عبدالحليم عمرالفاروق - وقت مثالي

كان الوقتُ مثالياً للحصول على البركات ، سماء مرصعة بندف السحب البيضاء ، تتخللها أشعة الشمس كانما بداخلها قناديل صغيرة . يجلس تحتها حشد من الرجال والنساء والأطفال ، تهلل الوجوه فتنطلق الأجساد برهة في ملكوتها الخاص ثم تستكين ؛ تشكر لتلك النسائم التي تعُم المكان .. إبتسامات يتبادلها الجيرة في مجلسهم ممدين أرجلهم في إسترخاء على تلك الابسطة الزاهية .

تقترب التي تغيرت وتلونت سحناتها في سرعة ملحوظة ؛ حتى يخيل للرائي أنها سترتطم بالرؤوس قريباً ! تطلعت إليها العيون في لهفة قلقة ، والقلوب تلهج بخفقات سريعة مغلفة بالإثارة والحيرة معاً .

كان الوقت مهيئاً كعروس ترقب زفافها ، ويقارب الصبر عن الافلات منها . كانت الارض مهيئة لذلك ؛ فقد تم إبعاد كل ما كان يكدر صفاء المكان ، وصفت الأنفس ، وتعلقت بأمجاد علية ، ودنت من إبرام كل الصفقات المؤجلة .

عشرون عاماً مرت منذ أن كانت هذه الأرض مغطاة بالتعب ؛ كأنما كانت الشياطين تلعب بهم كدمى بالية ، فتمسرح المكان لنزاع ضارٍبين الإخوة ، مئات الارواح أُزهقت وُمزقت اجسادها .. الآلآف من اليتامى يسوحون في الارض ، أعينهم تفيض بالدمع والدم . حتى أنه يقال : بكاء الأطفال يسمع كالدوي ؛ كانما يتمثل كل هذا البكاء ليلاً ويحتشد ويتجسد في شكل كائن غريب يحوم في سماء المكان ويصب كل هذا النشيج ، والانين ، والخوف في الشوارع ، والبيوت ، والقلوب ، فتسهر المدينة ليلةُ إثر ليلة بكائهم أثار السكان وأطلق خوفهم من مكمنه ، فلم يكفوا عن الشكوى ولم ييأسوا حتى تم نقل دار الأيتام ، وبقيت الربوة التي كانت فيها مشرفة عليهم كندبة سودا .. تذكر السكان بماضيهم الدامس ، وليالي الأرق الطويلة .

النسمات ما زالت تترى ؛ فيبتسم الصغار في سرور ووداعة .. وصوت الإمام يهنئ الجمع الكريم بالعيد السعيد ، وبليالي السعادة ، والهناء المرتقب والجميع يقول (آمين ) في حماس . كان الوقتُ مثاليُ ليتحقق ما يقوله الإمام ؛ فتتنزل البركات كهدايا تلمسها الاْيدي وتتزوقها القلوب .. موجة هائلة من الحنين تخيم في سماوات ما بينهم . والسحب تقترب ، تهدجت الأنفاس ، والوله يعصف بالقلوب الواجفة ، فكلهم آنئذٍ بين راجف وراجفة ؛ جوقة دروايش تُبغي الإندغام في اللحنِ السماوي ، لكنه يأبى عليهم فيشتد الحنين والأنين ، وتتصدّر اللوعات المشهد ، العمائم المطرزة ، والجلابيب الناصعة ، وثياب النساء الزاهية الطرزة بالكشمير . كان الوقت مثالياً جداً لتقبل كل ما هو غريب وجميل . عندها سُمع أصوات نباح ، وحمحمة خيول ، وصلصلة أجراس كألف الف جرس ترن وتئن في آن . تقترب الأصوات في سرعة ويا لهول ما رأت العيون ؛ عشرات الكلاب ، بل مئات إذا شئنا الدقة ومثلها من الخيل والأجراس حول أعناقها تجر خلفها عربات حديدية ملأى باناس شاحبي الوجوه يرتدون العمائم ، ونساء يلتحفن الملاءات بنفس ألوان العمائم حمراء بلون الدم، تختلط أصواتهم مع نباح الكلاب الحاد وصهيل الخيل المهيب ؛ مما شكل سيمفونية من الرعب الخالص .. الإمام سقط مغشياً عليه عندما راى جاره وشريكه في التجاره الذي شبع موتاً وقام .. وكذلك فعل اكثرهم . السيل كاسح والجمع كثيرٌ كثير ؛ يتجهون إليهم في سرعة .. احاطوا بهم من كل ناحية وصوب حتى بال الاطفال على ثيابهم .. أغمض الكل .. الكلاب ، والخيول ، والعربات المجرورة ، العمائم والملاءات ، الصراخ والنباح ، جاثوا فيما بينهم .. عبروا من خلالهم ، إمتزجوا بخلاياهم خلية خلية ، كل هذا في لحيظات بدت كدهر .. وتلاشوا كما لم يكونوا .

بدأ الكل يدور في مكانه كدرويش يبحث عن الإنفلات عن لحظة ما . تدور الامكنة والازمنة ، الصدور تسمع لها قرقرة كانما تصدر من تجاويف فارغة تتخللها تيارات هواء عابثة .. اصوات اخرى تقترب في سرعة ، ثم رويداً رويداً تكشف عن نفسها .. توقفت الحركة .

أصوات اليتامى تاتي تقترب ثم تحتشد كأنما يرتلون نشيداً تليداً ؛ بدت للجمع المغيب تراتيل الخلاص . تقترب السحب أكثر ، رزاز خفيف يلامس الوجوه .. يتقدم الاطفال اليتامى .. يقفون خلف الإمام لوقت قصير ، ثم يجلسون في تتابع ، تنظر العيون إليهم لبرهةً .. تستكين قليلاً .. يجلس جميعهم .. ينظر الامام هنا وهناك .. الاعين تتطلع إليه .. كان الوقتُ مثالياً لبداية جديدة ؛ ادخل خطابه القديم في جيبه وشرع يتلو خطاباً جديداً كان الوقتُ مثالياً لذلك .

عبدالحليم عمرالفاروق



7/9/2016م .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى