كاهنة عباس - الهامش والمركز

المركز هو الدّائرة الّتي تتوسّط مكان ما ، المحور الذي تنطلق منه الأشياء وإليه تعود ، لذلك كان لكلّ جسم مركزه ، تنبع منه الحياة لتشعّ وتتوزّع .
وهو أيضا ما يشدّ انتباه النّاس ويستقطب اهتماماتهم، سواء في المكان أوفي الزّمان في السّياق أوفي الذّاكرة ، فالمركز متعدّد المناطق والصيغ والأشكال والمحتوى ، في معناه المجازي أو المباشر، لا محور أصليّ يعرّفه .
فمن منظور صوفيّ ، هو القلب النّابض عشقا حتّى الصّفاء ، لأنّ الوجد كان أصل الكائنات التي انبعثت في لحظة شوق وهيام ، أما المنظور الفلسفيّ ، فيعتبر العقل مصدر للمعرفة ، لقدرته المستمرّة اللاّمتناهية على التساؤل والبحث قصد بلوغ الحقيقة ورفع الحجب ، بينما انتهى الفنّانون إلى القول، بأن العقل والقلب لا ينفصلان، لأنّهما معا منبع الإلهام والإبداع، بتواصلهما نحتت آلاف المرايا شكلا وكلمة، لتخلق للوجود معنى وتاريخ وذاكرة .
أما الهامش فهو الحاشية : أي الموقع الجانبيّ الّذي لا يرى ولا يدرك ، إذا ما عرفناه استنادا إلى المكان، فهو إمّا طرفه الأقصى أو الحدّ الفاصل بين منطقة وأخرى ،وإذا ما عرفناه مجازا ، فهو التّابع الّذي لا وجود له ،بذاته ومن ذاته .
لأنّ الأرض تدور، فيوم يحلّ ويوم يزول ، ما من مركز مستقرّ ولا من هامش على حاله لا يتغيّر ،و لا من توقّف للمدّ وللحزر بين المركز والهامش أبدا.
أمّا الأغرب من عدم استقرار كلّ من المركز والهامش ،فهو أن يحلّ كلّ منهما محلّ الآخر، بأن يصبح المركز هامشا والهامش مركزا . لقد كان تاريخ الشعوب ،يلخّص في عدد الشهداء أثناء المعارك الحربيّة أومن فاز بها ،فإذا بالشعوب تصبح مركز ما يقال وما يذاع، و كانت العلوم هوامش لأفكار غريبة ،لا يمكن الاعتداد بها لدحض ثوابت عصر ما، ثم أصبحت منبع الحقائق وأكثرها يقينا ، وأكبر المنجزات الفنيّة كانت خوارق يخشاها فنانو بلاط السلطان فيحجبون أصحابها ، فأصبحت تحتلّ أكبر المتاحف في أكبر عواصم الدنيا، بل وحتّى الرّسل والأنبياء كانوا مضطهدين، قبل أن تصبح رسالتهم بداية للتّاريخ ومرجعا للمعتقدات والأديان .
كيف يتقدّم الهامش ليحتلّ المركز ،وكيف يضحى المركز هامشا منسيّا خارج دائرة الاهتمام؟
قد يكون تراكم الهوامش وما تحمله من وقائع وحقائق وضعف المراكز وما يسكنها من أوهام السّلطة ، وقد تكون المسافة الفاصلة بينهما، تلك الّتي تجعل المهمّشين رغم ما قيل وما يقال، هم القادرون على رؤية ما لا يرى ، إذ يعجز من يتصدّر المركز ،على أن يجيل بنظره وأن يكون ملمّا بمن هم حوله ، فإن وجّه نظره إلى الشّمال ،لن يرى الجنوب ،وإن وجّهه إلى الشّرق لن يرى الغرب ، أمّا من اختار المكوث بإحدى الزوايا الهامشيّة، فقد يكون الأقدر على الاستشراف والاكتشاف والدراية بما يدور أمامه .
لذلك يستنجد من يحتلّ المركز لسلطته أو ماله أو شهرته أو علمه، بمن يحمي ظهره ويرشده عن موقعه الحقيقيّ ، فقد تجعله مركزيّته غريبا عن نفسه ، يراها في هيئة خرافيّة بطوليّة ، تأثّرا بموقع ونظرة المحيطين به ،حتّى إذا ما كتب له أن يغادر المركز ،عزّ عليه أن يكتشف ضعفها ووهنها ووحدتها ، إنّها الدراما الّتي ما فتأت تتكرّر يوما بعد يوم، لترشدنا عن خواء ذواتنا وتورّمها وتعلّقها بموقع ما ، إما لأنّها سعت إليه ، أو لرميها في ظروف واعتبارات معيّنة في مركز ما.
ليست هذه الصّور الوحيدة لثنائيّة الهامش والمركز، فللكتابة مثلا هامشها أي تفاسيرها وتآويلها ، تكتب على متن النّصوص لبيان المعاني المتقلّبة المتّصلة بالزّمان ، كي تنير قراءتنا ، فكل مفسّر أو مؤّول ، ما إن يشرع في تفسير النص أو تأويله ، حتّى يصبح صاحب سلطة ،لا يمتلكها غيره من أصحاب النّفوذ قضاة كانوا أم حكام أم قادة .
فالمعنى هو روح الكلام ومرماه ، الطّاقة الّتي تحرّكه ، يتجلّى في ما يكتب دون أن يرى، فيتّخذ هيكل النّص في بعده المباشر وغير المباشر، إنّه شبيه بالبحر ،في احتلاله الحاشية عمقا وسرّا وامتدادا وتحولاّ، إذا غادرها ليصبح معلوما وواضحا فيتصدّر المركز ،لم يكتب له أن يعيش طويلا ، فالأسرار فحسب هي الباقية ،لا تبليها الشّموس ولا الأمطار ولا الرّياح ، موصدة الأبواب تحتفظ بمفاتيحها إلى حين، وعلاقة المعنى بالكلمات، مثل الرّوح الّتي تبقى حبيسة الجسد، إذا غادرته فقد الحياة .
ثمّ إنّ النّص هو من ينقل الذّاكرة والتّاريخ والقيم والأنظمة ،ذلك المسافر المهاجر بين العصور، لا يستقرّ لا في المكان ولا في الزّمان ، لعلّه المؤسّس لمركزيّة الإنسان ، تلك الّتي جعلت الجبال والغابات والصحاري والبحار وجلّ الكائنات تحيا على هامش مدننا الصاخبة .
خارج النّصوص وما احتوت ، وضع نظام لا يجيز الوجود إلّا للأقوى ، يشير إلى أنّ الهامش وكلّ ما نسي و طمس ، قد يكون الأصل ، أما المراكز فغالبا ما ترتادها صور متعاقبة ، فصورة تظهر وصورة تغيب ، لقد فقدت المراكز أمكنتها ،لتتحوّل إلى صور تصنع ......

كاهنة عباس
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى