنهدت بقوة، وضاعفت طرقعات الشبشب فى قدميها، فاستدار جهتها. وراح كلاهما يراقب الآخر. شاهدته يتحرك بهدوء نحوها. وسمعت همسه:
ـ نبوية.
نظرت نبوية أمامها وابتسمت، وبدت كأنها تجرى. ولحق بها، وأمسك يدها. وأحست بملمس كفه على ساعدها، فارتجفت أعلى وأسفل. واستلقت يدها الأخرى دون مقاومة، وأدارت رأسها نحوه، فدهمتها أنفاسه الحامية، وأخذ صدرها يعلو ويهبط، وقالت له بعد شهقة:
ـ أنت ؟ رشاد.
ـ تعالى.
وجذبها من يدها. وتبعته. حاولت أن تقاوم، فهمست:
ـ لا لا. ماذا تريد ؟
وتخطى بها عتبة بيته قائلا:
ـ تعالى. لا تخافى. أريد أن أكلمك.
أصبحت معه فى الصالة. فقالت بمكر:
ـ الله. ليس عندك نور.
ومد يده الأخرى ليغلق الباب. فصاحت هامسة:
ـ لا. لا. لا تغلق الباب. ليس الليلة.
كاد أن يضحك. ولكنه قال لها:
ـ تعالى.. لا تخافى.
وأغلق الباب، وقال لها:
ـ أتريدين أن يمر أحد، ويرانا معا ؟
راحت ترقبه. لم تشعر برغبة فى الاعتراض. فقالت باستسلام:
ـ طيب. دع يدى.
فترك يدها، وقال:
ـ تعالى. سنتكلم فى الحجرة. تعالى.
وتبعته فى الظلام. وقال:
ـ لحظة. سأوقد المصباح.
فصاحت محذرة:
ـ هس. الشباك على الحارة !
وأضافت:
ـ رشاد. لا توقد المصباح.
ـ أمرك يا نبوية.
ورأته فى العتمة، يفرد الحصيرة، ثم المرتبة، ويسوى الوسادة، وبينما كان يقف، ويقول لها:
ـ تعالى. اجلسى بجوارى.
اصطدم بساقيها. وشعر برغبة فى أن يلتحم بكل مرتفعاتها ومنخفضاتها، وهى واقفة، فتسلق إليها جزءا جزءا.
ـ رشاد. دعنى. ماذا تفعل ؟
وراح صوته يلهث، وهو يقترب من أذنها قائلا:
ـ لا شىء. لا شىء يا نبوية. إنى أحبك. أحبك جدا.
استمدت من أشواقه قدرة ما على أن تتمنع، فأبعدته برفق، وقالت بفتور:
ـ رشاد. هذا ما أردت أن تكلمنى فيه ؟ أريد أن أذهب.
فتوسل إليها:
ـ نبوية لم أرك منذ شهور يا نبوية.
هزها شعوره بالحاجة إليها. ودت لو ترتمى على صدره. ولكنها قالت بالفتور نفسه:
ـ ليس منك فائدة.
فهمس مستنكرا:
ـ أنا ؟.. ليس منى فائدة. طيب.
وحاول أن يقترب منها. لكن يدها صدته مرة أخرى. وهمست لنفسها:
"هل.. هل تقولين له يا نبوية ؟ لن يفهم وحده أبدا".
وخشيت أن يقول لها: "لا"، فسكتت، وانتظرت. وقال لها:
ـ تعالى. سنجلس معا.
وأحس بتشجيع ما فى صوتها، فمد يده إليها، وقالت هى:
ـ سأصرخ.
وقبل أن تضحك، قالت له:
ـ دعنى. ابنى فى البيت وحده.
ـ ابنك ؟ إنه الآن يأكل خبزا مع الملائكة.
وضحكت. وضمها إليه بقوة، فهمست:
ـ قلت سأصرخ.
ـ اصرخى إذا شىءت. لن أتركك أبدا.
وشعرت كأنها تختنق، فاستقبلت شفتيه ببطن عنقها، وراحت تبحث عن نسمة هواء، وطافت برأسها صورة لواحدة تسبح، ورأسها فوق الماء.
* * *
كان المصباح يلقى ضوءا خافتا، ورشاد يحجب خصاص النافذة بملاءة بيضاء. ثم تمدد بجوارها. وفتحت هى عينين حالمتين، تفيضان سعادة. كان وجهها رماديا ما يزال فى عينيه يتألق حيوية، وشعرها مجدولا تفوح منه رائحتها. وأخذ كلاهما ينظر فى عينى الآخر. كان هو ساكنا تماما. وكانت هى تأرجح ساقيها فوق ساقيه. وفكر رشاد:
"آه. اللعينة. أحس بها تسرى تحت جلدى مباشرة"
وتنهد، ولم يقل لها ذلك. وتنهدت هى بدورها. وزام هو برضا.
عادت إليه نفس الفكرة القديمة، فقال لها:
ـ نبوية. ما رأيك لو.. تزوجنا ؟
خفق قلبها بشدة. لكنها آثرت أن تقول:
ـ نتزوج ؟ وأمين ؟
تضايق لحظة لقولها، وآثر أن يقول بدوره:
ـ أمين، يعيش معنا. لكن..
وسكت، فقالت بلهفة:
ـ لكن.. ألديك مانع ؟
فقال محاورا:
ـ لا لا. هل تحبيننى حقا ؟
_ سل نفسك. لماذا دخلت بيتك ؟ هل تحبنى أنت ؟
ـ طبعا أحبك. أحبك حقا يا نبوية. وإذا كنت، أنت تحبيننى، هل تكتبين لى بيعا وشراء الفدان الذى تملكينه ؟
شهقت هى دون صوت. حدث ما كانت تتوقعه. أسرعت تجمع ساقيها من فوق ساقيه، وجلست، وغطت ساقيها بثوبها الأسود حتى القدمين. وقالت بانكسار:
ـ وأمين ؟
ـ أمين لم يترك له أبوه شيئا.
ـ إنه ابنى يا رشاد. وعندما يكبر. هل يعمل أجيرا مثلى، عندما كنت طفلة ؟
ـ لا. سيزرع الأرض معى.
ـ افهمنى يا رشاد. عندما يكبر، ويتزوج. عندما نموت أنا وأنت.. هل يصبح أخوه، منك، يملك أرضا وهو لا يملك شيئا، لا يملك أبدا ؟
وقال رشاد لنفسه:
"بنت اللعينة. وتزعم أنها تحبنى".
وتنهد بعمق، وقال بأسى:
ـ إذن. سأظل لصا، أعيش من السرقة، أنا وأنت.
وقالت نبوية لنفسها:
"ماذا أصنع معه ؟.. إنه لا يفهم أبدا"
وقالت له بحماس:
ـ من قال لك ذلك ؟.. ستترك هذه المهنة. ونزرع الأرض معا. ونؤجر أرضا من غيرنا أيضا، و.. بعد عدة سنوات، نشترى أرضا أخرى، تكون ملكا لك أنت.
وأضافت قائلة:
ـ لهذا السبب وحده، رفضت أن أؤجر أرضى لزوج أختى.
ـ ولكن.. ماذا يحدث لو صار الفدان ملكى أنا، ويصير لأولادنا بعد موتى ؟
زفرت نبوية. وهزت رأسها بحزن. وقالت:
ـ أتعرف يا رشاد. حاول زوجى قبلك هذه المحاولة، ووقفت فى وجهه. وعندما مات، أصبح هم كل رجل فى البلدة أن يتزوجنى من أجل الفدان والبقرة. حتى المتزوجون منهم يا رشاد. حتى الذين يملكون أفدنة عديدة. حتى أنت. ألم أقل أنه ليس منك فائدة ؟
وبدا رشاد حزينا لكلماتها، حين جلس، وطأطأ رأسه. وقال:
ـ ألا تثقين بى ؟ إنى أقول لك..
فقاطعته محتجة:
ـ أثق بك ؟. أنا لا أثق برجل إلا حين يكون معى على الفراش. على فراش كهذا. لأنه.. أنت تعرف لماذا. ولكن. فى النهار. فى النهار يا رشاد..
ـ نبوية. لا تقولى ذلك. ألا تثقين بى يا نبوية ؟. ألا تثقين بى ؟
فقالت بفتور:
ـ لا. لا أثق بأحد. حتى نفسى.
فقال هو بحزن:
ـ أتخافين أن أنقلب عليك يوما ؟.. لن أفعل ذلك أبدا. إننى فقط، لا أتحمل أن يقول الناس عنى، مثلما يقولون عنه. كانوا يقولون: زوجته تطعمه، ولولاها لكان أجيرا. وسوف يقولون عنى أيضا: ولولاها لظل لصا.
وصمت. وطال صمته. حتى أكدت هى لنفسها:
"البغل. لا يمكنه أن يفهم. لا يمكنه أبدا".
ونقبت فى رأسها عن مدخل آخر، تنفذ منه إلى قلبه. فقالت برقة:
ـ رشاد. الليلة جاءت زوجة الحاج محمد، وأنا عند أختى.
ـ ماذا قالت لك ؟
ـ جاءت توسط أختى لدى، حتى لا أقبل الزواج بزوجها، وأكدت لى أنه يريد أن يتزوجنى لكى أكتب له الفدان. وبعد ذلك، يطرد ابنى أو يطلقنى.. أو..
فقاطعها رشاد، وقال بلهفة:
ـ هيه.. وماذا قلت لها ؟
طمأنتها طبعا. ولكن هو. إنه يطاردنى: يوقفنى فى الشارع، ويأتى إلى البيت، ويلح على، ويؤكد أنه يريد أن يتزوجنى ليحمينى، وليس من أجل الفدان.
فصاح رشاد بحدة:
ـ كذاب. كذاب. أتصدقينه يا نبوية ؟
فقالت مؤكدة:
ـ طبعا لا يا رشاد. كيف أصدق رجلا متزوجا وله أولاد، وأكثر من ذلك يقتل من يقف فى وجهه ؟ أنت لا تعلم يا رشاد كم هو ثقيل الدم على قلبى !
فقال رشاد بإشفاق:
_ نبوية إنى أخاف عليك. سيدمرك الحاج محمد.
صاحت فى غضب:
ـ يدمرنى أنا ؟.. إنى أزرع الأرض منذ عامين وحدى. والكل يعرف أننى أمسك المحراث بيدى، وأحمِّل الحمار. وأعلق البقرة فى الساقية.. و..
قاطعها رشاد قائلا:
ـ نبوية. لا تنسى يا نبوية أنك امرأة، امرأة أمام رجل مثله.
هدأت نبوية آنئذ، وصمتت، ثم قالت بضعف:
ـ صحيح. ولكن.. أتحبنى حقا ؟
ـ أحبك ؟ أحبك جدا يا نبوية !
ـ حتى ولو لم نتزوج.
وتردد قليلا. ونظرت فى عينيه. فخفضهما. وقال:
ـ ولو لم نتزوج يا نبوية.
وقالت وهى نصف مصدقة:
ـ ستحمينى من الحاج محمد ؟
فقال بحماس:
ـ سأقتله إذا مسك بأذى، حتى لو دخلت السجن مرة أخرى.
تنهدت نبوية براحة. وهمت بالوقوف. وقالت لنفسها:
"سنتزوج حتما".
وقال لها رشاد:
ـ ستذهبين. ألن نتزوج ؟
كانت قد بلغت باب الحجرة، فقالت:
ـ لا.. بشروطك لا..
ثم قالت:
ـ قم. افتح باب البيت. وانظر. هل سيرانى أحد؟
وقام رشاد، وفتح الباب ونظر حواليه يمنة ويسرة. ثم قال لها:
ـ لا.. ليس من أحد.
وانسلت هى من الباب. وأشعل هو سيجارة، وجلس عند عتبة الباب، وأخذ يرقبها حتى غابت عن ناظريه، وبين حين وآخر كان يتشمم رائحة جسدها فى بطن كفه.
* * *
كانت نبوية تقترب من بيت الحاج محمد. وتجولت عيناها فى الشارع. أبصرته جالسا قبالة بيته، مقعيا، وخيزرانته فى يده. ولمحته يتجه برأسه ناحيتها. فأسرعت فى مشيتها، وفكرت أنه سينهال عليها ضربا بالعصا، وربما سألها بصوته الغليظ: "أين كنت ؟" وقالت لنفسها:
"أتراه يعرف أننى كنت عنده ؟"
وإذ صارت بمحاذاته تماما رأته يقف، ومرقت قطة بجواره، فضربها بعصاه، فماءت القطة بشدة، وقفزت أمام نبوية، وهى تجر نصفها الخلفى. ولحق بها الحاج محمد، وقال لها بصوته الغليظ:
ـ مبروك عليك الليلة.
وتركها، وأطلق ضحكة طويلة، خافتة، وراءها. دار بخاطرها أن تشتمه. ولكن الوقت كان متأخرا، وكانت هى عائدة من عند رشاد، والعصا فى يده. وسمعت وهى تبتعد صرير باب بيته، يخرق أذنيها.
* * *
دخلت نبوية بيتها فسمعت:
ـ نبوية. هل جئت يا ابنتى ؟
ونظرت هى إلى فجوة مربعة فى الجدار. كان صوت الجارة يصل إليها عبر الفجوة. وقالت نبوية:
ـ نعم يا حاجة.
وجاءها الصوت عبر الجدار:
ـ تهون يا ابنتى. كل مصيبة تهون يا ابنتى.
خفق قلب نبوية بشدة. وأدارت مفتاح المصباح بسرعة. فتزايد الضوء فى الصالة. وشاهدت ابنها نائما بجوار الفرن. يتقلب أمام عينيها، فهدأت. وقالت:
ـ خير يا حاجة. ماذا حدث ؟
ـ أرأيت ما حدث للقطن والذرة يا ابنتى ؟
فقالت بلهجة باردة كالثلج:
ـ ماذا حدث للزرع يا حاجة ؟
ـ ألا تعرفين يا نبوية ؟ قطعوا زراعتك يا ابنتى. أخبرنى أخى وأنت غائبة.
تهاوت نبوية جالسة بجوار ولدها. ولم تنطق بكلمة، حتى جاءها الصوت:
ـ ألا تعرفين يا نبوية ؟
فأجابتها بذات اللهجة الباردة:
ـ آه. عرفت ذلك يا حاجة.
ـ جازاهم الله أولاد الحرام. أعذرينى يا ابنتى. أنت تعلمين أننى لا أستطيع السير بسبب سنى، ولولا ذلك لجئت إليك.
لم تسمع نبوية حرفا مما قالته الجارة. كانت آنئذ تسمع صوت الحاج محمد داخل رأسها: "مبروك عليك الليلة". وكانت تقول لنفسها:
"كان يعنى تقطيعه للزرع إذن.. هو وحده الذى عملها يا نبوية".
وقامت نبوية وخطت نحو الحائط، وأزالت عنه طبقة من الطين، أسفل الفجوة، فبانت لها كوة معتمة، فأخرجت منها صرة، وفتحتها، وقالت فى نفسها:
"لن نموت جوعا يا أمين هذه السنة. ما يزال توفير العمر معنا. كنا سنشترى به أرضا، ولكننا الآن سنأكل منه يا بنى".
وأعادت نبوية الصرة مغلقة إلى الكوة. وفكرت أنها ستغلق الكوة فى الصباح بالطين. وعادت لتجلس بجوار ابنها، تنظر إلى وجهه مرة، وإلى زجاجة المصباح مرة. وراحت تخاطبه بعينيها:
"فعلوها يا أمين، فعلوها وأمك مع بغل. لكنهم كانوا سيفعلونها أيضا وأنا نائمة بجوارك. متى تكبر يا بنى ؟".
ولم تجد دمعة فى أى من عينيها. وفكرت أن أباها قد مات بعد أمها، وأنه كان أجيرا. وأصبح مالكا لفدانين. وقالت لنفسها:
"شقى أبى كثيرا حتى أصبح مالكا. هل آتى أنا وأبعثر عرقه فى التراب ؟ "
وفكرت أن أختها تزوجت من رجل هو الآخر مثلها. ليس له عائلة، يمكنها أن تحمى أخت زوجته. وفكرت أن تذهب إلى رشاد، وتروى له ما حدث، ولكنها قالت لنفسها:
"ماذا يمكنه أن يصنع لى، ولم نتزوج بعد ؟".
ولمحت نبوية فأرا يهز لها ذيله أعلى الفجوة، ثم يغيب داخلها وشاهدت "عرسة" تمرق من تحت عقب الباب، وتغيب داخل الفرن، وتبعتها أخرى وأخرى. فجاءت بمكنسة وراحت تترصد كل عرسة تحاول العودة، وتنهال عليها ضربا حتى تقتلها، ثم انفجرت تبكى. وجاءها صوت الحاجة:
ـ البكاء ليس منه فائدة الآن يا ابنتى. لكن. لو كان لك رجل لما حدث ما حدث يا نبوية. نامى الآن يا ابنتى.
كفت نبوية عن البكاء. وراحت تفكر أنه لو كان لها رجل حقا لما حدث ما حدث. بل لما حدث شىء أبدا. ومر برأسها خاطر: لقد فعلت كثيرا مما يفعله الرجال، ولو أنها فعلت أشياء أخرى ، لأصبحت رجلا، يعمل حسابه الحاج محمد. وسمعت صوت رشاد يقول لها بإشفاق: "نبوية. إنى خائف عليك. سيدمرك الحاج محمد". وغلى دمها فى عروقها. فقامت. وتناولت علبة الكبريت، وبللت خرقة بالبترول. وخافتت من ضوء المصباح. وفتحت الباب. وأغلقته بالمفتاح، وأسرعت حافية القدمين.
* * *
كان الجرن مليئا بمحصول القمح، ينتظر الدراس، وبين الأكوام، كانت دائرة من القمح ينام فوقها طه ابن الحاج محمد. تطلعت نبوية حواليها، ثم وضعت الخرقة فى أكبر كومة، وأشعلت عود ثقاب فى الخرقة. وأسرعت عائدة إلى شاطئ المصرف الصغير، وانحدرت فى طرقات القرية . وبلغت باب البيت، فسمعت صوت المؤذن يملأ سماء القرية. ودهشت حين سمعته يقطع تراتيل الفجر زاعقا: "حريقة. حريقة. حريقة". ولكن نبوية كانت قد فتحت الباب، وأغلقته بهدوء. وسمعت صوت الجارة يأتيها عبر الجدار:
ـ نبوية. نبوية. حدثت حريقة يا نبوية.
لم تجبها نبوية. ذهبت، وتمددت بجوار ولدها. ولزمت الصمت، حتى جاءها الصوت:
ـ نبوية. أين ذهبت يا نبوية ؟
فردت عليها نبوية متناومة:
ـ نعم.. نعم يا حاجة.
ـ أنت هنا ؟ الحمد لله يا ابنتى.
ـ ماذا حدث يا حاجة ؟
ـ ألا تسمعين ؟ حدثت حريقة يا ابنتى.
فقالت نبوية وهى تبتسم، ولهجتها باردة تماما:
ـ آه. صحيح. سيطفئونها حتما. حصل خير يا حاجة.
ونامت نبوية دون أن تنصت لحرف من كلمات الجارة.
* * *
الليلة التالية عادت نبوية من عند جارتها، وأدارت مفتاح المصباح، فانتشر الضوء ملقيا ظلال الأشياء على الجدران. كان أمين قد نام. فظلت جالسة وحدها. ترقب الذين يأتون من الظلام ويعبرون رقعة الضوء الملقى من بيتها على أرض الحارة. ورأته قادما لم يعبر رقعة الضوء، وإنما وقف لحظة بالباب ينظر حواليه. ثم دخل بسرعة، وأغلق الباب وراءه. فوضعت إصبعها على فمها محذرة، ونظرت إلى الفجوة أعلى الجدار. وتقدم منها، وهمس فى أذنها:
ـ هيا بنا نتكلم.
ـ أين يا رشاد ؟
ـ فى المزارع، بعيدا.
وفكرت نبوية أنه قد جاء ليتزوج منها، فهمست:
ـ فى أى شىء سنتحدث.
ـ تعالى. ستعرفين. تعالى.
ـ طيب. انتظرنى عند المصرف الصغير.
فقال رشاد بشك:
ـ ستأتين ؟
لم تقل نبوية شيئا، نظرت إليه فقط بعتاب. وفتحت الباب قليلا. ودارت حواليها بعينيها. وأكملت فتحة الباب. وأسرع رشاد بعيدا عن البيت.
وأحكمت نبوية طرحتها حول رأسها، وأغلقت الباب بالمفتاح، ووضعته فى صدرها.
* * *
رأته نبوية واقفا تحت شجرة سنط، فعبرت إليه قنطرة المصرف الصغير. وسارا مسرعين. ثم هدأت خطوتها. وقالت له آنئذ:
ـ هه. خيرا يا رشاد. فيم تريد أن تحدثنى ؟
فقال رشاد بصوت ناعم تماما:
ـ أدرت المسألة فى رأسى.
ـ أى مسألة ؟
ـ مسألة زواجنا يا نبوية. أنا أحبك. وفهمت أننى مخطئ إذا طلبت منك..
تزايدت دقات قلبها، وصعدت دماء غزيرة فى وجهها، بينما قال لها:
ـ أنت تعرفين. أنا أحبك حقا. ولا أستطيع أن أعيش بدونك. ولذلك سنتزوج.
ومدت يدها. وأمسكت يده فى رضا. ووقفا معا. كانت رأسه محنية أمام عينيها.
فراحت ترشف بعينيها كل جزء فيه: وجهه الأسمر. تقاطيعه المليحة. قصة شعر تنتصب فوق جبينه. طاقيته الصوفية مائلة بدلال على رأسه. وقالت بفرح:
ـ صحيح سنتزوج. رشاد. ستتزوجنى. أوه. أنظر فى عينى.
نظر رشاد فى عينيها بسرعة. كانت فى عينيه بسمة غريبة لم تسترح لها. ولكنها قالت له:
ـ يا شقى. أتخجل منى ؟
وضحك هو. كانت ضحكته فاترة. وقال لها:
ـ أنا. لا. لا. أبدا.
وواصل سيره، فسارت بجواره. كانت ظلمة المزارع خفيفة حولهما. وبدأت تنصت بمرح لنقيق الضفادع، ثم قالت له:
ـ رشاد ؟ ؟ يقولون: إن ذكور الضفادع تنادى على الإناث.
ضحك رشاد ضحكة باردة، وقال لها :
ـ الناس يتحدثون عنك يا نبوية.
ـ عنى ؟ ماذا يقولون يا رشاد ؟
_ يقولون: إن امرأة قهرت الحاج محمد.
فقالت بلهفة:
ـ ولكنك ستتزوجنى وتحمينى يا رشاد. قل. ستحمينى ؟
ـ أحميك ؟ ومن يحميك غيرى يا نبوية ؟
جاءها صوته فاترا. وفكرت أنه الآن بعيدا عن الفراش، أو ربما كان صوته هكذا، حين يكون بعيدا عنه. وقال هو:
ـ الحاج محمد لا يقدر الآن أن يواجه أحدا. الناس يضحكون منه فى كل مكان.
صاحت هى بانفعال:
ـ ولكنه هو الذى بدأ يا رشاد. كان لابد أن أرد عليه حتى يكف عن محاربتى. وأنت تعلم أنه يفعل ذلك ليتزوجنى يا رشاد.
ـ ألم أقل لك إنه سيدمرك يا نبوية ؟
دق قلبها فى صدرها بعنف. كانت يده الآن باردة فى يدها. وتوقفت عن السير، وقالت:
ـ ابتعدنا كثيرا. هيا بنا نعود يا رشاد.
ورأته يتحسس الناحية اليمنى من صدره، ويقول لها:
ـ نعود؟ لا لا. ليس الآن.
_ رشاد. أنا خائفة. احمينى يا رشاد.
ـ أنا أحميك الآن. هيه. ألست رجلا بجوارك؟
وقفز إلى رأسها مشهد، فقالت:
ـ أتعرف كلاب البدو؟
ـ آه مالها ؟
ـ إنى أسمعها الآن تنبح. لماذا لا يريحون البلدة منها ؟
وضحك رشاد ذات الضحكة الفاترة، ولم يجب. وقفز إلى رأسها مشهد آخر، فقالت:
ـ رشاد. اليوم عند العمدة، أخذك الحاج محمد فى يده. ونظرت أنت إلى ، ثم سرت معه. رشاد. هل.. هل أنت معه ؟
وصاح هو بفزع:
ـ نبوية.. ماذا تقولين ؟.. أنا معه ؟.. أنا معه عليك ؟
أحست بالحرج، فأسرعت تطيب خاطره:
ـ لا تغضب منى. أنا أثق بك. ولكن الشيطان يلعب أحيانا فى رأسى.
وسارا معا هادئين. وأحست بعينين داخل رأسها، فحدقت فيهما بكل قوتها. كانتا عينا رشاد ببسمتهما الفاترة. وتسلل الخوف إلى قلبها. وآثرت أن تصمت. وحاولت أن تقهر شعورها بالخوف، فضحكت طويلا. وقال رشاد:
ـ ماذا يضحكك ؟
ـ أنا.. لا شىء.. هاها.. أنا سعيدة.. لأننا سنتزوج.. قل لى: ألست سعيدا ؟
ـ 000000
ـ هل ستطلب يدى من زوج أختى ؟
ـ غدا. انتظرينى هناك بعد المغرب.
وضغطت يده بحنان. ولكنها كانت باردة فى يدها، وقالت:
ـ ألا نعود الآن ؟
فأسرع يقول لها:
ـ الآن ؟.. دعينا نمشى قليلا يا نبوية.
ـ طيب. كما تشاء. لكنك متضايق الليلة.
ـ أنا. لا. أنا أفكر كيف أحميك من الحاج محمد.
جفلت نبوية فى يده، وصاحت بعصبية:
ـ الحاج محمد. الحاج محمد. الحاج زفت.
ضحك هو آنئذ، وقال وهو يضحك:
ـ طيب طيب. لا تغضبى. تعالى من هنا.
ـ إلى أين؟
ـ سنسير من هنا حتى المصرف الكبير.
ـ لا. أريد أن أعود يا رشاد.
ـ لا. ليس الآن.
ـ طيب كما تشاء يا رشاد.
كانت المزارع ساكنة تماما: أحواض القمح، وأحواض القطن وأحواض الذرة. وفكرت نبوية أنها الآن بلا قمح، ولا قطن، ولا ذرة، وأنها ستعيش هذه السنة من لحمها الحى. وضايقها السكون حولها، فقالت:
ـ رشاد. فلنعد الآن. أنا مستعدة أن آتى معك إلى البيت إذا شىءت.
ـ طيب. طيب. انتظرينى هنا. سأقضى حاجتى وسط الذرة ونعود معا.
وتركها، واختفى بين أعواد الذرة.
تلفتت نبوية حولها. كانت مقابر القرية مستلقية هناك. وحولت عيناها عنها سريعا. وفكرت:
"كيف يظل الإنسان نائما هناك، دائما، دائما؟".
وتركزت عيناها على المنحلة المجاورة. كان النحل داخلها ساكنا، ولم تر من المنحلة سوى جدارين فقط. وطوّف ذهنها فى الجدارين الآخرين بقلق. وارتفعت نبضات عديدة فى عروق رقبتها. وأدارت رأسها نحو حقل الذرة، وصاحت:
ـ رشاد. رشاد.
ولم يأتها جواب. وفكرت أن تجرى. لكنها خجلت من فكرتها، فعادت تنادى:
ـ رشاد. أين أنت يا رشاد ؟
* * *
ـ رشاد لن يأتى يا نبوية.
لم تصدق أذنيها، فشهقت برعب. وكادت أن تسد أذنيها بيديها، واستدارت بسرعة نحو المنحلة. كانوا أربعة: الحاج محمد، وطه ابنه، وآخران لا تعرفهما.
وداخل حقل الذرة. سمعها رشاد تصيح من كل قلبها:
ـ رشاد. إلحقنى يا رشاد.
تكسر عود الذرة تحت يد رشاد. وومضت عيناه فى الظلام. وضحك الحاج محمد، وهز رأسه، ويداه مختبئتان خلف ظهره. وقال لها:
ـ باعك يا نبوية. يا خسارة العشرة يا خسارة !!
سكتت كل الأصوات فى أذنيها، عدا صوت الحاج محمد، وسمعها رشاد تصيح بجزع:
ـ باعنى ؟
تكسر عود آخر فى يد رشاد، وجاءها صوته الغليظ:
ـ باعك. باعك بعشرة جنيهات يا نبوية.
لم تفهم نبوية تماما ماذا يجرى. وطفرت فى رأسها يد رشاد وهى توضع على جيبه الأيمن. بينما تحسس رشاد بيسراه ذات الجيب. وسمعها رشاد تقول باستسلام:
ـ هل ستضربوننى ؟
أوشك رشاد أن ينفجر باكيا. وتكسر عود آخر فى يده. وانفجر الحاج محمد غاضبا. جاء بيديه من خلف ظهره، فرأت فيهما حبلا. وجاء صوته الغليظ:
ـ نضربك ؟.. ستموتين الليلة.
تكسر عود آخر تحت يد رشاد. وفكر فيما إذا كانت نبوية ستموت حقا. وشعر برغبة فى ان يشرب ماء. وتطلعت نبوية حولها برعب. كانوا يقفون حولها من كل ناحية. وبحثت عن منفذ تجرى منه، ولكن ساقيها لم تتحركا. لم يكن ثمة منفذ. وطفرت فى رأسها صورة ابنها نائما، والباب مغلق عليه. وسمعها رشاد تتوسل بذلة:
ـ أموت ؟ ارحمنى.. أنا وحيدة.. وابنى وحيد.. مثلى.
لم تسمع سوى ضحكاته، وهو يناول ابنه طرف الحبل، ويمسك بطرفه الآخر. وسمعها رشاد تصرخ:
ـ تقتلنى يا حاج محمد، لأننى رفضت أن أتزوجك ؟
وفكر رشاد أنها قبلت أن تتزوجه هو:
ـ اخرسى يا بنت الكلب.
قالها طه. ورفسها فى جنبها بحذائه. وتكسر عود آخر فى يد رشاد. وسمعها وهى تتوجع. وبعينين غير منظورتين، رآها تسقط على ركبتيها، ممسكة جنبها بكفيها. وسمعت ذات الصوت الغليظ:
ـ لا. ابتعدا أنتما.. سنريحها أنا وابنى.
شبت نبوية واقفة. وسمعها رشاد تقول بمذلة:
ـ خذ أرضى. خذ الفدان. الفدان والبقرة. سأدفع ثمن قمحك. ابنى أمين. ارحمنى.
جلس رشاد مقعيا. وفكر أنه كان عندها أغلى من الفدان والبقرة. وفكر أنهم أربعة، وأن الحاج محمد وحده ضخم لا يقهر. ولف الحاج الحبل هو وطه حول عنقها بسرعة. ووقفت بينهما نبوية تتأرجح. يداها تتشبثان بالحبل، تحاول أن تخفف الضغط الهائل على عنقها. وكانت تسمعه يقول بغيظ:
ـ لن يقول أحد، أن امرأة، امرأة وحيدة، مرغت ذقنى فى التراب.
وقبل أن تهوى يداها، وتسقط، سمعها رشاد تقول بوهن:
- رشاد.. رشاد.
وقفزت إلى رأسه أمنية عابرة: هو فارس يعطى هذا رفسة وهذا لكمة، ويضرب الحاج محمد بجبهته فيسيل الدم من أنفه، ويفر هاربا إلى بيته، ويحملها بين يديه. وسمع رشاد الحاج محمد ينادى عليه:
ـ تعال يا رشاد.
أدرك أن نبوية أصبحت جثة. لم يسمعهم بعد، ولم يتحرك من مكانه. ظل قابعا بين أعواد الذرة، يتفصد عرقا غزيرا من جبينه على عينيه وعنقه. وسمع أصواتهم تبتعد صوب القرية. وعادت أصوات الضفادع تطن فى أذنيه. وفكر رشاد أنها تبكى. وسار بين أعواد الذرة. وتجنب أن يمر على نبوية ويرى جثتها، فانحدر نحو الطريق الزراعى. وعبر القناة الجافة. ولمحت عيناه المقابر، فقال لنفسه:
"ستنام نبوية هناك دائما، دائما".
وشعر بالتعب، فجلس على حجر، وأسند كوعه على ركبته، ووضع خده على كفه.
(1960)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى