حسين الجاف - حكاية الرجل الغامض ذو العينين الملونتين.. قصة قصيرة

لم اعرف عنه شيئا سوى انه زارني بالدائرة عندما كنت مسؤولها الاكبر.. مرة او مرتين او ثلاث لا اكثر لاسداء بعض الخدمات البسيطة له والتي كانت بالتأكيد قانونية.. لتسهيل امر نقل قريب له على وفق الضوابط او للاجابة عن بعض الامور المتعلقة بالدراسات العليا.. فيما يخص حصة دائرتنا السنوية منها التي لم يعطه المسؤولون الاخرون في الجهات العليا الاكثر تخصصا اجابة واضحة له عنها.. كان رجلا قصيرا نحيفا هادئا خفيض الصوت قليل الكلام غامضا اسمر البشرة حييا ذا عينين صغيرتين ملونتين وحتى هذه اللحظة لم اعرف كيف تعرف الي وعن اي طريق ومن ذا الذي كان سببا في معرفته بي.. وكثيرا ما كنت اتساءل مع نفسي عندما كان يراجعني بالدائرة والحظ على وجهه تلك الغيمة القاتمة من الغموض.. ترى ما سبب هذا الغموض؟ على اية حال وبعد ذلك وفي ليلة غاب عنها القمر وعندما كنت عائدا من سهرة جميلة في بيت احد الاصدقاء وكنت لحظتها اسوق سيارتي الحديثة الانيقة وانا في حالة انشاء طاغية لممت عن بعد ومن خلال المرآة الداخلية لسيارتي – سيارة رباعية الدفع – سوداء اللون او هكذا بدت في ظلمة الشارع الطويل تسير خلفي بسرعة وكأنها تتعقبني فشعرت لحظتها بشيء من الخوف ودارت في رأسي ونفسي افكار غريبة عدة وللحظة سهوت وفقدت السيطرة على المقود فاصطدمت باحدى علامات الدلالة على الطريق.. وفي الحال ضغطت على الفرامل باقصى ما اتمكن من قوة لتقف السيارة راسا بعد ان اكملت دورتين او ثلاث حولها فتوقفت فورا فتحسست وجهي ورأسي ولما لم يكن ثمة دماء نازفة حمدت الله على سلامتي وعلى الا ضرر جسدي حصل لي فترجلت من السيارة بهدوء فرأيت الامر عاديا تماماسوى تهشم علامة الدلالة الفوسفورية المتنقلة الموضوعة على قارعة الطريق وهي مصنوعة من البلاستيك فشكرت الله مضاعفا وفي اقل من لمح البصر وجدت نفسي مطوقا بمجموعة من سيارات النجدة والمرور وهي تطلق صفاراتها المزعجة وتملأ المكان بالاضوية الدوارة لتستفز هدوء الليل في الطريق السريع الحديث التبليط بشكل فوضوي ثم هبط من سيارة النجدة ضابط وسيم شاب في مقتبل العمر.. ليحييني ويقول: سلامات سلامات الحمد الله لا اضرار الحمد لله على سلامتك.. وعلى الرغم من لطفه الشديد في التعامل معي ومع الحدث المروري فقد كان خوفي من ان يصطحبني معه الى مركز الشرطة ليسجل مخالفة مرورية ضدي.. ومن ثم احالتي الى مختبر احدى المستشفيات القريبة لمعرفة درجة السكر وتأثير الكحول علي وانا اقود سيارتي باقصى سرعة وهذه مخالفة صريحة لقوانين السلامة المرورية.. وسيترتب عليها كذا وكذا من العقوبات الرادعة.. كان خوفي شديدا من هذه المساءلة فقط.. هذه الافكار المخيفة دارت في رأسي خلال تلك الدقائق القليلة التي اعقبت الحادثة التي مرت وكأنها ساعات طويلة وعندما لحظ الضابط اناقتي وابهة مظهري وسيارتي الفخمة ولربما وسامتي ايضا ادرك بالفطرة باني لست انسانا عاديا لذلك كانت ردود فعله على مخالفين هادئة ومنضبطة جدا على غير عادتهم في مثل هذه الحالات المهددة لسلامة مرور المواطنين.. وعندما تقدم مني اكثر ولحظ ارتباكي ولربما حيرتي ايضا قال لي مرة اخرى استاذ الحمد لله ماكو شي سوى غرامة على تهشيم الدالة المرورية السيارة تفضل معنا الى مركز الشرطة لاستكمال اجراءات الغرامة (العبارة الاخيرة الذهاب معه الى مركز الشرطة (صعقتني صعقا) وقبل ان يكمل بقية كلامه معي توقف قرب سائق دراجة من افراد دورية تراقب الطريق السريع ليلا ونهارا لرصد المخالفات وتعقب المخالفين فترجل من الدراجة شرطي برتبة – كما لاحظت – وتقدم من الضابط وادى له التحية العسكرية بهيبة ملحوظة.. فرد عليه الضابط باحسن منها.. ثم تقدم منه وسلمه صورا لي وانا اقود السيارة بسرعة (130) كيلومتر/ ساعة وهذه مخالفة اخرى تضاف الى سلسلة المخالفات التي ارتكبتها تلك الليلة. مخالفة صريحة لتعليمات السير على الطريق السريع اذ يجب الا تتجاوز سرعة السيارة عن مئة كيلومتر في الساعة كأقصى حد لها وهذه هي المخالفة رقم (3) بعد مخالفتي في قيادة السيارة وانا في حالة سكر وتهشيمي للدالة المرورية الرسمية (وهي من املاك الدولة) لحظتها شعرت بخدر شديد يهجم على قدمي كدت من اثره اقع على الارض من شدته.. وعندئذ فقط ابتسم الضابط ثانية وقال: اردت ان الملم الموضوع هنا لكن المسألة كما يبدو كبرت لذا اعتذر لك واقول: يتوجب علي اصطحابك الى مركز الشرطة القريب لتسجيل دعوى ضدك وما ان اكمل عبارته الاخيرة حتى خارت قواي شاعرا بدوار شديد فتهاويت لاقع على الارض على قفاي فاقدا الوعي ويظهر ان الضابط الشهم استنفر كل رجال النجدة والمرور الموجودين في المكان لحملي الى داخل السيارة ومن ثم الذهاب الى المستشفى القريب.. وبسرعة فائقة صحوت من اغمائي لاجد نفسي على سرير ابيض في مستشفى نظيف جدا وانيق جدا مما اعطاني الانطباع بانه اهلي وخاص لكن مع ذلك لم يغادر رأسي الدوار الشديد.. فاصبحت على غير يقين تماما مما يحدث حولي.. حيث تجمع مجموعة من الاطباء ومساعديهم وضابط الشرطة ورجل المرور الذي جلب الصور.. كانت الامور تجري وكأنها شريط سينمائي يعمل على شاشة نظيفة انيقة وبين الغفلة واليقظة والصحوة وفقدان الوعي، شقت مسامعي شبه المعطلة عبارات قصيرة ذات دلالة.. على لسان ضابط الشرطة وهو ينظر بابتسامته عريضة الي: انتهى الموضوع واغلقت القضية اذ تم تسديد الغرامة ودفعت قائمة الخدمات الطبية التي حظيت بها هنا وهنا انتبهت راسا.. ونظرت الى الساعة المعلقة على الحائط الابيض الناصع امامي.. فوجدتها تقترب من الرابعة صباحا.. ثم تحسست وجود الهاتف النقال فوجدته مغلقا وبعد ان اعدت الحياة اليه تراشقت علي عشرات المكالمات من اسرتي واهلي واقاربي تستفسر عن سبب تأخري الى هذه الساعة المتأخرة من هزيع الليل خارج البيت.. وعندما اطمأنوا علي حمدوا الله على سلامتي.. واعدا اياهم بان عودتي الى البيت مرهونة بمسافة الطريق.. اثلجت كلمات الضابط الشهم صدري.. فشعرت بعودة الحياة الى مفاصلي مجددا فنهضت من السرير لارى ضابط الشرطة يتقدم نحوي بسرعة ليعينني على النهوض عندها فقط قلت له: لطفا من قام بتسديد الغرامة ودفع اجور المستشفى وقدم لي كل هذه التسهيلات مشكورا فضحك الضابط ملء فمه وقال: بسيطة لا عليك فكل شيء انتهى مثل ما تحب ولما سألته بلهفة وكيف؟ اطلعني على صورة مكبرة للسيارة السريعة الفخمة الانيقة التي كانت تتعقبني على الطريق السريع بسرعة كبيرة فاذا بي وجها لوجه مع صورة الرجل الغريب الغامض ذي العينين الملونتين يقود سيارته خلفي باقصى سرعة فاجأتني الصورة وبخاصة عندما اكمل الضابط المعلومة التي اراد ان يبلغني بها: معاليه تكلف بالامر واصر على تسديد كافة التكاليف شخصيا.. وطلب الينا كتمان الامر لكني فقط ساطلعك على صورته.. دون ان اخبرك باسمه ليلة سعيدة.. انتهى كل شيء وعدت الى البيت سالما غانما لارى كل افراد العائلة وقسما من ابناء العشيرة قد تجمعوا في الدار.. قلقين حائرين متسائلين عن سبب التأخير لكنهم في الاخير حمدوا الله على سلامتي.. لم التق بالرجل المعني مرة اخرى رغم مرور سنوات طويلة ولم اعرف شيئا مطلقا عن حيثياته وكنه عمله ومازال السؤال يبحث عن اجابة في نفسي حتى اللحظة ترى من هو الرجل القصير الاسمر اللون الغامض الهادئ قليل الكلام ذو العينين الصغيرتين الملونتين؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى