مصطفى الأسمر - الكفن.. قصة قصيرة

انطلقت الصرخة حادة ممزقة سكون الليل، وعاد الصمت بعدها كما كان إلا من صوت قطرات المطر تقرع سقف الحجرة الصفيح بنواح كئيب .. فتح الرجل عينيه بصعوبة شديدة، ثم أخذ يبحلق في الظلام المحيط به فلا يرى فيه شيئا فقال للمرأة اللائذة بصدره:
ـ لقد مات.
وبصوت لم يتخلص تماما من آثار النوم قالت المرأة:
ـ أنا قلبي كان حاسس.
ثم جذبت بيد ترتجف الغطاء البالي تخفى فيه وجهها .. عاد الرجل يتكلم بضجر وقد انتبه لنفسه تماما:
ـ دنه فى الفرش كام سنة ميجيش يموت إلا الليلة.
ـ أجله انتهى.
ـ والعمل؟
ـ العمل عمل ربنا.
ـ يعني أسكت؟
ـ متفكرش كتير، نام والصباح رباح.
وحاول الرجل أن ينام ولكنه لم يستطع فقد كان يعرف أنه الابن الأكبر للميت وأن في عنقه واجبات كثيرة يجب أن تؤدى .. مفروض أن يصلي على العجوز ويأخذ رأس المشهد، ويسلم على المعزين، ويقرأ على روحه الفاتحة، ولكي يفعل كل هذه الأمور عليه أن يغتسل أولا من عرق المرأة .. والبيت لم تعد فيه قطرة واحدة من الجاز ليستحم والجو شديد البرودة.
ومهما حدث فلن يأخذ الماء من الزير لرأسه مباشرة، فجسده لم يعد كما كان في الماضي قادرا على تحمل برودة الماء .. الحل الوحيد الباقي أمامه هو أن يدخل المسجد خلف النعش ويؤدى الحركات، ينوى ويكبر، ويسلم ويترحم ومازال عرق المرأة مختلطا بعرقه، بل سيذهب لأبعد من ذلك فلو طالبوه بأن يقرأ الفاتحة بصوت مسموع رحمة بالميت فسيقرؤها بالصوت الحياني وبأعلى طبقة، فسيان عنده غفر الله له أو لم يغفر فلن يكون هناك عذاب في الآخرة أكثر من هذا العذاب الذي يعيشه الآن .. عمل دائم متصل من فجرية ربنا لمغربيته .. مهنة شاقة ملعونة ورثها عن العجوز لا رحمه الله "فاعل بناء" يحفر الأرض بمعوله، ويعتلي السقالات ويقع من فوقها، ويتشقق كعب قدمه، ويتقوس ظهره من طول الانحناء وحمل قوالب الطوب، وتلحس مونة الإسمنت أصابع يديه وتملأ حبات الرمل عينيه ويتغير كل شيء فى الدنيا ويرتفع سعره إلا هو .. الناس تملأ الشوارع، والعمارات أدوارها ترتفع، والفول ثمنه يزيد، والعدس يباع بالكيلو بدلا من "القدح" وقرص الطعمية يصغر حجمه، ورغيف العيش يخف وزنه وهو كما هو فاعل بناء، مكسبه يوما بيوم، ويوم يعطل لا يجد ثمن الأكل فمتى ينتهي أجله هو الآخر؟ .. وتزداد المرأة التصاقا به فينتقل الدفء من جسدها إلى جسده، يفكر أن يكرر محاولة أول الليل لكنه يعود وينكمش "ويتقرفص" ونسمات البرد تؤلم عظامه، يتمنى لو ينام فالنوم لذة كبرى في مثل هذه الليالي الممطرة، لكن العجوز مات، مات عندا فيه ليحرمه من هذه اللذة، والصباح مقبل لا محالة بمشاكله، شهادة الوفـاة، تصريح الدفن، المغسل، التربي، خشبة النعش، خمس كراسي أو سبعة أمام البيت لاستقبال المعزين من أهل الحي حتى تخرج الجثة، فقي يقرأ على التربة، ثم الكفن نفسه فمادام الموتى لا يدفنون عراة فعليه أن يحضر كفنا له من تحت الأرض وليس عذرا أبدا أنه لا يملك ثمنه .. عليه الحصول عليه بأية وسيلة، يسرق .. جائز .. ينهب جائز .. المهم أن يدفن العجوز بكفن حتى لا يتكلم الناس .. وكل شيء في النهاية سيهون ويتدبر .. اليوم الذي لن يعمله يهون .. خشبة النعش تهون .. شهادة الوفاة تهون، ولكن الشيء الذي لا يمكن أن يهون هو أن يدفن العجوز عاريا، لن ينبهه واحد من الجيران إلى أنه لا يبكي، ولن يسأل سائل لماذا أنت غير حزين، لن يلحظ إنسان شيئا كهذا، فالعادة في حيه ألا يبكى أحد عندما يموت أحد .. فقط هي صرخة حادة تشرخ صمت الليل معلنة حضور ملك الموت وبعدها ينتهي الأمر وهو لا رحمه الله لم يشذ عنهم، اختار أن يموت بدوره مثلهم في الظلام، وزاد على هذا أن الليلة ليلة ممطرة .. طرأت على ذهنه فكرة الانتقام منه بدفنه عاريا تماما وليكن ما يكون، ود لو أسر برغبته تلك للمرأة، اقترب بصدره منها حتى لاصق صدرها، طال به الصمت وهو يجاهد كي يفصح لها عن رغبته ولكنه في النهاية وجد نفسه يقول لها:
ـ التموين بتاعه حيتخصم.
ـ يادي المصيبة.
ـ من الشهر الجاي معدناش حنصرفه.
ـ والعمل؟ .. دا السكر والزيت كنا بنبيعهم.
ـ معلش بكره ربنا يرزقنا بولد جديد يعوض اللي راح.
ـ يعنى يبقوا سبعة؟
ـ أيوه سبعة.
صمتت المرأة وهى تتمنى ألا يتحقق هذا، فجسدها لم يعد بقادر على متاعب الحمل وسهر الليالي، وأصابعها لم تعد بها طاقة على تحمل أعباء غسيل الثياب لابن جديد بعد أن تقيحت والتهبت من كثرة ما تغسل لأسرتها وللناس، ودت لو أنها أسرت للرجل بكل ما يدور في فكرها من خواطر لكنها آثرت الصمت، استعذبت الالتصاق بصدره فاستكانت إليه وهى تحصي بخيالها أعداد النسوة اللاتي سيحضرن معزيات في يومي "الصبحة والثالث" وتفكر فى طلعة "القرافة" يوم الخميس الأولى لموت العجوز، وما يلزم هذه الطلعة من "حسنة" .. خيل إليها أن كل شيء يهون ويتدبر فى النهاية .. الحمل يهون، الرضاعة تهون، غسيل ثياب ابن جديد تهون، كل شيء فى الدنيا ممكن تدبيره وممكن أن يهون لكن الشيء الذي لا يمكن أن يهون أبدا هو طلعتها "القرافة" بيد فارغة .. والمشكلة كيف تستطيع أن تقنع الرجل بأن يتنازل عن أجر يوم أو يومين لتشترى العجوة وأرغفة الخبز وأكواز البطاطا لتوزعها على روح أبيه في الجبانة حتى لا تنظر إليها النسوة ويتقولن من وراء ظهرها ويتهمنها بأنها كانت تكره العجوز وتتمنى أن يأتي يومه قبل يومها، ولن تستطيع أن تدافع عن نفسها ويدها فارغة .. ثم طرأت على ذهنها فكرة، فماذا سيحدث لو لم تذهب إلى الجبانة أصلا .. تمنت لو استطاعت أن تسر للرجل بفكرتها الجديدة .. لكنها سألته في النهاية بصوت وجل:
ـ والحسنة .. حتكون أيه يا معلم؟
أجابها الرجل وهو غارق في أفكاره عن الكفن واليوم الضائع دون عمل:
ـ ولا حاجة.
ـ ولا حاجة ازاي؟
ـ زى ما بقولك.
ـ والجيران يقولوا إيه؟
ـ اللي يقولوه.
ـ يعنى يخلصك؟
ـ أيوه يخلصني.
وتصمت المرأة مقهورة، ويصمت الرجل .. ولكن فكرة دفن العجوز بدون كفن تظل تثقل على ذهنه، ويود لو شاركته المرأة أفكاره، ولكن جبن عن مكاشفتها بما يعتمل في صدره ويحاول أن يقنع نفسه بأن العجوز أبوه وهو ابنه ومن أجل هذا فهو حر فيه يدفنه بكفن جائز، من غير كفن جائز، لا يدفنه من أصله جائز .. ومن لا يعجبه الأمر يطق، يشرب من البحر المالح، ينطح رأسه في الصخر، ثم أنه لو نفذ هذا فلا العجوز سيبرد ولا سيموت من البرد فقد مات وانتهى الأمر، والحكاية في الآخر تساوى بعضها، الدود آكله آكله .. بكفن آكله .. من غير كفن آكله، والحي أبقى من الميت.
وسأل الرجل المرأة:
ـ يا ترى قفلت عينيه؟
ـ وأنا أعرف منين.
ـ وفردت أيديه ورجليه؟
ـ يعنى أنا كنت معاهم.
ـ مادهيه تسيبه مقرفص.
ـ وفيها أيه؟
ـ بتقولى فيها أيه؟
ـ أيوه وفيها أيه.
ـ ميدخلش النعش، ميتقفلش عليه.
ـ متخفش زمانها عملت كل حاجة، أمها ماتت قبل كده .. وهي عارفه.
ـ ولا متعملش، أهي برضه بنته وهى حرة فيه، تقفل عينه جايز، متقفلهاش جايز، تسيبه مقرفص، جايز، متسبهوش جايز، كل حاجة جايز .. سامعانى كويس يا وليه أنا بقول أيه .. كل شئ جايز .. فاهمه كل شئ جايز، جايز، جايز.
1967
نشرت بمجلة آخر ساعة ديسمبر 1969

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى