جمال الخياط - الغرفة الزجاجية.. قصة قصيرة

كذب ما يشيعون عنه

يقولون بأنه مات ، وبأن جسده النحيل قد تحلل واختلط بتراب الأرض ، ولكنني أراه كل يوم ينتفض من رقدته وهو بكامل عافيته ليصطحب حفيدته الى حديقة أحلامي ، ويتركها هناك تلهو وتلعب كطفلة صغيرة . عندما يتركها يكون قد قيدني في غرفة زجاجية لاأتصور لها حدوداً ، يقفلها بمفتاح صدىء ثم يخرج من أحلامي وهو مطمئن . وأظل أراقبها في ذهول وهي تمرر الألوان في مهارة على قماش أبيض لترسم صورة تخفي ملامحها عني . ترسم عالماً جديداً لايقدر على اكتشافه الجد الميت . وكالطائر السجين انكمش ولا أغرد للجمال ، والحب التي ترسمه هذه الفتاة الصغيرة ، المغرورة . أدور حول نفسي ، وفي النهاية ينال مني الأعياء فأسقط حزيناً.

ولا ينجدني أحد

عندما أستفيق لاأجد أثراً للقضبان الزجاجية ، ولا الفتاة . هناك أنقاض اللوحة ، ووجهي الممزق على قطع صغيرة من القماش ، وآثار أقدام كثيرة كانت تتفرج على لعبة مثيرة كنت بطلها الأوحد ، وعلامات ضرب مبرحة على يدي وقدمي ، وبصاق كثير الجزء الأعظم منه على جسدي والباقي على محيط دائرة من حولي . تشاءمت كثيراً من هذه الشواهد العشوائية . هذا الخليط في الحلم يعني أن حياتي المقبلة ستمر بأزمات ، وستتوقف رغماً عن ارادتها عند محطات شتى للألم.

وأستيقظت على الفور

كان الليل يختال عند منتصفه ، وكنت أسبح في عرقي . رأيت وجهي في مرآة الحمام، كان مجهداً ، وكانت تجاويفه يملؤها الخوف . غسلت وجهي عدة مرات بالماء البارد ، ولم تفلح هذه المحاولة في طرد الرهبة من نفسي . قررت أن أمدد جسدي على السرير دون أن أنام . شغلت نفسي بالتحديق في جدران غرفتي الصغيرة ، العارية . اكتشفت أن صورة الجد مازالت مطبوعة في خيالي ، في المرآة التي احتضنت وجهي منذ لحظات ، في الجدران المتشققة والتي لم تعد عارية بعد الآن.

اكتشفت بأنني مازلت نائماً

تمكن مني حلم الرجل العجوز وحفيدته الى الدرجة التي أتقن فيها خداعي وصدقت بأنني مستيقظ . كانت الصغيرة بارعة وهي تجرب شيئاً من سحر جدها على جسدي في نفس الغرفة الزجاجية ، يساعدها في ذلك الدخان الكثيف الذي كان يتدفق بأمرها من باطن الأرض ، وفرشاة ألوان غريبة تمسكها بكلتا يديها ، أشبه بمفتاح كبير. أنه يبدوكما لو أنه مفتاح غرفتي الذي أضعته صباح هذا اليوم في ظروف غامضة وغريبة.

إنه فعلاً مفتاح غرفتي

لاأدري كيف اختفى هذا المفتاح اللعين ، مفتاح في مثل حجمه وموقعه المميز في سلسلة المفاتيح لايمكن أن يضيع بمثل هذه السهولة . آخر مرة رأيته في الصحو كان ليلة البارحة قبل أن أنام ، وعند خروجي من البيت هذا الصباح لم أجده في موقعه في منتصف الترتيب بين بقية المفاتيح في السلسلة.
كيف وصل هذا المفتاح الى حلمي ؟ سؤال عادي للغاية لايثير أي غرابة في نفسي ، ولكن ما يحيرني هو كيف وصل الى يد هذه الفتاة المدهشة ؟ وكيف استقر في صندوق عجيب زاهي الألوان تحمله دائماً بحرص.

تقف الفتاة على حافة نافذة

في كل مرة تهرب من الغرفة الزجاجية تركض الى أقرب مبنى تصادفه ، وتصعد على الضباب حتى تتعلق في أعلى نافذة ، تجول ببصرها حتى تراني . ويحتار عقلي في فك هذا اللغز. هل تريدالإنتحار ؟ هل تهوى المغامرة ؟ ولماذا تتصرف بهذا الشكل وكأنها تمثل فيلماً سوريالياً ؟ إنها تقف بكبرياء ، واستقامة على حافة النافذة الرفيعة ويدها النحيفة ممدودة للأمام وهي ممسكة بذلك الصندوق العجيب . إنها لاتخشى الارتفاع ، ولا تنظر للأسفل بعد أن تلمحني . إنها تحدد بصرها باتجاه مستقيم ومن ثم تميل الصندوق قليلاً وكأنها تريدني أن أرى مفتاحي المتوهج.
ماذا يشغل بال هذه الصغيرة المعتوهة ؟ هل تريدني أن أحطم هذه الجدران الزجاجية وأهرع لألتقاط جسدها والصندوق عندما تقذف بنفسها من هذا العلو الشاهق ؟ لا أدري؟ ما يحيرني هو تصرفات ذلك العجوز الميت الذي سمح لحفيدته بممارسة الدهشة دون رقيب.

يغريني هذا الصندوق العجيب

خاصة وأنه يحتضن مفتاح غرفة نومي التي أحتفظ فيها بأسرار نفسي ، وحياتي . يكفي بأنني أصبحت سجين الغرفتين منذ ضياع المفتاح ، واذا كنت سأنتظر نتيجة طيش هذه الفتاة الصغيرة ستكون الغرفة الزجاجية تابوتي . كأن هذا الصندوق يدعوني الى امتلاكه ، وكأن الفتاة تشجعه على الطيران لكي يحط على يدي . وبين السحر والعجز أتأرجح وقدري أن أظل مثل الريشة تنقلها الريح من مكان لآخر.

وتناديني هذه الفتاة الصغيرة .. همساً

تقدم أيها الفارس الذي هزمت الوقت من أجل انتظاره . أيها الآخر الذي يحمل أحلامي . نحن الآن لا نحلم ، نحن نعيش لحظات حية من الواقع ، فتقدم نحوي ولا تخشى الحواجز والبلورات . أنت الفارس الذي تخطى الصعاب الكثيرة من أجلي ، وتحايل على مصائد كثيرة ، بدائية وخبيثة.
أنا هي تلك الفتاة التي تحلم بأن تخرجك من تابوت الأوهام ، وفي هذا الصندوق تستطيع أن ترمي بأحزانك ، وهمومك لتغدو في حالة سعيدة. في هذا العالم الموبوء لاشيء يستحق أن تحزن من أجله . أفعل ذلك من أجل نفسك قبل أن يكون تضحية كبيرة من أجلي.

نحن لا نحلم

كانت فتاتي في غاية السعادة وهي ترى صندوقها السحري يتمدد ، ويتمدد ، ويتمدد حتى سقط من يديها وانفجر في الفراغ . حسبت بأنني سألتقطها وأحميها من الأذى ، فإذا بها أمامي تفتح قلبها قبل ذراعيها لتهنئني . لقد أصبحت أخيراً طليقاً . رأيت في الصحو الغرفة الزجاجية وهي تقاوم التهشم ، فلم أكترث كثيراً . ولم أفكر أيضاً كيف تمكنت من الفرار . لابد أن بقية التفاصيل سيأتي ذكرها في حلم قادم لا أستعجله . أهدتني صندوقاً جديداً وطلبت مني أن أحتفظ به للأوقات العصيبة ، ورجتني بأن لايراه أحد ، وأن لا يعرف حقيقة وجوده أي كائن كان . أوصتني أن أعتني بنفسي كما لو أنها كانت بجانبي ، وأن أحرص علىعشائي، وأن لاينغصني أي شيء ، وأن أتناول دوائي بانتظام ، وأن أجلب السعادة ما استطعت الى أحلامي الكثيرة.

عدت مجدداً للغرفة الزجاجية

يجب أن أكون واقعياً ، وأتعامل مع هذه الزنزانة كما لو أنها ستكون مسكني الأبدي. لن أنسى في الحلم القادم أن أحضر معي أثاث غرفتي ، السرير المهترىء ، والشراشف الباهتة الألوان ، وخزانة الملابس الصغيرة . هذه هي محتويات غرفة الصحو التي لن أكتفي بها ، بل سأجلب معي بعضاً من التحف الفنية ، واللوحات التشكيلية المقلدة . سأجعل من هذه الزنزانة الكئيبة أجمل غرفة في الصحو والحلم . سأحضر السجادة الكشميرية التي أحتفظ بها للبيت الجديد أو زواجي ، أيهما أقرب ، وأفرشها في منتصف الزنزانة. سأحمل معي ما أراه ممكناً حتى أخفف من وطأة هذا الألم ، وسأمضي للوقت أسابقه على النهاية . سأحلم أن تكون لي حديقة أمام هذه الزنزانة الزجاجية ، وسأستمتع كثيراً وأنا أشاهد ندى الصباح يرويها بحب وحنان.

خيط رفيع يفصل بين الحلم والصحو لا أميزه

هذه لحظة اتصاري ، فالفتاة الصغيرة تقتحم عالمي وتدخل غرفتي الزجاجية . أنها تحمل حاجياتي وتبدأ بترتيب جنة صغيرة أعيش فيها ما تبقى من حلمي . تغير شكل الغرفة كثيراً ، ولم تعد تلك الزنزانة التي تبعث على السأم والوحدة . كان الخارج يبدو جميلاً أيضاً ، فقد كانت طبيعة خضراء خلابة تسرح فيها بهائم أليفة وأناس عاديون وبسطاء لايهتمون بتوافه البعض وخصوصياتهم .
اختفت فتاتي بعد أن هيأت لي المكان ، وقبل أن ترحل مع جدها العجوز تركت صندوقاً جديداً يتلألأ بداخله مفتاح غرفتي . كأنه يستنجدني ، أو كأنه عاتب على إهمالي لفقدانه . دنوت من السرير حيث يستقر الصندوق وأخذت المفتاح بحذر . أعتقد أن هذا مفتاحاً آخر يشبه مفتاحي الأصلي بالشكل فقط ، فهو ناعم الملمس وفسفوري وكأنه مفتاح زينة .

ما يحدث لي أشبه بقصص الأساطير

اعتقدت بأن الأوساخ علقت بالمفتاح لذلك نظفت سطحه بلطف عدة مرات ، فإذا بباب يتكشف لي ، مزين بنقوش شعبية ملونة . هاهي فرصتي المنتظرة تقترب ، ولاتفصلني عن حريتي الا بضع خطوات واثقة لاتأخذ من وقتي الا ثوان تافهة . أتمهل قليلاً بعد كل خطوة حتى تبقت الخطوة الأخيرة ، الخائفة . ربما سأغادر هذه الغرفة الزجاجية الى الأبد ، أو ربما سأعود . لاأدري فالقرار سيكون بيد الفتاة الصغيرة أو جدها الطيب اللذين وجدتهما بانتظاري في الحديقة .
لم يكن استقبالهما حافلاً كما أعتقدت ، ربما لأن أنتصاري كان باهتاً وأقل مما توقعاه. كانت فتاتي تحتمي خلف جدها كأي فتاة مؤدبة ومطيعة ، وكانت تنتظر أن يتكلم . ولم يخيب ظنها ، فقد أخرجت شفتاه الذابلتان كلاماً كثيراً دون صوت . كنت مبهوراً بجمال حفيدته التي بدأت تكبر ، وتكبر شيئاً فشيئاً حتى غدت أنثى ناضجة ينبض جسدها بالحيوية . لقد تغيرت ملامحها كثيراً ، ولم تعد تلك الصغيرة التي أمني نفسي بقبلة بريئة على مقدمة رأسها. كان لابد لهذه الجميلة الخرافية أن تتوارى عن ناظري لكي أحاول قراءة ما يقوله جدها حتى لايغضب مني وينتقم.

لا تفرح كثيراً أيها الغريب ،،

هذه هي الجملة الوحيدة التي قرأتها بشكل صحيح من فم العجوز ، ثم اجتهدت في تفسير باقي الحديث . أنا لم أتحرر تماماً من سجن الغرفة الزجاجية ، وإنما أحظى الآن بهدنة صغيرة أسبغتها علي حفيدته الجميلة أرتب فيها أوراقي المبعثرة . كأنه ينبهني الى أن لا أنتظر منه المعجزات الخارقة ، أو بعضاً من الأماني السحرية فهو يمارس دوراً محدوداً . ماذا يمكن لرجل ميت أن يفعل مع مخلوقين يصارعان الحياة من أجل أن يندمجا في ذاكرة واحدة ؟ لاشيء.
أنه فعلاً رجل ميت ودع حياة البشر لكنه أستطاع أن يظل حياً ويكبر في ذاكرة طفلة لاتريد أن تكبر أو تفارقه . أنه يحذرني - أنا الذي غدوت في نظره الغريب ، المغامر - من مهمة ليست باليسيرة في انتظاري . يدرك جيداً هذا العجوز الميت بأنني أريد أنتزاع بقعته في تلك الذاكرة الرائعة ، وأحلم أن أبقى صاحب الحضور الأكبر والأوحد هناك . أعلم أيها الجد الحنون بأن نجاحي في هذه المهمة المعقدة بشكل كبير يعتمد على أحساسي بأن هذه الحورية لم تخلق للألم أو التعاسة ، وأنها خلقت لكي تفتح أشرعتها للحب والصفاء.

دخلت الى الغرفة الزجاجية بمحض ارادتي

تركتهما يمضيان الى بقعة مجهولة واستلقيت على السرير بحثاً عن حلم يعيد الى حياتي التوازن . كنت أفكر كثيراً في الأحلام ، فيما يمكن أن تفعله أو تحققه في حياتي أو حياة الآخرين . لايمكن للأحلام أن تتحقق ، أو تفرض سطوتها على حياتنا ، لكنها يمكن أن تعشش في ذاكرتنا فتحبطنا أو تحفزنا للتفاعل مع واقعنا . وأنا مستلقٍ على هذا السرير زارتني أحلام كثيرة وغريبة كانت الجميلة فيه بطلتها الخالدة . أحببت الكثير منها لأنه تقربني من هذه الفتاة الأسطورية ، ولكن هناك حلم واحد أفزعني من مكاني وجعلني أبحث عن الباب الذي أختفى.
في منتصف الحلم كان المكان الذي يجمعنا مدينة تقع أزقتها على ساحل البحر ، وكنا نرتشف المتعة من البحر ثم نعود لنستريح على كراسي مقهى شعبي . تعرفنا على غرباء ، سواح حضروا ليشاركوننا متعة البحر والشمس . كان هناك شاب وسيم رافقنا أغلب الوقت حتى عرف كيف يصطاد فتاتي . وكانت المسكينة تحاول الابتعاد بأدب عن قبضته عندما حاولت اللجوء إلي.
لم تفلح شكواي لنادل المقهى أو لصبي صغير انتبهت الى أنه يرافقني . كان الشاب الغريب بارعاً في خداعنا أجمعين ، وكان يظفر بمصاحبتها طوال الوقت دون أن يعطيني الفرصة لمحادثتها أو تنبيهها . ثم اختفى فجأة . أخذ معه البحر والشمس والمتعة والأشياء الجميلة وحبيبتي الموعودة . بقيت وحدي مع الأزقة والرطوبة والصغير الذي يشبهني.

واستيقظت فزعاً

كان العرق يهطل من وجهي ، وكنت أتنفس بصعوبة وبصوت قوي يبعث على الخوف . لم أتصور في لحظة من اللحظات أن يختطف أي مخلوق فتاة أحلامي . كنت دائماً أعلن استعدادي للموت في سبيل الحفاظ على هذه الرائعة التي تطرز أيامي بالأمل والرجاء . رأيت وجهي في مرآة الحمام ، كان مجهداً ، وكانت تجاويفه يملؤها الخوف. وكانت الجميلة خلفي تمسح آثار الخوف وتزرع الطمأنينة في مسامي . أخذتني من يدي الى الخارج حيث لم يكن هناك الا أنا ، وهي ، والفراغ الذي يشهد على خلوتنا ، ويكتم أسرارنا . كان الصندوق العجيب بحوزتها وكان مفتوحاً على أخره ، لكن المفتاح لم يكن يأخذ مكانه المعتاد. كانت تبتدع حركات أشبه بألاعيب الحواة المحترفين . أخرجت من الصندوق أموالاً كثيرة ، وملابس فاخرة ، وساعات ثمينة ، وسيارات فارهة ، وأشياء كثيرة يسيل لها اللعاب استقرت جميعها تحت قدمي . رفضت كل تلك المتع وقربتها من ذراعي.
للمرة الأولى أدقق في ملامح وجهها ، انه طفولي ويبعث على الاشتياق . كانت عندي أمنية واحدة لاغير ، أمنية بسيطة لاتحتاج الى معجزة أو سحر . كنت أريد أن أحتويها بين ذراعي وأشعر بدفئها ، ثم أقبلها على رأسها.

كل الأماني الجميلة لا تتحقق

هربت جميلتي الى حلم جديد ، وربما تدخل جدها العجوز في الوقت المناسب خوفاً عليها من تهوري، لاأدري ؟ كل الأحلام تؤدي الى الغرفة الزجاجية التي أرجع اليها في نهاية المطاف . هذه المرة كان الخارج مليئاً بالناس الذين أعرفهم . كانوا يؤدون حياتهم بشكل طبيعي غير منتبهين للسجين الذي يقبع في زنزانة زجاجية جميلة الشكل . كانوا يتمادون أحياناً ويعرجون علي ويلقون علي التحية ويحادثونني في توافه كثيرة لاأهتم لها . وكنت أتصرف بشكل عادي لايثير الريبة أو الشك . في بعض الأحيان يبدو لي أنهم لايدركون بأنني سجين أتعذب وأنا أراهم يأتون ويذهبون مخترقين حواجز الغرفة الزجاجية التي تكبل حريتي ، ولايحسون بوجود هذه الغرفة ومحتوياتها.

الأحلام لاتتحقق

هكذا كان يقول الجد العجوز بعينيه من صورة فوتوغرافية معلقة على الجدار . هذا يعني أنني لن أموت في يوم من الأيام في حادث سقوط طائرة نفاثة وسط الصحراء ، وأن حفيدته الجميلة لن تسقط من قمة بناية شاهقة ، كما تقول دفاتر الأحلام.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى